بعد ما يقرب من 20 عاما من تحريضه على قصف يوغسلافيا، قام نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن بزيارة صربيا في مهمة مغايرة تماما.
بايدن، عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ في تسعينات القرن الماضي، كان من مؤيدي ليس فقط تسليح البوسنة، بل وقصف يوغسلافيا في واحدة من أوسع عمليات الناتو في البلقان، ما أسفر عن تفتيت يوغسلافيا إلى عدة دويلات لديها العديد من المشاكل والتناقضات التي تسمح بإشعال الأوضاع في أي لحظة.
جولة بايدن في البلقان لمدة ثلاثة أيام لفتت الأنظار إلى عودة اهتمام الولايات المتحدة بالدول التي ظهرت بعد انهيار يوغسلافيا تحت عجلات الآلة العسكرية الأمريكية – الأطلسية. وبدا جوزيف بايدن كـ "حمامة سلام" تدعو إلى الوحدة والتعاون بين دول أسستها الولايات المتحدة وأوروبا على الكراهية والتطرف أساسا.
نائب الرئيس الأمريكي اعتبر أنه ليس على صربيا أن تعترف باستقلال كوسوفو التي كانت من قبل إقليما تابعا لها، لتحصل على دعم واشنطن لها في محاولتها الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. بل وذهب إلى أن واشنطن ستساعد بلغراد على الانضمام إلى التحاد الأوروبي في حال "سمعت كلام واشنطن"، وأن العلاقات الأمريكية - الصربية رغم بعض الخلافات يمكن أن تتحسن. ووعد صربيا بلعب دور كبير في منطقة البلقان المضطربة.
المثير هنا أن بايدن نسي تماما أن الاضطراب القائم في منطقة البلقان لم يحدث مصادفة أو بفعل الكائنات الفضائية، بل بعد تدخل الناتو عسكريا في يوغسلافيا وتفتيتها إلى دويلات متصارعة. وبالتالي، يتولد انطباع بأن زيارة بايدن ليست بالضبط للم شمل دول البلقان، أو توحيدها في شكل أو منتدى، وإنما لأهداف أخرى تماما تتعلق بتوسع الناتو من جهة، وسعي واشنطن لدق بعض الأسافين في المنطقة من جهة أخرى، وبين روسيا وبعض دول البلقان، وعلى رأسها صربيا التي ترفض الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا، ولا تثق كثيرا في وعود الولايات المتحدة.
الرئيس الصربي بوريس تاديتش وصف المحادثات بأنها كانت "صريحة ومثمرة"، ولكنه أعرب عن أمله في "سياسة أمريكية جديدة إزاء صربيا وغرب البلقان تهتم بمصالح صربيا أكثر من ذي قبل"، مكررا أن بلاده لن تعترف باستقلال كوسوفو، ومشددا في الوقت نفسه على أن صربيا لها الحق القانوني في الدفاع عن وحدة أراضيها باستخدام الوسائل السلمية والدبلوماسية والقانونية.
بايدن كان قد أجرى مباحثات في البوسنة كمحطة أولى له في البلقان، ما يشير إلى أن هذه الجولة تهدف إلى إنعاش المصالح الأمريكية في المنطقة، تمهيدا لسناريوهات جديدة تتعلق بروسيا، وربما أيضا بتركيا الغاضبة من الولايات المتحدة وحلف الناتو. وليس مصادفة أن بايدن بالذات هو الذي سيزور أنقرة وسيجتمع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 24 أغسطس/ آب الحالي. ما يعني أن الولايات المتحدة تلوِّح لتركيا بورقة الاستغناء عنها والتوجه نحو البلقان، في حال أدارت أنقرة ظهرها لواشنطن.
وكانت المحطة الثالثة، هي كوسوفو غير المعترف بها، حيث طالب بايدن سلطاتها بتنفيذ الاتفاقات مع صربيا حول تشكيل رابطة المجتمعات الصربية والجبل الأسود (مونتينيغرو) وترسيم حدود ما وصفه بـ "الدولة". بل ودعا سلطات كوسوفو إلى عدم التمييز بين المواطنين وضرورة المساواة بينهم. وذلك في إشارة إلى اضطهاد الصرب، سواء في كوسوفو أو في البوسنة. وفي الوقت الذي أشار فيه بايدن إلى ضرورة مواصلة الحوار بين بريشتينا وبلغراد بوساطة بروكسل، وعد بمواصلة تقديم المساعدات إلى كوسوفو لكي تصبح في النهاية كاملة العضوية في الاتحاد الأوروبي. لكنه شدد على أنه ينبغي إشراك السلطات المحلية في مكافحة الفساد والجريمة المنظمة.
المسألة في كوسوفو لا تتعلق فقط بالجريمة المنظمة والفساد، بل تتعلق بدرجة أكبر بالتطرف والإرهاب. ووفقا لمقال، الكاتبة كارلوتا غال، نشرته صحيفة "نيويورك تايمز"، فكوسوفو خلال 17 عاما تحولت إلى منبع للتطرف ومصنع لتجنيد المتشددين والإرهابيين. وأشارت الكاتبة إلى أن هذا التحول الجذري جاء نتيجة لنفوذ وأموال عربية في كوسوفو بالإضافة إلى تواطؤ من قبل الولايات المتحدة.
مقال الكاتبة كارلوتا غال امتلأ بالمعلومات المهمة حول كوسوفو ودورها من جهة، وحول أنها أصبحت ضحية أيضا. حيث قالت "تجد كوسوفو حاليا، مثل أوروبا بأسرها، نفسها في مواجهة التهديد الذي يمثله المتطرفون. ومنذ عامين حددت شرطة البلاد هوية 314 مواطنا كوسوفيا، منهم انتحاريان قاما بتفجير نفسيهما، و44 امرأة و28 طفلا، تركوا البلاد للانضمام إلى صفوف تنظيم داعش، ويعد هذا الرقم الأكبر في أوروبا من حيث نسبته إلى عدد السكان...
وباستطلاع آراء المحققين في كوسوفو، تم التأكد من أن "هؤلاء الأشخاص تم حولوا إلى متطرفين ومجندين من قبل مجموعة رجال دين متشددين ومؤسسات سرية تمولها دول في منطقة الخليج باستخدام شبكة غامضة ومعقدة للتبرعات من الجمعيات الخيرية ورجال الأعمال من القطاع الخاص والوزارات الحكومية..
وقامت شرطة كوسوفو بعد عامين من التحقيقات بتوجيه اتهامات رسمية لـ67 شخصا، واعتقال 14 إماما وإغلاق 19 مؤسسة ومنظمة إسلامية على أنشطة ضد الدستور وبث الكراهية وتجنيد الإرهابيين".
وفي الوقت الراهن، تحتضن كوسوفو أكثر من 800 مسجد ومصلى، ومنها حوالي 240، بنيت خلال فترة ما بعد الحرب في المنطقة، ويتهمها الأئمة المعتدلون والمسؤولون الرسميون بتربية أجيال جديدة من المتطرفين. ولفتت "نيويورك تايمز" في هذا السياق إلى أن البرقيات الدبلوماسية السعودية، التي نشرها موقع ويكيليكس في العام 2015، وما كشفه عن وجود تنظيم في السعودية لتمويل المساجد والمراكز الإسلامية ورجال الدين يعم بلدان في آسيا وأفريقيا وأوروبا. وبلغ نفوذ رجال الدين المتشددين في كوسوفو ذروته بعد نشوب الحرب في سوريا، عندما بدأوا يحثون الشباب المحلي على التوجه إلى سوريا عبر خطاباتهم وعبر برامج الإذاعة والتلفزيون.
هنا يبرز سؤال تقليدي وطبيعي للغاية: لماذا لا تتخذ الولايات المتحدة، وهي الدولة التي أسهمت بشكل رئيس في تأسيس "كوسوفو" والاعتراف بها، أي خطوات من أجل عرقلة تحولها إلى معقل للمتطرفين في أوروبا؟
هذا السؤال يعيدنا إلى الأهداف الحقيقية لواشنطن من العودة مجددا إلى البلقان، ومحاولة استخدام كل الأوراق والأدوات لتسخين المنطقة التي كانت السبب الرئيس في اندلاع الحرب العالمية الثانية. أي أن تسخين هذه المنطقة، على الطريقة الأمريكية، قد يسفر عن عواقب وخيمة ليس فقط لروسيا، بل وأيضا لأوروبا، بينما الولايات المتحدة قابعة بعيدا وراء المحيط.
أشرف الصباغ
https://telegram.me/buratha