تحاول السعودية ومن خلال حملةٍ ممنهجة، الترويج لعروبةٍ جديدة من صناعتها. عروبةٌ تتلاءم مع هوية الرياض وتؤمِّن لها دوراً قد يساهم في استمراريتها. في وقتٍ لا تُخفي السعودية علاقاتها بتل أبيب، وسعيها لضرب حركات المقاومة لا سيما حزب الله اللبناني. وهو الأمر الذي أعاد طرح قضية العروبة والهوية العربية، من باب معناها وحقيقتها. فهل تعني العروبة ضرب حركات المقاومة والتعامل مع واشنطن ومهادنة الكيان الإسرائيلي كما يفعل آل سعود؟ أم أنها عروبة الرياض الجديدة؟
من هنا كان لابد بإعادة عصف أفكار التاريخ، لعلنا نستطلع منه، دور السعودية في ضرب العروبة الحقيقية. بل إن العروبة التي تحاول الرياض اليوم الترويج لها، هي أبعد ما يكون عن الهوية العربية، كونها لا تنطلق من مبادىء القومية العربية، والتي أطلقها الزعماء المناضلون العرب، وفي مقدمتهم الزعيم العربي الراحل “جمال عبد الناصر”. وهنا نُعيد للأذهان، ذكر بعض الحقائق:
منذ خمسينات القرن الماضي، كانت التيارات القومية والتي تُعرف بتيارات اليسار في السعودية، تجهد لتحقيق الحلم العربي القائم على محاربة الإستعمار أو الإنتداب الغربي، لتنطلق في الرياض أصواتٌ تجتمع على هدف القومية العربية. لكن هذه الأصوات لم تكن رسمية، بل كانت تيارات شعبية. فيما قامت حينها السلطات السعودية، بمحاربة ذلك. لتجعل السجن مصير كل من يُنادي بالعروبة أو القومية العربية. ولعل حادثة 1956 والمعروفة بتحركات عمال ارامكو، كانت نموذجاً لذلك. حينها رفض العمال ما اعتبروه في ذلك الوقت استعماراً أمريكياً، وطالبوا بمنع تحول الشركة للنفوذ الأمريكي. قامت الرياض بقمع المظاهرات ومحاولة إنهاء الحراك. لكن الأسباب حينها كانت معروفة. فشعار العروبة أو القومية العربية لن يُساهم في تمدد السعودية بل يُشكل خطراً عليها، لا سيما بسبب العقد السياسي الذي وقَّعته مع واشنطن.
وهنا فإن الحديث عن قمع السعودية للعروبة طويل. في حين لا بد من ذكر بعض الحقائق التاريخية والتي ترتبط بأزمة اليوم وسياسة الرياض. ولعل الهدف السعودي بضرب النفوذ السوري المصري في نهاية خمسينات القرن الماضي، يُشكل بحد ذاته دليلاُ يُشبه ما يجري اليوم. فشعار القومية الذي جمع الطرفين المصري والسوري، شكَّل خطراً على نفوذ الرياض. مما هدد دورها الإقليمي، فحاربت الوحدة المصرية السورية.
ولعل ذلك ما يُبرِّر الحرب على الأطراف التي كانت في ذلك الوقت شريكاً أو صديقاً للإتحاد السوفياتي، وهي مصر وسوريا، وبين الطرف الذي شكَّل رأس حربة السياسة الأمريكية أي السعودية. فكان لا بد حينها من ضرب الزعيم العربي “جمال عبد الناصر”، وبالتالي ضرب الشعار العروبي معه. مما يؤسس لواقعٍ عربيٍ فارغٍ من الشعور بالإنتماء لما يُسمى الهوية العربية. فيفقد حينها المواطن العربي الدافع للتآلف والتلاقي. وبالتالي يبدأ التأسيس لأرضيةٍ تُساهم في بث التفرقة وهو ما يسمح للرياض في تأمين استمراريتها، إذ أنها مشروعٌ تجاريٌ لواشنطن، لا يمكن أن يستمر إلا بتعزيز غريزة المصلحة، وتفكيك الساحات العربية. حينها تم نقل العرب من العروبة الحقيقية الى ساحات الإنقسام والنزاع.
ولعل الأخطر في ذلك، كان التأسيس للإسلام الوهابي، كبديل عن العروبة. فأصبحت السعودية تستخدم الإسلام كسيفٍ دينيٍ للإستقطاب، الأمر الذي أسس لواقعٍ لا يمت للإسلام بصلة. بل خرَّج تياراتٍ تكفيرية، ساهمت في تفكيك الأنظمة في الماضي، وهي تقوم بالدور ذاته اليوم. كما كان لها الدور الأهم في إسقاط الإتحاد السوفيتي. لتُحقق الرياض حينها نجاحها الأهم، في تعزيز الواقع الذي يعتمد على التكفير، وتفكيك المجتمعات العربية، وبالتالي تأمين الحاجة للخارج. وهو ما يخدم واشنطن.
وهنا بناءاً لما تقدم، يمكن الإستنتاج بأن السعودية كانت وما تزال رأس حربة السياسة الأمريكية والصهيونية لتأمين ركيزة القوة الأمريكية في المنطقة. ومن هنا فإن سعي الرياض لضرب حركة عبد الناصر والوحدة السورية المصرية، كانت تهدف لتعزيز دور السعودية من جهة، وكسر كل ما قد يُساهم في تعزيز دور الإتحاد السوفياتي. وبالتالي فإن هذه الأداة الأمريكية والتي تُدعى الرياض، ما تزال تقوم بنفس الوظيفة اليوم. ولأنه لا يتسع المجال لذكر كل الحقائق، فإننا ننتقل لما يجري اليوم على الساحة الإقليمية وتحديداً محاولة استهداف حزب الله اللبناني. وهنا نُشير للتالي:
في الوقت الذي حاربت فيه الرياض كل القوميين العرب، وساهمت في إفراغ الدول والأنظمة العربية من جوهرها وهويتها العربية، تسعى الرياض اليوم للعب على الوتر القومي. وهي ومنذ حربها على اليمن، سارعت لجعل المعركة مقاومةً للنفوذ الإيراني. لكن حزب الله اللبناني وتحديداً عبر أمينه العام، كسر توقعات المخططين للفتنة، وصرَّح في خطابه الشهير بعد أيامٍ من العدوان، بأن الرياض تخطت كل الخطوط الحمراء، وها هي بعد أن باعت القضية الفلسطينية، تقوم بسحق الشعب اليمني العربي. وهو الأمر الذي ساهم في خسارة الرياض حينها، لقدرتها على توجيه الرأي العام تجاه مشروع الفتنة القومية.
من جهةٍ أخرى، فإن الدور الفاعل لحزب الله، في تثبيت مشروع المقاومة، وجعل القضية الفلسطينية أساس الصراع، وجعله أيضاً سبباً لقتاله في سوريا بإعتبار أن التنظيمات التكفيرية تخدم المشروع الصهيوني، أدى هذا الدور الى خسارة السعودية لرهاناتها في سوريا أيضاً.
كما أن محاولة الرياض تأجيج الشارع الشيعي، بعد اغتيال “الشيخ النمر”، جوبهت بوعيٍ كبير لدى المسلمين كافةً، وفي مقدمتهم إيران كدولة وحزب الله في لبنان كطرف. الأمر الذي أسقط من جديد مشروع الفتنة.
إذن إن المشكلة مع حزب الله ليست مشكلة عروبة. بل إن سلاح العروبة هو الأكثر ديناميكيةً لخدمة المشروع السعودي. فالرياض خسرت كل أوراقها. ولم تعد تملك إلا ورقة التحريض القومي بعد أن فشلت في التحريض المذهبي. في حين يختلف الوضع اليوم، عن حقبة الخمسينات من القرن الماضي. حينها استطاعت السعودية كسر الوحدة العربية بعد أن استخدمت سلاح التقسيم والفتنة في ظل واقعٍ يفتقد للمقدرات التي يمكن أن تواجه المشروع الأمريكي السعودي. أما السعودية اليوم، فقد فشلت في كافة الملفات الموكلة اليها من قبل واشنطن، لا سيما سوريا واليمن. كما أن الوضع الإقليمي لحزب الله والوضع الدولي لإيران يختلف، في ظل رفضٍ أمريكي لإغضاب حزب الله في لبنان، أو إيران في الإقليم والعالم. في حين يجب الأخذ بعين الإعتبار التنسيق الخطير والعلني، بين الرياض وتل أبيب، وما قد ينتج عنه. فأين هي العروبة السعودية، في ظل تناغمٍ مع الطرف الإسرائيلي؟ وهل تريد السعودية عرباً يبيعون القضية الفلسطينية على الطريقة العبرية؟
https://telegram.me/buratha