تضطر "ام حسن" التي تسكن قرب احد المواقع النفطية، الى احتجاز احفادها من ابنائها الخمسة في غرفة واحدة من منزلها اذا كانت الرياح شرقية (الشرجية)، خفيفة السرعة، فجراء بطء الريح يستشعر سكان المنطقة التي تقطن فيها، رائحة النفط ويتنشقونها. وفي منطقة سكنية قريبة الى موقع نفطي آخر، يقول سائق سيارة اجرة، انه يجد على زجاج سيارته طبقة بيضاء او رمادية تشبه رماد الفحم عندما يصحو في الصباح، فيما تقول المعلمة زينب التي تسكن المنطقة ذاتها: لا يمكنني نشر ملابسي بعد غسلها، في باحة الدار، لأن الوانها – خاصة البيضاء منها - تتغير بفعل الأدخنة السابحة في الفضاء. في حين يشكو "ابو ناصر" الساكن في حي ليس ببعيد عن تلك المنطقة، ضيقاً في التنفس ولا يدري ان كان سبب هذا الضيق من تلوث الهواء بالغازات، لكنه اكد انه يصاب بالاختناق في بعض الايام.
تهديد دائم لصحة المواطنهذه الحالات الأربع، من بين اكثر من ثلاثين لقاء اجريناها مع مواطنين، يشتركون بها، ويسكنون في مناطق مختلفة، لكنها قريبة الى مواقع استخراج النفط وتصفيته، كلهم يعانون مرارة الفساد غير المباشر الذي نتناوله هنا والمتمثل بالملوثات النفطية للبيئة، والانبعاثات السامة التي تصاحب استخراج النفط الخام، وتصفيته، وبالمخلفات التي تتركها عمليتا الاستخراج والتصفية في الارض.كل اللقاءات اكدت هذه الحالات، الاختناق وصعوبة التنفس، تغير الوان الملابس اذا ما نشرت في الخارج بعد غسلها، الطبقات الرقيقة على زجاج السيارات، وحجز الاطفال عندما تكون الرياح شرقية او عند احراق الغازات والعناصر الكيميائية المصاحبة لاستخراج النفط من باطن الارض، وبما يعني ان هنالك اتفاقاً شعبياً، على حقيقة ان اهل البصرة يعيشون تهديداً صحياً بسبب استخراج النفط من حقولها وتصفيته. هذه الحقيقة، يتذبذب التعامل معها على المستوى الرسمي، فعلى الرغم من ان مستشفيات البصرة وعيادات اطبائها، شهدت قبل اجراء هذا التحقيق بفترة قصيرة، استقبال العديد من حالات الاختناق بسبب تلوث الجو، الا اننا لم نحصل على اجابة قاطعة بأن الانبعاثات الغازية المنطلقة من مواقع استخراج النفط، هي التي سببت الاختناقات. انذار الشركات العاملة.. هل يكفي؟ اذ قال السيد "احمد حنون" مدير دائرة بيئة البصرة: رصدت ملاكات دائر بيئة البصرة، من خلال الزيارات الميدانية، الكثير من المخالفات البيئية في المحافظة خصوصاً تلك التي تتمثل بالانبعاثات الغازية من حقول النفط والابار المستحدثة. مردفا: كذلك الانسكابات النفطية على مساحات واسعة من مناطق المدينة، لاسيما القريبة من المواقع النفطية. متابعا: وهذا ما دفعنا الى اتخاذ اجراءات قانونية ضد الشركات المخالفة.واضاف حنون: عمدنا الى انذار الشركات لازالة المخالفات وعدم تكرارها. مبينا انهم اتجهوا الى الاجراء القانوني الاعلى والمتمثل بفرض غرامات على المتسببين بالمخالفات. كما طالبوا على حد قول حنون الشركات بإزالة تلك المخالفات لاسيما وان الغرامات في القانون البيئي لا تغني عن إزالة المخالفة وانما تفرض نتيجة الضرر البيئي مع الإلزام بإزالة المخالفة اياً كان نوعها.صناعة نفطية متخلفة هذا تأكيد رسمي على ان في البصرة ملوثات وغازات سامة، واكثر من هذا ترتكب الشركات النفطية العاملة، المخالفات التي ينعكس تأثيرها سلباً على المواطن..السؤال هنا..هل استجابت الشركات المخالفة الى الاجراءات القانونية؟ قبل الاجابة على هذا السؤال، لنتعرف على اهم الملوثات النفطية لبيئة البصرة من باحثَين معنيين بهذا الشأن، احدهما ذهب الى ما هو ابعد من الخطر الصحي، حين أشّر هدراً رهيباً في الانتاج النفطي، وان هذا الهدر هو المتسبب في الخطر الصحي. يقول الدكتور "امجد صباح"، المتخصص باقتصاديات النفط: الملوث الاساس لجو البصرة هو الغاز الطبيعي المصاحب لاستخراج النفط والذي يحرق في الهواء، جراء تردي الصناعة النفطية. مضيفا: من المعروف ان انتاج النفط تصاحبه عادة كميات كبيرة من الغاز الطبيعي، ولذا يعزل الغاز عن النفط، هذا الغاز المعزول تستثمره الدول ذات الصناعة النفطية المحكمة، وتسوقه الى الدول التي تحتاجه. مستدركا: على عكس العراق الذي يحرق فيه الغاز المصاحب للنفط الخام في شعلات حرارية في حقول النفط، لان صناعته النفطية متردية، والشركات غير قادرة على معالجة مشكلة الغاز الطبيعي من ثم استثماره .رياح الجهات الأربع يتجلى حجم الخطر الصحي الذي يتهدد البصرة، في كميات النفط المنتجة ومقادير الغاز التي تصاحبها، وتحرق في الهواء، خاصة وان العلاقة طردية بين الاثنين. ففي البصرة كما يقول الدكتور امجد صباح: ثمة حقول في مجنون وغرب القرنة والزبير والرميلة ، وبما يعني ان البصرة تظل وسط التلوث البيئي، كيفما دارت الرياح. موضحا: وما حدث من مشاكل تنفسية عند بعض اهالي البصرة، سببه هذا التلوث، فالكميات التي تحرق من الغاز الطبيعي في اجواء البصرة، ضخمة جدا. ويعطي مثالاً بقوله: في عام 2014 بلغت قيمة الانتاج الكلي للغاز الطبيعي (21) مليار متر مكعب كلها أحرقت لأن لا امكانية في العراق لتسويقه بسبب تردي صناعة النفط كما قلت. مضيفا: والأخطر ان ازمة الغاز المحروق تتفاقم يوما بعد يوم، لاسيما وان مقادير الغاز التي تحرق الآن باتت اكبر بنحو مريع مع شركات جولات التراخيص التي تعاقدت معها وزارة النفط، والتي اوصلت الانتاج اليومي الى ثلاثة ملايين ومئتي الف برميل يومياً، بعد ان كان الانتاج مليوني برميل.الغازات السامة والاحتباس الحراري ما الذي يعنيه حرق المليارات من الامتار المكعبة من الغاز في سنة واحدة ؟..هذا السؤال قد يبدو بليدا.. لكن اجابته تكشف حجم الاهمال الحكومي ليس لصحة المواطن، او الصناعة النفطية حسب، وانما لثروة هائلة تتنازع عليها دول؟. الاجابة جاءت على لسان الدكتور "شكري ابراهيم الحسن"، المتخصص في مجال التلوث البيئي في جامعة البصرة والذي بين: تنبعث في الثانية الواحدة عند استخراج النفط، آلاف الأمتار المكعبة من الغازات السامة المتمثلة بالهايدروكاربونات وثاني اوكسيد الكبريت وثاني اوكسيد النايتروجين، ونتيجة حرق هذه الغازات، تتزايد كميات ثنائي اوكسيد الكاربون الذي يساهم في ارتفاع درجات حرارة الارض - الاحتباس الحراري - . وترتفع نسبة احادي اوكسيد الكاربون -وهو غاز قاتل - . مسترسلا: عند انتشار الهيدركاربونات في الجو فإنها تتفاعل مع اشعاعات الشمس فتتحول الى حامض النتريك المخفف وحامض الكبريتيك المخفف اللذين يذوبان في قطرات المطر لتكون النتيجة امطارا حامضية تحتوي على الاسددين وهذا ما لاحظناه في الفترة الاخيرة من جولات التراخيص. جولات التراخيص والأمطار الحامضيةواستطرد الحسن: ومن بين اسباب الاختناقات الاخيرة التي حدثت في البصرة، استنشاق عدد من سكانها لثنائي اوكسيد الكبريت المتبخر بعد سقوط الأمطار الحامضية على الارض، والتي تسبب مشكلات هائلة في التربة بعد تبخرها تنعكس بنحو سلبي كبير، على المواطنين عموما، والمصابين بامراض الحساسية او الربو او التهاب القصبات لأنهم اكثر عرضة للاصابة بحالات الاختناق. مشددا: نحن الان وسط كارثة يتنامى خطرها يوميا، لأن الغازات المنبعثة من آبار النفط تتزايد مع كل برميل يزيد في الانتاج، والمفارقة ان اية زيادة في الانتاج سيكون نفعها لصالح شركات جولات التراخيص الاجنبية وضررها على المواطن. مردفا: كانت هنالك فقرة في عقود التراخيص تلزم الشركات الاجنبية بتنقية الانبعاثات الغازية (مركبات اكثر امانا) قبل طرحها خارج الآبار، وهي بالتاكيد قادرة على ذلك لأنها شركات عالمية ولقد ألغيت هذه الفقرة ، علما انه اشيع في حينها بأن الغاءها كان خطأ حكوميا، في حين ان السبب الحقيقي يكمن في ان هذه الفقرة تزيد من كلفة انتاج البرميل.الشركات الأجنبية تنتفع والمواطن يتضرر"اية زيادة في الانتاج سيكون نفعها لصالح شركات جولات التراخيص الاجنبية وضررها على المواطن". ينبغي ان نضع خطاً احمر تحت هذه العبارة التي قالها الدكتور الحسن، لا سيما وان الحقول النفطية العراقية التي باتت تستغل تحت اسم الاستثمار، يقابلها تدمير بعض الاراضي الزراعية وزيادة التصحر. يؤكد هذا الامر، رئيس لجنة النفط والطاقة في مجلس محافظة البصرة "علي شداد الفارس" بقوله: في كثير من دول العام توجد آبار نفطية مجاورة للمزارع سواء أكانت مزروعة بالحنطة او غيرها من المحاصيل. مستدركا: الا ان ما حصل في العراق والبصرة خاصة بعد جولات التراخيص، اختلف تماما عن تلك الدول. لافتا الى قلة غاز الاوكسين (زيادة في التلوث) في تلك المناطق والتصحر اللذين تسببا بعمليات اختناق حصلت في مناطق شمالي وغربي البصرة ما اجبر المزراعين على هجر اراضيهم والمواطنين على مغادرة سكنهم في المناطق ونزحوا الى مراكز المدن، مؤكدا ان الزراعة انتهت تقريبا في المناطق المتاخمة للحقول النفطية بسبب الانبعاثات السامة جراء استخراج النفط.ألفان من ستة آلاف مزرعة؟ واشار الفارس الى ان عدد المزارع المتاخمة والقريبة من الحقول النفطية، تناقص بمنحنى خطير اضافة الى التعويضات التي دفعتها وزارة النفط للمزارعين. منوهاً الى ان ما تبقى من المزارع في تلك المناطق لا يزيد على ألفي مزرعة بعد ان كان عددها ستة الاف ، تتراوح مساحة الواحدة منها ما بين (20 – 30) دونما كانت تزرع بالخضراوات والحبوب ومحاصيل اخرى. مؤكدا ان هذا يعني تغييراً بيئياً خطيراً، جراء تدهور الزراعة في الفترة الاخيرة، عازيا السبب الى التعويض الرضائي بين المزارعين والجهة المستفيدة من الترضية ونقصد بها وزارة النفط . واضاف رئيس لجنة النفط والطاقة في مجلس محافظة البصرة: ان لجان التعويض الرضائي والسياسة التي اتبعتها الحكومة بشأن الحقول النفطية والاراضي القريبة منها او المتاخمة لها، تتحمل جزءا من المسؤولية في تدهور الزراعة والبيئة. مبينا: شمال البصرة الذي يضم ثلاثة حقول هي مجنون وغرب القرنة الاول وغرب القرنة الثاني كانت تزرع مساحات كبيرة تقدر بآلاف الدونمات بالحنطة والشعير، امست بلا حياة جراء ذلك التعويض والذي شكل مشكلة كبيرة بدوره، عازيا ذلك لأنه كان جزئيا وليس كلياً بما اتاح للشركات الحفر بالقرب من سكن المواطنين، وهذا ما ادى الى انتشار امراض كثيرة جدا وبعضها غريب خاصة شمالي وغربي البصرة.تزايد الإنتاج يزيد المشاكل الصحيةواوضح الحسن: هناك مفارقة خطيرة تتمثل بأن القوة الاقتصادية الكبيرة للبصرة، تضعف المحافظة وتجعلها مريضة في الوقت ذاته، وهذا ما تتحمل عبأه الحكومة المحلية الحالية. مردفا: مع ان الذنب يقع على عاتق وزارة النفط التي وقعت عقود جولات التراخيص، وعلى كاهل الحكومات المحلية السابقة لأنها لم تطالب بحقوق المحافظة وسكانها من الناحيتين الصحية والبيئية ولم تقدر ان المشكلات الصحية والبيئية سوف تتزايد بتزايد الانتاج. مشددا على ان وزارة النفط التي هي الطرف الاول في التعاقد مع شركات جولات التراخيص لم تتخذ اي اجراء بشأن الغازات المنبعثة مع الانتاج ولا التلوث البيئي على الرغم من انها الطرف الرئيس في المشكلة، لأنها تهاونت معها بهذا الشكل او ذاك.*انجز التحقيق بالتعاون مع مؤسسة تومسون رويترز_ برنامج ثروات العراق
https://telegram.me/buratha