ولذلك يبقى التساؤل الأكبر في هذا المجال، هل أن روسيا تندفع لإعادة مركزها العالمي الجديد من خلال سوريا والشرق الأوسط، أم أن هناك شيء آخر تحاول أن تمرره من هذا الإجراء؟.
تجدد الأولويات والطموحات الممكنة
يبدو أن قرار روسيا بتهيئة قاعدة لإطلاق القاذفات الروسية من إيران أمر فيه عدة محددات تتعلق بالإستراتيجية العسكرية الروسية، إذ تم تحديد قاعدة إنطلاق هذه القاذفات من قاعدة همدان الجوية الايرانية لقصف مواقع لـ(الدولة الاسلامية)، وجبهة (فتح الشام) او (النصرة سابقاً)، في مناطق حلب ودير الزور وادلب. ويبدو أن مغزى التفكير بالقواعد الإيرانية بدلاً عن القواعد الروسية الموجودة في سوريا نفسها قد جاء ليؤكد التأكيد على استراتيجية العلاقة بين موسكو وطهران، فروسيا التي تملك قواعد جوية في حميميم في شمال سورية، ليست بحاجة الى اللجوء للقواعد الجوية الايرانية، فهي أقرب الى حلب كثيرا، وتزدحم بكل انواع الطائرات القاذفة والمقاتلة.
ويبدو كذلك أن التحرك الروسي لم يأتي من فراغ، فهناك توافق دولي وخاصةً من قبل الولايات المتحدة على خطورة سيطرة تنظيم داعش أو بعض الفصائل المتشددة على القرار السياسي في سوريا، مما يجعل الوضع مرتبك في المنطقة برمتها، خاصةً وأن خطر هذه التنظيمات بدأ يؤثر على الأمن الأوروبي بشكل كبير، وهناك ضرورة لتدخل جدي في هذا الجانب.
ومن جهة أخرى فإن التأكيد على إيران قد جاء ليبين أن الإتفاق الضمني من قبل الولايات المتحدة الأمريكية في القصف الروسي لم تجعل من تركيا أو القواعد العسكرية القريبة منها في سوريا أمرا مبررا للروس في هذا المجال، فهناك حذر كبير من تركيا التي تحاول اليوم التقرب من روسيا بعد أن أدركت حدود اللعبة الدولية في سوريا، وأن إندفاعها المتهور قد جلب لها الكثير من الأزمات التي كادت أن تطيح بالنظام السياسي ذاته، ولكن يبقى الوضع بعد هذه الضربات في موضع التقدير إذا ما كانت تركيا ستكون جزءاً من هذا الترتيب أم لا.
القوى الإقليمية بثوب جديد
في الوقت الذي تقصف فيه القاذفات الروسية مواقع المعارضة الارهابية في حلب ودير الزور، تنشط الدبلوماسية الروسية في خط متوازي، إذ كان العنوان الأبرز لهذه الدبلوماسية الزيارة التي قام بها مساعد وزير الخارجية الروسي الى طهران، حيث إلتقى نظيره الايراني حسين جابري انصاري، ومنها الى الدوحة للقاء المعارضة السورية المعتدلة، وممثلين عن حركة حماس.
في حين لم تحظ المملكة العربية السعودية بدور في هذه الصفقة، فالمحور المتشدد لن يكون له مجال للدخول في المفاوضات أو التواجد في حسابات الروس الإستراتيجية، الواقع يتجه إلى تقوية محور الإعتدال في سوريا، ومنحهم قوة على الأرض من الناحية السياسية وبدعم عسكري يوازي القوة التي تتحرك بموجبها الجماعات المسلحة في سوريا.
ومن زاوية أخرى يبدو أن التحرك الروسي لم يأخذ بعين الإعتبار الولايات المتحدة الأمريكية فقط، بل تحييد الدور التركي لصالح سوريا هذه المرة، بعد الزيارة التي قام بها رجب طيب أردوغان أصبحت تركيا تتراجع في دورها المحوري في سوريا، فالضمانات الأمريكية لن تكون هذه المرة موجودة في تركيا إذا ماعاد التهور يسيطر على القرار التركي، وهذا ما يذكره سيان غاب "أن الناتو أصبح بلاقيمة"، وهو يفسر هذا الأمر بالموقف الذي أصبحت فيه تركيا بعد الإنقلاب ويكشف عن تورط أمريكي واضح في هذا الشأن.
إن تحييد الدور التركي في هذا الشأن سيكون له أثر كبير في الدور الروسي الجديد، خاصةً في مجال الحسم العسكري فمناطق الإستهداف التي ستكون ضمن الإستهداف الروسي هي مناطق ريف حلب الجنوبي الذي تتمركز فيه الجماعات الإرهابية، فعملية التجميع من خلال القصف العشوائي الذي كانت تقوم بها روسيا إلى جانب العمليات التي قامت بها الفصائل المسلحة المؤيدة للنظام والمدعومة من قبل إيران ساهمت في تجميع هذه الجماعات في منطقة ريف حلب الجنوبي، الأمر الذي سوف يسهل على الروس عمليات الرصد والإستهداف، حيث لن يكون هناك مجال لتحرك هذه الجماعات بسبب القصف الروسي من جهة وسيطرة القوات العسكرية السورية على المناطق المجاورة والقريبة منها، الأمر الذي سيجعل إمكانية استئناف المفاوضات للتوصل الى حل سلمي عموده الفقري حكومة سورية موسعة، تتمثل فيها بعض الشخصيات السورية المعارضة، وتتولى حقائب ثانوية ليس من بينها الحقائب السيادية لتبقى تحت هيمنة الرئيس بشار الأسد، إلى جانب التحرك الذي ضمن الدوحة وليس الرياض، الأمر الذي سيجعل هذه الجماعات والكتل الأخرى المرتبطة بـ (رياض حجاب) ممثل المعارضة السورية المتواجد في الرياض هم الحلقة الأضعف في هذا الجانب.
نهايات مدروسة
يبدو أن الوضع في سوريا سيتدرج في الحسم النهائي بعد أن ينحصر أداء الجماعات الإرهابية في سوريا بشكل نهائي، ولن يكون هناك مجال لمساومتهم في مفاوضات جنيف مرة أخرى، وسيكون لما يعرف بالمعارضة المعتدلة اليد الطولى في المفاوضات، وستحاول روسيا أن تقنع الولايات المتحدة بتغيير المعادلة الإقليمية من خلال تقليص الدور السعودي والتركي في هذه المرحلة، خاصةً وأن تركيا بدأت تستجيب للتحديث الإستراتيجي التركي على أثر محاولة الإنقلاب، أما المملكة العربية السعودية فإنها ستضطر أن تغير ذلك لعدة أسباب منها الوضع في اليمن والدور القطري الذي سوف يتعارض مع طموحها في سوريا، وبالتالي فإن تقوية العناصر الضعيفة سيكون لصالح الروس في المفاوضات القادمة.
إلى جانب ذلك، فإن الوضع الروسي في شبه جزيرة القرم يجبر الروس على إختيارات جديدة لتحركهم الإستراتيجي، فهناك تحديات كبيرة في العمق الروسي وهنالك ملامح لإعادة ترتيب في السياسات الخارجية، الأمر الذي يقوي الطموح الروسي في سوريا لتجميع القوة الضائعة جيوبوليتيكياً، بما يضمن إنبعاثها بوزن إستراتيجي جديد.
* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha