لطالما كانت العلاقة بين الحكومة السورية و"حزب الاتحاد الديمقراطي" الكردي (الجناح السوري لـ"حزب العمال الكردستاني") هي علاقة مصلحة متبادلة.
وقد فرضت هذه العلاقة طبيعة الصراعات والتحالفات في منطقة الجزيرة والشمال السوري عموما. وطيلة خمس سنوات جمع الطرفين تفاهم من نوع ما في أكثر من ملف وضد أكثر من عدو مشترك.
لكن هذه العلاقة كانت تحمل في طياتها بذور الانفكاك في أي لحظة عندما تتعارض الأهداف والرؤى والتحالفات. وهو ما بات جلياً في الآونة الأخيرة، حيث تباعدت المسارات بين الحكومة في دمشق و"حزب الاتحاد الديمقراطي" صاحب النفوذ الأقوى في الأوساط الكردية، وبات تعارض المصالح غالباً على التفاهم.
وظهرت الطموحات الكردية ونزعة الحزب الاستقلالية في وقت مبكر من الأزمة السورية، وتحديداً عند سيطرة "قوات الحماية الكردية" على حقول الرميلان النفطية في عام 2012، والتي جرت للمفارقة بدعم جوي من سلاح الجو السوري.
وبين دعم الطيران السوري لـ"وحدات الحماية الأهلية" - كما كانت تسميها دمشق - في عام 2012، وضرب الطيران نفسه مراكز "أسايش" الجناح العسكري لـ"حزب العمال الكردستاني" يومي الجمعة والسبت الماضيين؛ جرت الكثير من المياه في نفق العلاقة ، واستجدت الكثير من الأحداث ، وتضخمت نزعة الانفصال. وما كان مسكوتاً عنه من قبل الدولة السورية طيلة السنوات الماضية من عمر الحرب بحكم الواقعية السياسية، بات اليوم أبعد من أن يتم السكوت عنه بفعل الخطر الداهم.
وهكذا أعلنت دمشق في بيان عسكري نادر، ولكن مضبوط، أن الاعتداءات المتكررة على المواطنين والجيش العربي السوري هي من جانب الـ"أسايش" حصراً ولا علاقة لأي مكون سوري بها؛ مؤكدة في الوقت نفسه عزمها على "التصدي لمثل هذه الاعتداءات من أي جهة كانت، وبذل جميع الجهود الممكنة لعدم تفجر الوضع حفاظاً على وحدة أراضي سوريا وسلامة مواطنيها وأمنهم أينما كانوا".
إذاً، تركت دمشق الباب مفتوحاً لحل الأزمة الناشئة، محملةً الـ"أسايش" مسؤولية التصعيد، في دلالة على أن هناك شريحة واسعة من الكرد لا علاقة لها بحمى الانفصال والفدرلة، التي أصابت الجناح العسكري لحزب العمال.
فيما بعد تسربت أنباء عن اتفاق للتهدئة يوقف المواجهة المسلحة الهدنة أعادت إلى "الدفاع الوطني" المواقع التي فقدها خلال ستة أيام من الاشتباكات مع "أسايش" بما فيها الجزء الجنوبي من حي النشوة الشرقية، معهد المراقبين الفنيين، فرن الباسل، وكليتا الاقتصاد والهندسة، وفرع جامعة الفرات، ودوار الجندي المجهول على الأطراف الجنوبية لحي غويران.
ولكن، لم تمضِ ساعات على بدء الهدنة حتى عادت الاشتباكات من جديد صباح اليوم (22/08/2016)، فيما يوحي بأن هذه الهدنة الهشة لن تصمد لأكثر من سبب؛ فالأكراد المتوجسون من التفاهمات الجديدة يعملون على تأكيد حضورهم الأساس في الحسكة للقول إنهم لن يكونوا "كبش فداء" عند أول اتفاق بين الدول الفاعلة. أما الدولة السورية، فتعمل على تأكيد ثوابتها ــ وإن بالقوة ــ بأنها لن تتخلى عن أي منطقة لمشروعات تقسيمية قد تبدأ هنا وتفتح الشهية في غير مكان.
وإذا أخذنا العامل الأمريكي في هذه الأزمة، فيمكن أن نعلم مدى صعوبة الوصول إلى حل يرضي الطرفين، وبالأصح الأطراف الفاعلة في المشكلة.
فواشنطن التي سارعت إلى تحذير دمشق من التعرض لقواتها المرابطة قرب منطقة الاشتباكات، حركت طائراتها باتجاه الحسكة، وفُهمت رسالتها من قبل الأكراد التزاماً أمريكياً بحمايتهم إذا استدعى الأمر.
أما تركيا التي تواصل استدارتها في الملف السوري، فقد قطعت نصف الطريق عندما أعلنت على لسان رئيس حكومتها بن علي يلدريم تعقيباً على استهداف الطيران السوري لمراكز"أسايش" بأن دمشق فهمت أن الأكراد أصبحوا يشكلون تهديداً لسورية أيضاً".
تركيا نفسها اختارت، وفي رسالة بالغة الوضوح إلى الأكراد والأمريكان، التوجه إلى جرابلس، آخر معاقل "داعش" في الشمال الحلبي؛ حيث حشدت وحدات من الفصائل الموالية لها على خط الحدود مع جرابلس. وبحسب المعلومات، فإن الحشود تتركز على خط الحدود غرباً حتى بلدة الراعي وذلك لمنع "قوات سوريا الديمقراطية" ذات الغالبية الكردية من الوصول إلى هذا الممر الحيوي، والاستيلاء عليه، وتالياً لمنع الكرد من الوصول إلى عفرين، وربط المناطق التي يسيطرون عليها.
الهدنة في الحسكة هشة، وتنذر - حتى لو استعيدت من جديد - بعودة قريبة إلى الاشتباك طالما أن الأهداف أصبحت على هذه الدرجة من التناقض: طرف يسعى للانفصال، وطرف يرفضه جملةً وتفصيلاً.
وإذا كان من غير الواضح الى أين ستذهب الهدنة بالمواجهة بين الجيش السوري والأكراد، فإن أولى نتائجها مع تقدم المشروع الكردي نحو الفدرالية، دفع الأتراك والسوريين إلى التحدث في قناة سرية للمرة الأولى منذ صيف عام٢٠١١، عبر وصول مساعد لمدير الاستخبارات التركية حقان فيدان إلى دمشق، بحسب ما نقلت جريدة السفير عن "مصادر عربية مطلعة". الأتراك تلقوا الرسالة السورية ، والإجابات جاهزة أصلاً، في جرابلس أولاً. وما بعد جرابلس ستكشفه الأيام المقبلة.
علي حسون
https://telegram.me/buratha