يواجه التعليم العالي في العراق صعوبات هائلة نتيجة تراكم الازمات واستمرار حالة عدم الاستقرار السياسي والتدخل الخارجي الواعي، وغير الواعي في سياساته، وفي الأمور الاكاديمية للجامعات وفي أساليب ادارتها وتسيرها. ولقد أدت هذه الحالة الشاذة والغريبة الى تدني مستويات الجامعات العراقية وعرقلة تطورها مقارنة بالجامعات العربية والإقليمية والعالمية فقد أظهرت الأحصائيات الدولية الضعف المتوارث للتعليم العالي والبحث والابتكار في العراق وتبوئه مراتب منخفضة جدا في السلالم العالمية لمعدلات الإنتاج العلمي والاكاديمي بحيث احتل العراق المرتبة العاشرة ضمن 16 دولة شرق اوسطية في معدل الإنتاج العلمي بينما تصدرت تركيا الترتيب بأكثر من 400 الف نشرية علمية، تلتها اسرائيل ثم ايران بحوالي 300 الف نشرية. اما العراق فلم ينتج الا اقل من 13 الف نشرية في تاريخه وهو معدل اعلى بقليل من عُمان وقطر. اما اذا اخذنا بنظر الاعتبار معدل اتش (H-Index)، الذي يقيس كل من الإنتاجية ودرجة الاقتباس (الاشارة) للأعمال المنشورة للعلماء، فإننا نذهل لرؤية مرتبة العراق تنزل الى الدرجة الرابعة عشر بحيث لم يبق إلا البحرين واليمن بمعدل ادنى.
وتظهر التصنيفات الدولية لمراكز الجامعات ضعفا كبيرا في أداء الجامعات العراقية بصورة عامة بالرغم من ملاحظتنا لوجود نهضة علمية حقيقية تلوح في الأفق ومنها تنطلق الدعوة الى منع أي تدخل سياسي في شؤون التعليم العالي والى دعم المسيرة التعليمية والمعرفية لعلماء العراق. إلا انه من الصعوبة التكهن بنواتج هذه النهضة العلمية واستمراريتها وديمومتها في وضع لا يسمح بممارسة أساليب تربوية واكاديمية صائبة ومجربة عالميا، وفي ظل هيمنة مصالح سياسية قصيرة النظر خارج اطار التعليم العالي تعيق من استغلال الطاقات والكفاءات العلمية وتؤدي الى عرقلة القرارات الإدارية الهادفة الى التخلص من الاثار السلبية التي تركها النظام الدكتاتوري السابق والإرهاب وانعدام الاستقرار.
ان استقلالية الجامعات وتمنكنها من أداء مهماتها الإدارية والوظيفية، والتي هي بنظرنا تمثل روح العمل الاكاديمي والعامل الاساسي في نهضة الجامعات ونهضة المجتمع، تنبع من استقلالية القرار الإداري والاكاديمي لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي وفي حمايتها الفكرية والتنظيمية للجامعات وصيانتها من التدخلات الخارجية من منظور التفاعل الإيجابي داخل الجامعات وخارجها، وبينها وبين الوزارة بما في ذلك الحوار الاجتماعي البناء والمتضمن تطبيق الاستراتيجة الوطنية للتربية والتعليم العالي في العراق والتي رسمت سياسة تتصدى للتخلف من خلال خلق بيئة صحية تتناسب مع التقدم العلمي والتربوي والتكنولوجي في العالم، فوضعت اهداف طموحة وخيارات استراتيجية لرفع الواقع التربوي والعلمي في العراق، وأكدت على وجود تداخل وتضارب وعدم وضوح كبير في الصلاحيات الخاصة بكل مستوى من المستويات الإدارية وصولا الى السلطة التشريعية. واقترحت الخطوات العملية المطلوب إتخاذها لتنفيذ هذه الخيارات.
وفي الممارسة العملية نكتشف صعوبة تحقيق الإصلاح الإداري لتمكين الجامعات من تطوير نوعية التعليم وتحسين الأساليب التربوية وبالاعتماد على رؤية جديدة لمستقبل التعليم العالي بسبب التدخل المستمر من قبل سلطة القرار السياسي المتمثلة بمجلس النواب وغيره من مراكز السلطة والتي غالبا ما تتأثر بالمؤثرات الخارجية والاستجابة لمطالب غير مشروعة واتخاذ قرارات متسرعة مبنية على تشخيص غير صحيح، ومن دون مشاورة هادفة مع أصحاب الشأن ومعرفة رأي القيادات الوزارية والجامعية وأعضاء هيئات التدريس والعلماء. مثل هذا التشاور والتفاعل الإيجابي مع الاكاديميين سيساعد مجلس النواب على الاستجابة بصورة سليمة للمطالب المشروعة من جميع الأطراف وعلى رفض المطالب غير المشروعة والهدامة والمعرقلة لمسيرة التعليم العالي كمثل قرار إعادة الطلبة المرقنة قيودهم في الدراسات الأولية والعليا ومنح دور ثالث للطلبة الراسبين والذي يمثل سابقة خطيرة وتدخل سياسي غير مقبول في صميم العمل الاكاديمي والتربوي ولصالح الطلبة الفاشلين في الامتحانات والممارسين للغش بالإضافة الى انه يتعارض مع سياسة الوزارة والجامعات التي تخطو خطوات جدية نحو العالمية وتحاول الاندماج بالنظام التعليمي العالمي وتطبيق الأنظمة العالمية ومنها الغاء امتحانات الدور الثاني والثالث وفي القضاء على الغش والذي يعتبر اكبر كارثة اطبقت على التربية والتعليم، وفي ترسيخ وتفعيل الجوانب الوجدانية والأخلاقية عند الطالب وباستعداده للالتزام بمبادئ اخلاقيات المهنة.
ويبدو واضحا بصورة جلية في يومنا هذا أهمية الالتزام باخلاقيات المهنة عند الطالب والأستاذ كجزء من مقامة الفساد المستشري في الإدارة العراقية وتمكين الجامعات من نشر المعرفة ومواجهة التحديات وتطوير المؤهلات اللازمة لتشخيص المخاطر التي تواجه التعليم العالي وتحديد أولويات الإصلاح والتغيير وبضمنها استقلالية القرار الاكاديمي واحترامه من قبل المجتمع وقواه السياسية ومقاومة الاغراءات في تشريع قوانين وإصدار تعليمات في أمور تأثر تأثيرا سلبيا على نوعية التعليم او مستوى الخريجين والقوى البشرية والإنتاج العلمي، وهي حالة وصلت الى درجة من الضعف بحيث تتطلب دق ناقوس الخطر وإعلان حالة استنفار لمواجهة التحديات والاخطار المحدقة بالتعليم العالي.
ومن هذا المنطلق فاني اقف وبكل مهنية وإحترام لاخلاقيات ومبادئ التعليم الاكاديمي والحريات الاكاديمية مع ما اعلنته نخبة الاكاديمين في تجمع (جامعيون) من رفض لقرار مجلس النواب وتأكيدهم على أهمية العمل بقوانين الاخلاقيات الاكاديمية وعلى دعم توجهات وزير التعليم العالي بقضايا رصانة التعليم ومنع ما يسمى بالدور الثالث وعلى مساندتهم للتوجهات الإصلاحية الجديدة.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha