في خضم المعارك الشرسة ووسط تهديدات واشنطن باللجوء إلى سيناريوهات "أكثر قسوة"، دخلت العملية العسكرية الروسية بسوريا عامها الثاني.
تلك العملية التي انطلقت في 30 سبتمبر/أيلول عام 2015، شكلت مفاجأة للمجتمع الدولي... وطبعا إذا لم نأخذ بحسابنا عملية إنزال المظليين الروس في إقليم كوسوفو عام 1999، فإن موسكو لم تشارك في أي حملات عسكرية في بلدان أجنبية بعيدة، بعد خروج آخر جندي سوفياتي من أفغانستان في عام 1989.
وعلى الرغم من مرور عام على انطلاق العملية، مازال كثيرون حتى اليوم يتساءلون حول الأسباب التي دفعت روسيا إلى الانضمام لمحاربة الإرهاب في سوريا بمثل هذا الحزم.
لم تكن سوريا قبل بدء الحرب في مارس/آذار عام 2011 تعتبر من حلفاء موسكو المقربين، على الرغم من استضافتها مركزا روسيا لتموين وصيانة السفن في ميناء طرطوس، لكن مع مرور سنين الحرب السورية، باتت هذه المسألة واحدا من أهم المواضيع المدرجة على جدول أعمال الدبلوماسية الروسية وأصبحت الورقة السورية من أهم الأوراق في اللعبة الكبرى على مستوى العالم التي تخوضها واشنطن وموسكو.
موسكو تؤكد أن الحديث لا يدور عن دعمها للرئيس السوري بشار الأسد وحكومته، بل عن موقفها المبدئي المدافع عن سيادة الدول وعزمها على إيقاف الخطر الإرهابي المتنامي قبل أن يطال بمخالبه أراضي روسيا.
في يونيو/حزيران 2015، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ضرورة تشكيل تحالف دولي لمحاربة "داعش" يضم كل بلدان المنطقة، وبالدرجة الأولى، تلك القوى التي تحارب "داعش" على الأرض، بما فيها الجيش السوري والجيش العراقي والقوات الكردية.
وحتى ذلك الحين، كان التحالف الدولي، الذي تم تشكيله برعاية الولايات المتحدة، ينشط على أراضي سوريا والعراق لنحو عام دون تفويض مجلس الأمن وموافقة دمشق.
وعلى الرغم من الغارات الغربية، كثف الإرهابيون الذي تمت إزاحتهم من مناطق قليلة في العراق عملياتهم في سوريا. وبحلول مايو/أيار عام 2015، فرض التنظيم الإرهابي سيطرته على 50 بالمئة من الأراضي السورية وأصبح سقوط دمشق بأيديه خطرا واقعيا.
اللافت أن الطيران الروسي دخل المعركة عندما كان الجيش السوري يواجه ضغوط شديدة بعد فقدانه السيطرة على محافظة إدلب التي سقطت بأيدي "جبهة النصرة" في مارس/آذار عام 2015، بالإضافة إلى استمرار الحصار الخانق على دير الزور، واشتداد المعارك في أرياف اللاذقية ودمشق وحمص ومناطق عديدة أخرى.
وعلى مدى عام من انطلاق العملية العسكرية الروسية، تغير الوضع جذريا، إذ استعاد الجيش السوري السيطرة على مساحات شاسعة في ريف حمص، وحقق نجاحات من أبرزها تحرير تدمر وريفها من أيدي إرهابيي "داعش"، وتمكن بمساندة الطيران الروسي من استعادة الأمن في معظم مناطق ريف اللاذقية، وفي دير الزور، حيث أطلق العسكريون الروس عملية إنسانية واسعة النطاق لإسقاط المساعدات الإنسانية من الجو. وسلمت روسيا ما يقارب 1000 طن من المواد الغذائية، والأدوية، والمستلزمات الأولية للمدنيين السوريين المحتاجين.
وفي ريف دمشق توصلت السلطات السورية إلى اتفاقات حول خروج المسلحين من العديد من المناطق ووسع الجيش السوري نطاق سيطرته بقدر كبير، ما أدى إلى وقف عمليات القصف على دمشق بشكل كامل تقريبا.
لكن الوضع في حلب شهد تصعيدا غير مسبوق، لا سيما على خلفية مساعي روسيا والولايات المتحدة لإحلال الهدنة في هذه المدينة.
وبلا شك أصبح مصير سوريا بالكامل مرتبطا بالتطورات الدموية في هذه المدينة التي كانت الأكبر والأكثر ازدهارا وتحولت اليوم إلى ركام.
مراحل العملية العسكرية الروسية في سوريا
- وقعت موسكو ودمشق اتفاقية حول نشر مجموعة من القوات الجوية والفضائية الروسية في الأراضي السورية في 26 أغسطس/آب عام 2015، إلا أن الطرفين لم يعلنا آنذاك عن الاتفاق.
- وفي 30 سبتمبر/أيلول من العام نفسه وافق مجلس الاتحاد (الشيوخ) الروسي بالإجماع على قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إرسال القوات المسلحة الروسية إلى سوريا لمحاربة تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة". وجاء هذا القرار استجابة لطلب الرئيس السوري بشار الأسد لمساعدة الجيش السوري في محاربة الإرهابيين.
في ذات اليوم بدأت القوة الجوية والفضائية الروسية توجيه ضرباتها إلى مواقع الإرهابيين انطلاقا من مطار حميميم في ريف اللاذقية.
ودخلت في تعداد القوة العسكرية الروسية في المرحلة الأولى أكثر من 50 طائرة مقاتلة ومروحية، ركزت على ضرب مواقع تنظيمي "داعش" و"النصرة".
لكن واشنطن سارعت إلى اتهام موسكو بتوجيه ضربات إلى فصائل معارضة مدعومة من قبلها، وهو أمر نفته موسكو، ودعت واشنطن إلى الشروع في التنسيق الفعلي معها لتبادل المعلومات حول إحداثيات مواقع الإرهابيين و"المعارضين المعتدلين".
وفي 20 أكتوبر/تشرين الأول وقع الطرفان الروسي والأمريكي مذكرة حول أمن طلعات الطيران الحربي في سوريا وتجنب الحوادث غير المرغوب فيها، لكن التنسيق الحربي الفعلي لم يبدأ حتى الآن.
- في 31 أكتوبر/تشرين الأول تحطمت طائرة ركاب روسية في سيناء. وأظهرت تحقيقات الاستخبارات أن الكارثة كانت ناجمة عن تفجير عبوة ناسفة على متن الطائرة، فيما تبنى تنظيم "داعش" مسؤولية الهجوم ما دفع روسيا في نوفمبر/تشرين الثاني إلى توجيه سلسلة ضربات مكثفة إلى مواقع "داعش" في سوريا، بشماركة قاذفات بعيدة المدى وسفن صاروخية أطلقت صواريخ مجنحة من مياه بحر قزوين.
- دخلت العملية العسكرية الروسية بسوريا مرحلة جديدة بعد حادثة إسقاط قاذفة "سو-24" الروسية فوق ريف اللاذقية الشمالي من قبل مقاتلة تركية.
وردا على ذاك الهجوم، عززت روسيا دفاعاتها في قاعدة حميميم بقدر كبير، ونشرت فيها منظومة "إس-400" بالإضافة إلى مناوبة سفن حربية مجهزة بمنظومة "فورت" (وهي نسخة من منظومة "إس-300" مخصصة لنصبها على متن السفن). كما انضمت إلى العملية أحدث المقاتلات الروسية التي تولت مهمة حماية القاذفات خلال شن الغارات. وبعد هذه الحادثة المؤسفة، ركز الطيران الروسي بقدر كبير على استهداف صناعة "داعش" النفطية، وحقق نجاحات بارزة في هذا المجال.
- في 28 فبراير/شباط، دخلت الهدنة لأول مرة حيز التنفيذ في سوريا وفق اتفاق روسي-أمريكي تبناه مجلس الأمن الدولي كقرار. وكانت الهدنة مرتبطة بجدول محدد لعملية سياسية تبدأ بمفاوضات سلمية بين الحكومة والمعارضة في جنيف.
وبعد دخول الهدنة حيز التنفيذ، على الرغم من تحول حلب إلى البؤرة الأكثر سخونة، ركز الطيران الروسي بالدرجة الأولى على دعم الجيش السوري في حملته لتحرير تدمر التي سيطر عليها الجيش بالكامل يوم 27 مارس/آذار عام 2016، ومن ثم واصل تقدمه حيث بسط سيطرته على مدينة القريتين ومناطق أخرى في ريف تدمر.
- في 15 مارس/آذار عام 2016 بموجب أمر رئاسي، بدأت عملية انسحاب الأجزاء الأساسية من القوة الجوية الفضائية الروسية في سوريا، مع الحفاظ على القوات الضرورية في ميناء طرطوس ومطار حميميم، بما يضمن استمرار عمليات التحليق الجوي.
وبعد سحب الجزء الرئيسي من الطائرات الحربية، اعتمدت روسيا بشكل متزايد على استخدام المروحيات الحربية، بما في ذلك مروحيات "صياد الليل" الحديثة.
وعلى الرغم من أن ذلك رفع بقدر كبير فعالية العملية ودقة الضربات، أدى هذا الأسلوب الجديد إلى زيادة خسائر روسيا القتالية بسوريا، إذ فقدت القوات الروسية خلال فترة قصيرة نسبيا 3 مروحيات، أسقط مسلحو "داعش" إحداها في ريف تدمر، وتحطمت أخرى بعطل فني في ريف حمص، كما تم إسقاط مروحية ثالثة أثناء عودتها من حلب حيث كان طاقمها يقوم بعملية إنسانية.
-مع دخول الهدنة حيز التنفيذ أواخر فبراير/شباط عام 2016، شكل الجيش الروسي مركزا معنيا بدعم المصالحة بين الأطراف المتنازعة، كما تم استحداث مركز روسي أمريكي لتبادل المعلومات حول الخروقات لوقف إطلاق النار.
وحتى اليوم بلغ عدد المدن والبلدات التي انضمت للهدنة 619 بالإضافة إلى توقيع اتفاقات حول وقف الأعمال القتالية مع 69 فصيلا مسلحا.
بناء على المعلومات التي وردت في شهر مايو/ أيار عام 2016، تم تنفيذ ما يزيد عن 10 آلاف طلعة جوية في سياق العمليات العسكرية بسوريا، إذ تم تدمير أكثر من 30 ألف هدف، بما في ذلك ما يقارب 200 موقع لاستخراج وتكرير النفط ومشتقاته.
وبموجب المعلومات التي صدرت عن البنتاغون الشهر نفسه، فقد تنظيم "داعش" 45% من مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها في العراق، وحتى 20% من مساحة سيطرته في سوريا. ومن اللافت أن النقلة النوعية في محاربة التنظيم جاءت بعد تحرير الجيش السوري لمدينة تدمر.
إلى متى ستستمر العملية الروسية في سوريا؟
أجاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه على هذا السؤال خلال مؤتمره الصحفي الكبير في ديسمبر/كانون الأول الماضي، قائلا إن سلاح الجو الروسي سيواصل شن الغارات على مواقع تنظيم "داعش" طالما استمرت العمليات الهجومية للجيش السوري.
وأضاف: "لكن عندما سنرى انطلاق عملية سياسية، وتقول السلطات السورية إنه حان الوقت لوقف إطلاق النار والشروع في التفاوض، عندها لن نخطط لأن نكون سوريين أكثر من السوريين أنفسهم، بدءا من هذه اللحظة".
كما كشف بوتين أن بعض السياسيين الغربيين عرضوا عليه صفقات مختلفة بشأن سوريا، وتعهدوا بـ"أخذ مصالح روسيا بعين الاعتبار" وسألوه: "هل تريدون أن تبقى قاعدتكم هناك؟". واعتبر الرئيس أن روسيا ليست بحاجة إلى قاعدة عسكرية دائمة في سوريا.
ويؤكد بوتين والمسؤولون الروس الآخرون أن الدافع الرئيسي وراء العملية العسكرية بسوريا يكمن في ضرورة التصدي لخطر الإرهابيين، علما بأن عددا هائلا من مواطني روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة انضموا لصفوف تنظيمي "داعش" و"النصرة" وجماعات إرهابية أخرى في سوريا. وتبذل الاستخبارات الروسية جهودا مكثفة لرصد هؤلاء وإلقاء القبض عليهم فور عودتهم إلى الوطن.
ووفقا لمعطيات الاستخبارات الروسية، فإن قرابة ألفين وخمسمئة روسي ونحو 3 آلاف من مواطني رابطة الدول المستقلة كانوا يقاتلون في صفوف تنظيم "داعش" في خريف عام 2015.
وتمكن الطيران الروسي من القضاء على العديد من هؤلاء، لكن الخطر الإرهابي المحدق بروسيا مازال قائما. وتستغل واشنطن هذه الورقة في مساومتها مع روسيا، إذ لوحت الخارجية الأمريكية في التصريحات الأخيرة لها باحتمال تعرض مصالح روسيا خارج المنطقة، وحتى مدن روسية لهجمات من قبل إرهابيين سيحاولون استغلال فراغ السلطة في سوريا، فيما اعتبرت موسكو هذا التهديد دعوة سافرة موجهة إلى وكلاء واشنطن بمهاجمة روسيا.
معركة حلب ومستقبل العملية الروسية بسوريا
عندما توصلت موسكو وواشنطن في 9 سبتمبر/أيلول الجاري إلى اتفاق جديد بشأن الهدنة، اعتبرت وسائل الإعلام الغربية ذلك نجاحا جديدا للدبلوماسية الروسية على غرار الاتفاق حول إتلاف الترسانة الكيميائية لسوريا. لكن الهدنة انهارت خلال أسبوعها الأول، بعد ضربات جوية شنها التحالف بقيادة واشنطن على مواقع الجيش السوري الذي يحارب "داعش" في دير الزور، وعملية قصف غامضة على قافلة مساعدات إنسانية في حلب، سارعت واشنطن لتوجيه أصابع الاتهام إلى الطيران الروسي باستهداف القافلة.
وفي الظروف الراهنة، عندما تهدد واشنطن بدراسة "كافة الخيارات المطروحة على الطاولة بشأن سوريا"، من المستحيل التنبؤ بالحدود الزمنية للعملية الروسية. خاصة وأن واشنطن كانت قد تحدثت أكثر من مرة حول أن فشل الهدنة في سوريا سيؤدي لإطلاق دوامة جديدة من العنف، إذ حذر مستشارون لأوباما من أن الإدارة الأمريكية ستسمح لحلفائها الإقليميين بتزويد المعارضة السورية بالأسلحة المتطورة، لا سيما الصواريخ المضادة للجو. وهو أمر لوح به بصورة سافرة المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية جون كيربي عندما حذر روسيا من أنها قد تفقد قريبا مزيدا من الطائرات.
لكن موسكو تؤكد أن الأمل في التوصل إلى تفاهم مع واشنطن لم يتلاش بعد.
كما أن هناك عوامل مهمة أخرى، منها المصالحة بين موسكو وأنقرة واستمرار الاتصالات المكثفة بين روسيا ودول الخليج بشأن تسوية الأزمة السورية.
أحداث حلب الدموية تستقطب هذه الأيام أنظار العالم تزامنا مع مشاورات دبلوماسية بين الخبراء الروس والأمريكيين لإنقاذ هدنة لم يكتب لها أن تتحقق.
https://telegram.me/buratha