أعادت الاعتداءات الدامية في باريس التساؤلات حول الدين الإسلامي والتوتر التاريخي بين الغرب والإسلام. وتصاعدت التحليلات في فرنسا لفهم خلفيات الأعمال الإرهابية التي أصابت الجمهورية الفرنسية وإرثها العلماني المتراكم.
عملت السلطات الفرنسية على الفصل بين الجالية المسلمة في فرنسا والجهاد التكفيري/ المعولم. فيما حاولت بعض الآراء الترويج لمقولات صدامية، في استعادة لأطروحة الكاتب الأميركي صموئيل هنتنغتون «صراع الحضارات»، بهدف القول: إن ثمة صداماً بين الحضارتين الأوروبية والإسلامية ينهض على اختلاف واضح على مستوى القيم والمفاهيم والرؤية للعالم.
وتحت سؤال: «ماذا حدث في باريس؟»، تفاعلت الإشكاليات المضمَرة ومحاولات الفهم، وأتت ردة الفعل من قبل النخب الثقافية الفرنسية هادئة ـ عموماً ـ مقارنة ببعض الكتابات الأميركية (من دون تعميم) التي تلت أحداث الحادي من أيلول 2001، حيث برز كتّاب يحاولون تكريس خطّ التصدّع الثقافي بين الإسلام والغرب، بينهم مارتن كريمر (صهيوني النزعة) صاحب كتاب «أبراج عاجية على الرمال: فشل الدراسات الشرق أوسطية في الولايات المتحدة»، الذي حذّر من نفوذ إيديولوجيا ما بعد الاستعمار التي أسس لها إدوارد سعيد، وهاجم وجهات النظر التي ترفض اعتبار المسلمين أعداءً للغرب والحضارة والحداثة. كما نشر دانييل بايبس (أحد أقطاب المحافظين الجدد في أميركا ومن أبرز المعادين للإسلام) كتاب «الإسلام العسكري يصل إلى أميركا»، اعتبر فيه أن الحركات الإسلامية هي الخطر الفاشي أو الشيوعية الجديدة التي تهدد الولايات المتحدة، وهي برأيه تماثل الأيديولوجيات التي انتشرت في العالم خلال القرن العشرين مثل الفاشية والنازية والماركسية اللينينية، مؤكداً أن الإسلام كله أصولي. وفي تحليل، آخر نظّر بينامين باربر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيويورك، إلى 11 أيلول من زاوية وجود صراع كوني بين قوى الجهاد والثقافة الرأسمالية الكونية الغربية. ويقصد بالجهاد هنا مجمل القوى المضادة للحداثة وفي طليعتها الأصولية الإسلامية، ولكن ليس هي فقط، فالأصولية اليهودية أو المسيحية أو الهندوسية أو غيرها تكره الحداثة وفلسفة التنوير، مثلها في ذلك مثل الأصولية الإسلامية» (راجع: هاشم صالح، معضلة الأصولية الإسلامية، دار الطليعة، 2006).
فرنسياً، لم تكن التحولات الدائرة في الشرق الأوسط منذ سبعينيات القرن المنصرم بعيدة من التحليل. أصدر عالم الاجتماع الفرنسي أوليفيه كاريه (Olivier Carré) عملاً مشتركاً مع كلير بريار (Claire Brière) حمل عنوان (Islam: guerre à l›Occident?) (1983) «الإسلام حرب على الغرب»، عالج فيه مجموعة من قضايا حول الإسلام المعاصر: تصاعد الإسلام الأصولي والتطرف الديني و «الثورة الإسلامية» في إيران واغتيال الرئيس أنور السادات من قبل «الجماعة الإسلامية» في مصر، ومدى تأثير هذه المتغيرات السياسية وغيرها على الجالية المسلمة في فرنسا، لا سيما في الضواحي الباريسية، القضية القديمة الجديدة.
تنظر الأقليات إلى نفسها ـ غالباً ـ في ظل التهميش والاستلاب الثقاقي والديني، كفئات مجتمعية منفصلة عن جذورها. ولاحظ الباحث الفرنسي أوليفيه روا في كتابه «نحو إسلام أوروبي» أن الإسلام الأوروبي المتبلور خارج «ثقافات المنشأ» إسلام «أقلوي سكانياً وسيبقى كذلك» لكنه إسلام قلق «من دون سلطة سياسية»، يبحث عن هويته الدينية في فضاء علماني لا يكترث للدين. تشكل هذه الخلاصة عاملاً رئيساً من العوامل المكبوتة التي استنهضت الوعي الرسمي الفرنسي إثر أحداث «13 نوفمبر» المؤلمة، فبرز سؤال حول مدى تقبل المسلمين الفرنسيين لقيم الجمهورية الفرنسية بما يحتويه من إشكاليات الاندماج والهوية الدينية، وهو في العمق والبنية يتضمن حمولات ودلالات ثقافية، تسعى إلى استدراك المنظومات المتمايزة في الحاضرة الفرنسية والتي يُعبَّر عنها من خلال انتشار الرموز الدينية كالمساجد والحجاب والمناداة في تطبيق الشريعة الإسلامية.
لم تقارب الانتلجنسيا الفرنسية العلاقة بين الإسلام وأوروبا انطلاقاً من ثنائية ثقافية صدامية: «إما نحن وإما أنتم». ظهرت قراءات عدة لفلاسفة وعلماء اجتماع وباحثين في شؤون الشرق الأوسط، حاولوا فهم الظاهرة الجهادية المعولمة. الفيلسوف الفرنسي ميشال أونفري (Michel Onfray) شدّد «على العامل الفكري (...) بقوله ليس الجهاديون ذئاباً متوحّدة، ولا هم مختلو العقل أو مرضى لا أمل من شفائهم، وإنما هم جماعة يدافعون عن الأمة الإسلامية ولهم لاهوتهم وإيديولوجيتهم وخططهم» (راجع: علي حرب: فرنسا ضحية ميزتها وحريتها، ملحق النهار الأسبوعي، 5 كانون الأول، 2015). إلاّ أن بعض الكتّاب لم ينظر إلى المشكلة من هذه الزاوية، وتمّ الربط بين العامل السياسي وتنامي الإرهاب. ففي مقالة تحت عنوان «سلام الشرق الأوسط مقابل وقف العنف في فرنسا»، رأى عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران أنه «إذا كان نمو الدولة الإسلامية («داعش») إسلامي المنشأ ويشكل أقلية شيطانية داخله تعتقد بأنها تحارب الشيطان المتمثل بالغرب، وتحديداً الأميركي، فلننتبه إلى أن الأخير كان الساحر الذي أخرج الوحش، عندما أرسل قواته المسلحة وأطلق لها العنان في المنطقة (...) لا نستطيع أن نشنّ الحرب على «داعش» وتدميره في فرنسا من خلال تحولنا إلى دولة بوليسية عسكرية. والسؤال يُطرح هنا: ماذا علينا أن نفعل كي نخوض حرباً فاعلة ضد «داعش»؟ الجواب بسيط: علينا تحقيق السلام في الشرق الأوسط. كي نربح الحرب في فرنسا علينا أن نربح السلام قبل ذلك في الشرق الأوسط» (راجع: إدغار موران، سلام الشرق الأوسط مقابل وقف العنف في فرنسا، جريدة السفير صفحة رأي، 28/١١/2015).
ستواجه فرنسا بعد الأحداث الإرهابية مشاكل مزمنة تتعلق بالأقليات والهجرات والإقصاء الاجتماعي ومحاربة التطرف والتهميش في الضواحي الباريسية. وفي مقابل كل هذه الاستحقاقات الفرنسية، من الأهمية النظر إلى الإرهاب الجهادي المعولم ضمن طبقات عدة شديدة التلاحم، سياسياً ودينياً وثقافياً؛ فالأزمة لا ترتبط بصراع الأفكار والمفاهيم بين الإسلام الراديكالي ـ الذي يشنّ حربه على المسلمين والحضارة الإسلامية أيضاً - وأوروبا الحداثة فقط، بل بضرورة إيلاء الإصلاح الديني في العالمين العربي والإسلامي الاهتمام المطلوب. والإصلاح يستدعي تنقية كتب التراث من الفقه الجهادي الذي يعتمد عليه «مقاولو الموت»، وتطوير مناهج التعليم الديني في المدارس والجامعات. فالفكر الإسلامي المتطرف ينمو في الأرضية التي تشيع فيها ثقافة اليأس والعنف الديني، من دون أن نغفل عن الطغيان السياسي كشريك أساسي في تغذية أذرع «الإسلام المحارب».
المصدر: السفير
https://telegram.me/buratha