صوفيا ـ جورج حداد
عشية انهيار الاتحاد السوفياتي وبالتزامن معه، اتجهت كل من أذربيجان وأرمينيا نحو الاستقلال.
وفي عام 1988 برزت مشكلة منطقة "ناغورني كاراباخ" ذات الحكم الذاتي. إذ ان المنطقة تقع جغرافيا ضمن المساحة الأذربيجانية، ولكن 95% من سكانها هم من القومية الأرمنية، وهم يرتبطون سياسيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا بارمينيا. وطوال اكثر من خمسة آلاف سنة كانت ناغورني كاراباخ جزءا لا يتجزأ من أرمينيا التاريخية. وخلال المرحلة السوفياتية وبعدها كان الاتصال الجغرافي بين "ناغورني كاراباخ" وارمينيا يتم عبر الأراضي الأذربيجانية ضمن منطقة مختلطة سكانيًّا كانت تسمى "المنطقة الآمنة".
وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي أجري استفتاء عام طالب سكان ناغورني كاراباخ بموجبه بالانضمام الى أرمينيا. وردا على ذلك بدأت أذربيجان حملة تطهير عرقيٍّ ضد الأرمن خصوصا في "المنطقة الآمنة" وكان هدفها الأبعد طرد جميع الأرمن الذين يبلغ تعدادهم اقل من 150 الفا من ناغورني كاراباخ والاستيلاء كليًّا على المقاطعة.
حرب 1988 ـ 1994 وهزيمة اذربيجان
ولكن سكان ناغورني كاراباخ حملوا السلاح ودافعوا عن انفسهم بمشاركة الجيش النظامي والمتطوعين من جمهورية أرمينيا. واستمرت الحرب بتقطع من 1988 حتى سنة 1994. وقد أيدت روسيا وايران الجانب الأرمني في تلك الحرب. وايدت اميركا وتركيا الجانب الاذربيجاني. ومع أن أذربيجان هي، جغرافيا وسكانيا، اكبر باضعاف من أرمينيا، وميزانيتها الحربية وحدها هي اكبر من اجمالي ميزانية أرمينيا، فقد أصيبت بهزيمة ساحقة في تلك الحرب اذ بلغت الخسائر البشرية الأرمنية والاذربيجانية نسبة 15. وكان الجيش الاذربيجاني حينذاك يضع نصب عينيه هدف مهاجمة "ستيباناكيرت" (عاصمة "ناغورني كاراباخ" ولكنه فشل فشلا ذريعا. وبالمقابل كان الجيش والمتطوعون الأرمن يستعدون لمهاجمة باكو عاصمة اذربيجان، وغسل أرجلهم في بحر قزوين. ولكن الحرب توقفت قبل ذلك تحت ضغط التدخلات الدولية، وخصوصا من قبل روسيا وايران اللتين كانتا تريدان وقف إراقة الدماء والتفاوض لأجل إيجاد حل سياسي سلمي للمشكلة. وقد ايدت تركيا وقف اطلاق النار لانها كانت تخشى أن تعمد أرمينيا (ومعها روسيا) الى طرح المشكلة الارمينية بكليتها والتي تعود جذورها الى العهد العثماني البغيض.
وقف اطلاق النار أنقذ أذربيجان من هزيمة شاملة
ويذكر المراقبون ان القرى والبلدات الأرمنية كانت تقيم الاحتفالات وتعقد حلقات الرقص والغناء والاناشيد والزغاريد لدى توديع الجنود النظاميين المدعويين للخدمة والمتطوعين، الذاهبين الى الحرب. ويفسر المراقبون هزيمة أذربيجان في تلك الحرب بأن الأرمن كانوا يدافعون عن ارضهم ووطنهم، في حين ان الجنود الاذربيجانيين كانوا يتراجعون ويولون الأدبار بسهولة لانهم كانوا يعرفون انهم لا يدافعون عن ارضهم بل عن ارض سبق لاسلافهم ان اغتصبوها. وقد تدخلت عدة دول أوروبية وتركيا وروسيا وضغطت على الطرفين لوقف تلك الحرب، وتشكلت هيئة دولية سميت "مجموعة مينسك"، انضمت اليها لاحقا الولايات المتحدة الأميركية للاشراف على الهدنة بين البلدين والسعي لايجاد حل سلمي للنزاع، وتترأس روسيا "مجموعة مينسك" بمشاركة اميركا وفرنسا.
انفصال ناغورني كاراباخ نهائيا عن اذربيجان
وقد أسفرت حرب 1988 ـ 1994 عن نتيجة سياسية واضحة هي ان ناغورني كاراباخ أعلنت نفسها كجمهورية مستقلة، بعد ان رفضت أرمينيا ضمها اليها. ولكن "جمهورية ناغورني كاراباخ" لم تحصل على الاعتراف من أي دولة في العالم، بما في ذلك أرمينيا التي لم تعترف بها رسميا. ولكن على أرض الواقع فإن أرمينيا تتعامل مع ناغورني كاراباخ في كل المجالات كجزء لا يتجزأ منها، بدون ان تعترف بها كدولة مستقلة. وفي حين تسعى جمهورية ناغورني كاراباخ للحصول على الاعتراف بها كدولة مستقلة اذا تعذر توحيدها مع أرمينيا، فإن دبلوماسية الجمهورية الأرمنية تسعى للحصول على موافقة المجتمع الدولي، بما في ذلك الجمهورية الاذربيجانية على الحل السلمي لمشكلة ناغورني كاراباخ ومنح شعبها حقّ تقرير المصير المعترف به دوليا، واجراء استفتاء باشراف الأمم المتحدة على هذا الأساس. وفي كل الأحوال فإن جمهورية أرمينيا تعتبر شعب ناغورني كاراباخ جزءا لا يتجزأ من الشعب الأرمني، واي عدوان على ناغورني كاراباخ يعتبر عدوانا على الجمهورية الأرمنية واستمرارا للظلم التاريخي وسياسة الإبادة التي مورست ضد الشعب الأرمني منذ أيام السلطنة العثمانية وخلفائها. وفي هذا الموقف الوطني، والمسؤول في آن واحد، تحظى أرمينيا بتأييد ودعم كل من روسيا وايران.
حالة اللاحرب واللاسلم
ومنذ 1994 حتى الامس القريب، حافظت الحدود بين أذربيجان وناغورني كاراباخ وأرمينيا على الهدوء، في حالة من اللاحرب واللاسلم بين الطرفين المتنازعين. الا ان مشكلة ناغورني كاراباخ ظلت كلغم لا يعرف احد متى وكيف ينفجر، او متى يتم نزع فتيله وتعطيله سلميا.
وفي ليلة الثاني من نيسان الجاري، وكصاعقة مفاجئة في سماء صافية، وبدون سابق انذار وبدون أي سبب مباشر، بدأت القوات الأذربيجانية هجوما غادرا ضد الجانب الأرمني، على امتداد خط المواجهة الرئيس في ناغورني كاراباخ، وشارك في الهجوم الطيران والمدرعات والمدفعية العادية والصاروخية. كما تم انزال قوات مغاوير خلف خط الجبهة. واستهدفت الحملة لا المواقع العسكرية الأرمنية فقط، بل والمدارس والمساكن المدنية. وقتل وجرح اعداد من الأولاد والمسنين الذين كانت تقطع وتؤخذ آذانهم (ربما للحصول على مكافآت مالية مقابلها) على طريقة الجرائم الوحشية لداعش واخواتها. الامر الذي ينبئ اما بمشاركة الداعشيين في العدوان، واما بأنه يجري تحويل الجيش النظامي الاذربيجاني الى جيش داعشي، أو أنهما الحالتان معا. وهذا يعني انه يجري العمل لتحويل أذربيجان الى قاعدة إرهابية، مما يشكل خطرا ليس على أرمينيا وحدها، بل وعلى ايران وروسيا وأوروبا كلها.
وكان ردُّ الجانب الأرمني حازما وسريعا: "الدفاع عن ارض الوطن". واستنفر الجيش النظامي الذي انضم اليه الوف المتطوعين، وتم قطع الطريق على الهجوم وشن هجوم مضاد. ووقفت الكنيسة فورا الى جانب قضية الدفاع عن الوطن، وسار رجال الدين بأرديتهم الكهنوتية وهم يحملون البنادق جنبًا الى جنب مع الجنود.
واستمر الاشتباك أربعة أيام، بالقصف الجوي والمدفعي. واوقف بطلب من موسكو.
والسؤال هو: لماذا تقدم أذربيجان على هذه المغامرة غير معروفة العواقب بالنسبة لها أولا؟
ولمحاولة الإجابة على هذا السؤال نطرح الوقائع التالية:
ـ1ـ ان الرئيس الاذربيجاني الهام علييف قام في أواسط اذار الماضي بزيارة انقرة لحضور الاجتماع الخامس لمجلس التعاون الاستراتيجي التركي – الأذربيجاني، واجتمع على انفراد مع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان. وبالطبع ان الاثنين هما "محشوران في الزاوية" بالنسبة للمسألة الأرمنية. ويرجح ان علييف استجاب لطلب اردوغان الالتحاق بتركيا على قاعدة اصولهما الطورانية، و"دعوشة" أذربيجان (على الطريقة التركية) لمواجهة "الحصار" الأرمني ـ الإيراني ـ الروسي لاذربيجان؟
ـ2ـ في الأول من نيسان الجاري افتتحت في واشنطن قمة الامن النووي الرابعة. وكان الرئيس الهام علييف مشاركًا فيها. واتيحت له ولمرافقيه قبل وخلال هذه القمة الاجتماع مع كبار المسؤولين الاميركيين.
ولا يستبعد بعض المحللين ان يكون علييف "استشار" "الأصدقاء" الاميركيين في المشروع الطوراني "العثماني الجديد" لاردوغان، القاضي بـ"دعوشة" أذربيجان واشعال الحرب من جديد مع أرمينيا، الحليف الرئيس لروسيا في القوقاز، وحصل على الدعم الأميركي المطلوب، بهدف الهاء روسيا والضغط عليها وعلى ايران، حليفي أرمينيا، من اجل تقديم التنازلات في سوريا ولبنان والعراق واليمن، بعد ظهور فشل المخططات الأميركية في هذه البلدان، ناهيك عن الفشل في أوكرانيا.
من فمكم ندينكم
ومن المؤشرات التي تؤكد هذا الاستنتاج ردود الفعل في كل من موسكو، وواشنطن وانقرة فور وقوع العدوان الاذربيجاني الأخير، ونلخصها في ما يلي:
أولا ـ صرح دميتريي بسكوف، السكرتير الصحفي للكرملين، ان الرئيس بوتين قلق جدا من تجدد الاعمال الحربية على خطوط التماس بين أذربيجان وناغورني كاراباخ، وهو يدعو الطرفين للوقف الفوري لاطلاق النار والالتزام بضبط النفس.
ثانيا ـ اما جون كيربي، ممثل وزير الخارجية الأميركية جون كيري، فقد سارع الى التصريح، في بيان معد سلفا قبل ان تصل الى الوزارة التقارير عن طبيعة الاشتباكات: "ان وزير الخارجية (الأميركي) يدعم سلامة أراضي اذربيجان، ونحن قلقون من احداث العنف في المنطقة وعلى امتداد حدود الدولة".
ثالثا ـ اما الرئيس التركي "طيب الذكر" رجب طيب اردوغان فيبدو انه قضى ليلته ساهرا بانتظار "شيء ما"، لانه ـ وقبل ان يبان الخيط الأبيض من الخيط الأسود ـ فاجأ الصحفيين في صباح الأول من نيسان بالتصريح "اننا سنقف مع أذربيجان حتى النهاية"!
أرمينيا لن تسكت بعد الآن
ومن جهة ثانية فإن الرئيس الأرمني سيرج سارغسيان قد اتهم أذربيجان بالتحضير المسبق للعدوان بتحريض من تركيا. وقال انه اذا تطورت الاشتباكات الى حرب شاملة بين الطرفين فهذا يهدد ليس فقط أمن جنوبي القوقاز، بل وامن أوروبا أيضا التي تعرضت مؤخرا للهجمات الإرهابية. وفي مثل هذه الحالة فإن جمهورية ارمنية ستعترف رسميا بـ"جمهورية ناغورني كاراباخ".
روسيا تعزز وجودها العسكري في القاعدة الأرمنية
وفي هذا الوقت، وبدون أية ضجة استعراضية، تقوم روسيا بتعزيز وجودها العسكري في القاعدة العسكرية الروسية في أرمينيا، تحسبا لكل الاحتمالات. وقد اثبتت التجربة، في أوكرانيا وسوريا وغيرهما، انه من الصعب جدا "زكزكة" الدب الروسي، مهما ابدى من "طول الأناة" وضبط النفس والصبر.
*كاتب لبناني مستقل
https://telegram.me/buratha