سامي كليب - السفير
يقول مسؤول سوري قريب من الرئيس بشار الأسد، «إن القرار الروسي بالانسحاب العسكري جاء بتنسيق كامل مع دمشق، وأنه يصب في صالح تعزيز دور الدولة السورية في المرحلة المقبلة، ويساعد في إقناع المعارضة وداعميها بقبول حل سياسي يتفق مع مفهوم الدولة والسيادة والتخلي بالتالي عن أوراق الإرهاب والدعم الخارجي وغيرها، ويعيد للسوريين حرية اختيار مستقبلهم والتخفيف من مغالاة المطالب».
يذهب المسؤول السوري نفسه أبعد من ذلك في القول: «إن التفاهم الأميركي الروسي يصب أصلاً في اتجاه الخيار الروسي المتفق عليه مع دمشق، أي حماية الدولة السورية وتعزيز دور الجيش والمؤسسات واستكمال الحرب على الإرهاب، ولذلك فإن موسكو لم تمارس أي ضغط على القيادة السورية وإنما تطلق مبادرات لتسهيل الحل السياسي وإحراج الخصوم ما يخدم بالتالي المصلحة السورية العليا».
تبدو القيادة السورية بعد مفاجأة الرئيس فلاديمير بوتين بالانسحاب العسكري، أكثر هدوءاً ويقيناً من مختلف ردود الفعل التي صوّرت الأمر وكأنه ابتعاد روسي عن قيادة الرئيس بشار الأسد، وتؤكد أن الاتفاق تام بين البلدين وأنه في أفضل مراحله، وأن الإعلان عنه جاء ثمرة تفاهم بين الأسد وبوتين.
هذه الأجواء التي سارعت القيادة السورية إلى نشرها فور إعلان الكرملين والذي تبعه مباشرة إعلان الرئاسة السورية لتوضيح خطوة الانسحاب العسكري تستند إلى المقومات التالية:
÷ أولاً: إن الانسحاب ليس تاماً، ذلك أن القاعدتين العسكريتين الروسيتين في طرطوس وحميميم مستمرتان في العمل، ولن يتغير في عملهما أي شيء لجهة ضرب الإرهاب وحماية الدولة السورية بالتنسيق مع هذه الدولة.
÷ ثانياً: إن النواة الصلبة لهذه القوات الروسية، والمتمثلة بمستشارين وضباط ارتباط ومشرفين على القاعدتين وقوات مراقبة وحماية وجهوزية للتدخل، لن تتغير، ذلك أنها تدخل في السياق العسكري الروسي الاستراتيجي ولا تتعلق بفعل ورد فعل. فبوتين لم ينخرط كل هذا الانخراط العسكري والسياسي في سوريا لكي ينسحب بهذه البساطة ويترك خلفه بؤرة وفخاخاً ضد مصالح بلاده.
÷ ثالثاً: إن الهدف السياسي السوري الروسي مشترك، يتمثل بحماية الدولة السورية واستعادة دورها وتعزيز قدرات الجيش واستئناف عمل المؤسسات وحماية الحدود وضرب كل ما من شأنه إعاقة ذلك، فإذا تحقق ذلك بالسياسة وبأقل تكاليف عسكرية ممكنة فهذا أفضل.
÷ رابعاً: تريد القيادة السورية تسهيل الدور الدولي والإقليمي لروسيا لجهة إقناع الخصوم الدوليين والإقليميين والمحليين بالحوار السوري السوري وتعزيز المصالحات، ولذلك فإنها لن تعرقل أي خطوة روسية حتى ولو كانت وجهة نظر القيادة في بعض المرات غير متفقة تماماً مع النظرة الروسية. حصل هذا في المفاوضات السابقة، وحصل أيضاً في وقف إطلاق النار وفي القيام بخطوات داخلية لتعزيز الموقف الروسي.
÷ خامساً: جاء القرار العسكري الروسي، بعد الاطمئنان على قدرة الدولة السورية في التعامل مستقبلاً مع الأوضاع، لكن هذا لا يمنع تدخلاً روسياً إذا اقتضى الأمر.
استناداً إلى ما تقدم، فإن القيادة السورية تدرك أن هذه «القنبلة» السياسية التي فجّرها بوتين على خلفية عسكرية، تريد وضع الخصوم أمام خيار محدد: فإما يقبلون بالحل السياسي الذي يعيد للسوريين الإشراف على مستقبلهم وينزع فتيل التدخل الخارجي ويتخلى عن الشرط المسبق لرحيل الأسد في المرحلة الانتقالية، أو يتعطل المسار السياسي ويتحمل الطرف الآخر مسؤولية التعطيل وما بعده. فهذه القنبلة ستسمح لبوتين بحرية مفاوضات أكبر مع دول الخليج مثلاً، وتجبر تركيا على التراجع، وتزيد التأييد الغربي للدور الروسي وتُشرك أطرافاً معارضة وكرداً في مفاوضات جنيف بحيث لا يقتصر الأمر على «الهيئة العليا» للمعارضة والقريبة من الرياض وأنقرة.
هل تفاؤل القيادة السورية في محله؟
أظهرت توضيحات الكرملين أمس بشأن قرار بوتين، أن موسكو لم تغيّر موقفها من تحالفها الحالي مع النظام. فقد نفى مسؤولو الكرملين وجود أي رغبة بالضغط على الأسد، وكشفوا عن استمرار قوات روسية في قاعدتي حميميم وطرطوس وقوات أخرى للحماية.
من الطبيعي ألا يضحي بوتين بكل ما حققه حتى الآن من خلال انخراطه في الحرب السورية. فهو كان ولا يزال يعتبر سوريا الورقة الأهم في استراتيجيته في الشرق الأوسط. لم يظهر حتى الآن أية بادرة تشير إلى أن طرفاً آخر غير القيادة السورية الحالية قادر على ضمان المصالح الروسية. كما أن بوتين ليس واثقاً من مرحلة ما بعد إدارة باراك أوباما لجهة استمرار التوافق أو انفراط عقده.
هذا يريح القيادة السورية التي قالت مراراً إن التحالف الاستراتيجي الذي عقده الأسد مع بوتين منذ العام 2007، ليس أمراً عابراً.
لكن تطور المسار السياسي، سيدفع حتماً القيادة الروسية إلى إقناع حليفها السوري بتنازلات ليس على مستوى التخلي عن الرئاسة أو صلاحياتها، وإنما في سياق إشراك المعارضة في الحكومة المقبلة والانتخابات البرلمانية وإطلاق سراح الأسرى وتعزيز المصالحات وغيرها وتعديل طبيعة النظام. هذا يفترض تنازلات مسبقة من قبل أطراف أخرى في المنطقة وفي مقدمها السعودية وتركيا، وحتى الآن لم يظهر شيء بعد في هذا السياق.
ماذا عن إيران؟
لا شك أن إيران التي استنزفت عسكرياً ومالياً في سوريا ترغب هي الأخرى بالحصول على نتائج عبر السياسة بدلاً من دفع تكاليف عسكرية باهظة، بشرية ومادية، مباشرة أو من خلال حليفها «حزب الله». ولذلك فهي تعمل جاهدة في مجال المصالحات. ولا شك أيضاً أن التحالف الاستراتيجي الذي ترسخ بين بوتين ومرشد الثورة السيد علي خامنئي في خلال لقائهما الأخير في طهران، ليس أمراً عابراً أو خاضعاً لاهتزازات كبيرة، ذلك أن المصالح كبيرة بينهما في المنطقة ولكن أيضاً في محيط بحر قزوين ومنظمة شنغهاي وآسيا والقوقاز وغيرها. لكن طهران قد تكون أكثر من القيادة السورية توجساً حيال روسيا. فالتسريبات عن الفدرالية تعني قيام دولة كردية مزعجة لإيران وتركيا بالرغم من العلاقة الممتازة حالياً بين الكرد وطهران. واحتمالات إشراك قوات عربية أو إقليمية لاحقاً بالتحالف الدولي ضد الإرهاب في سوريا، يعني إضعاف الدور الإيراني. وثمة اعتقاد بأن تعزيز روسيا لدور الدولة السورية يهدف أيضاً إلى تخفيف للحضور الإيراني خصوصاً بعدما تبيّن أن قيادات عسكرية سورية تبدو أكثر راحة في التعامل مع ضباط روس من التعامل مع قيادات إيرانية. ثم أن الخطوة العسكرية الروسية سترفع سقف المطالبات الخليجية والدولية بإخراج إيران و «حزب الله» من سوريا.
لكن ثمة رأياً آخر يقول إن ما يحصل حالياً في اليمن لجهة إنهاء الحرب هناك والتقريب بين الحوثيين والسعودية، يفترض حلاً سياسياً سورياً لصالح الأسد وحلفائه، فالاتفاق في اليمن يتمحور حالياً حول 3 أهداف وفق مصادر مطلعة: أولها ضمانات لحماية الحدود، وثانيها ضمانات لمنع إطلاق صواريخ باليستية على السعودية، وثالثها إخراج المستشارين الإيرانيين، وهذا يفترض قبولاً إيرانياً. ثم أن الدول الغربية رفضت مؤخراً اقتراحاً تقدم به اللواء علي محسن الأحمر لإقناع الجيش التابع للرئيس علي عبد الله صالح والمتحالف مع الحوثيين، بإلقاء سلاحه في مناطق الجنوب. جاء الرفض انطلاقاً من خشية أن تعم الفوضى الأمنية ويخترق إرهابيو القاعدة عاصمة الجنوب. كل ذلك يفترض، إذن، تفاهماً دولياً وتشجيعاً للحوار السعودي الإيراني. ولا يمكن لإيران أن تقبل بكل ذلك إن لم يكن لها ثمن في مكان آخر، خصوصاً أن المرحلة المقبلة ستشهد تفاقماً للضغوط عليها بذريعة الأسلحة الباليستية.
بالمختصر، تبدو «القنبلة العسكرية» الروسية «قنبلة سياسية» بامتياز خلطت الكثير من الأوراق، وهي إذ تقلق بعض الحلفاء وتفاجئهم، إلا أنها لا شك تضع الخصوم أمام وضع أكثر إثارة للقلق، ذلك أنه كلما تعاظم الدور الروسي كلما شعر خصوم الأسد بأن الحرب السورية قد تنتهي لصالحه، أو على الأقل لصالح النظام السوري الحالي وحلفائه.
لكن ماذا لو أن بوتين اتفق فعلياً مع أوباما على تقاسم النفوذ وتكريس خطوط التماس العسكري الحالية في سوريا خطوط تماس سياسية؟ السؤال مطروح لكن لا أحد يملك الإجابة عليه إلا بوتين وأوباما. فالحل في أوكرانيا كان بتقسيمها. وفي السياسات الدولية، تربح الدول الكبيرة، أما الدول الصغيرة فتتقاسم الخسائر وليس الأرباح، لكن القيادة السورية ومعها طهران و «حزب الله» يقولون: «أولاً إن بوتين لا يزال حليفاً ولم يخدع أياً من حلفائه منذ توليه السلطة، وثانياً إن في التحالف الروسي والسوري مصلحة استراتيجية للطرفين، وثالثاً ليس كل ما تقرره أميركا وغيرها قابلا للتحقيق والدليل أن الأسد لا يزال في السلطة والدولة لا تزال صامدة وتربح بعد 5 سنوات على الحرب وعلى المطالبة برحيل الرئيس.
هل القيادة السورية واقعية في تحليلها أم تغالي؟ لا شك أن الأسابيع المقبلة كفيلة بتقديم الكثير من الإجابات على ضوء ما سيحصل في جنيف.
https://telegram.me/buratha