مع بداية "الثورة السورية" كنت في سجن رامون الإسرائيلي، الفضائيات المتاحة للمشاهدة تحددها إدارة السجن فكانت تقتصر على الفضائيات الإسرائيلية وقناة العربية و mbc. ولأننا كأسرى في واقع معزول فما كان يتسلل لنا من مشاهدة كان مرتبطا بهذه الفضائيات، كلمة ثورة في ذهن الأسير تعني الكثير وتعني التأييد وكذلك العربي فحاله نسبيا لا يختلف عن حال الأسير. كان المعظم له موقف واحد من الثورة وموقف واحد من النظام وانبرى الخطباء في السجن في الدعاء للثوار والدعاء على “الطاغية”.. الغريب أن الحديث في الأمور السياسية يكلف الخطيب عزل في زنزانة منفردة كعقاب وكلمة مجاهدين في الخطبة تستنفر إدارة السجن ولكن تعريف المجاهدين بمكان واحد هو سوريا لم يكن ليكلف الخطيب لا زنزانة ولا عقاب.
بعد خروجي من السجن لم استخدم الإنتقائية في المتابعة والقراءة والمشاهدة في الموضوع السوري، والإنتقائية أزمة أخرى يعيشها العربي الذي يريد أن يسمع ما هو مقتنع به أصلا.. لم يحتاج الأمر مني الكثير حتى أغير وجهة نظري ضمن محددات ومعايير أخلاقية ووطنية. أمريكا عدو تقليدي لنا ولقضايانا ولم تخرج عن هذا السياق ولو لمرة وأمريكا قتلت الإنسانية في العراق وأفغانستان تحت شعارات “مكافحة الإرهاب” مع أن الإرهاب الإسرائيلي كان يمول من خزينتها ومن مالها فهل يمكن لهذا المال أن يصبح مالا لتحرير الشعوب وتخليصها من دكتاتورييها ! إذا كان بشار شخص دكتاتوري فإن أمريكا دولة ومنظومة دكتاتورية فمن ينكر ذلك! لا علينا .. فهناك أمور أخرى مهمة أيضا.
"جبهة النصرة" الذراع الفاعل للقاعدة في سوريا، القاعدة التي تدعو لتحكيم شرع الله وترفض تحكيم الديمقراطية على أساس أنها نظام كفر والعملية الديمقراطية عمل كفري، عشرات السنين ونحن نسمع ذات الخطاب وذات المنطق وكتبت المؤلفات في ذلك والديمقراطية هي التي ذهبت بالقاعدة لتكفير المجالس والرئاسات والمشاركين والساكتين، في سوريا تخلت القاعدة عن مرتكز في صلب مرتكزاتها وقبلت بالديمقراطية في المستقبل والحكم المدني ليتلو ذلك مفاوضات أمريكية مع روسيا لاستثناء القاعدة بحلتها الليبرالية الجديدة من قوى الإرهاب في سوريا! ومرة أخرى نادرة نسمع القاعدة تتحدث بلغة المصالح وأن المصلحة تقتضي ذلك وهذا تحول كبير في فقه المصلحة عند القاعدة لم يكن ليكون لولا سوريا وأزمتها وأمريكا ومفاوضاتها فشكرا للدم السوري وللراعي الأمريكي للحرية والأفكار. أما المرة الأولى التي سمعنا القاعدة تتحدث في المصلحة فهي أن القتال خارج فلسطين حاليا أولى.
وبالعودة للسجن .. كانت إرادة السجن تقوم ولا تقعد عندما يضرب اسير عن الطعام، وجود الأسير في المستشفى مكلف جدا وخاصة أن العلاج في "اسرائيل" مكلف جدا .. كانوا يماطلون كثيرا في علاج الكثير من الحالات المرضية، فعلا التكاليف عالية فهم لا يكذبون وميزانية السجون لا تستوعب تكاليف كثيرة وكذلك ميزانية الصحة .. وعندما شاهدت جرحى الثورة يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية تسائلت على حساب أي ميزانية يعالج هؤلاء؟! طبعا في "اسرائيل" الأمن هو الأعلى ميزانية.. لا أريد أن افترض ولكن الحقيقة تقول أنه لا يمكن لأي غريب أن يدخل "اسرائيل" إلا بموافقة الجهات الأمنية وتحت مسؤوليتها وهذا الأمر يظهر جليا طبيعة التعاطي الإسرائيلي مع الأزمة السورية وهذا دليل بين أدلة كثيرة ولكن لنناقش الظاهر ولا شأن لنا بالمخفي مع أنه العالم الحقيقي للسياسة.
العودة الأخيرة للسجن عودة بالغة الأهمية .. في عام 2012 كنت في تحقيق المسكوبية، سألتني “نورا” محققة اسرائيلية برتبة عالية، لماذا أنتم أعضاء الجهاد الإسلامي تحبون الشيعة! ولأنني كنت أرفض الإعتراف بأنني عضو في الجهاد الإسلامي؛ سكتت.. قالت لي : هل تعلم أن الشيعة يسبون الصحابة؟! هل تعلم أنكم كسنة عدوهم الأول ولولا وجودنا في المنطقة لجاؤوا إليكم واحتلوكم وفعلوا بكم الأفاعيل؟! “عليكم أن تدركوا أن "اسرائيل" هي درع وقاية لكم من الزحف الشيعي” .. اليوم وانا أتجول بين تصريحات الكثير من المسؤولين الخليجين أتذكر تلك المحققة التي كانت تطرح على مسمعي ذات العبارات والتصريحات وأنا على كرسي صغير مكبل اليدين والرجلين.. تريد أن تحميني من الشيعة وهي تحكم قبضة قيودها على يدي ورجلي على كرسي الشبح بشكل مؤلم جداً.. مؤسف أن أسمع كلام محققتي من أبناء أمتي المفترضة. بالمناسبة؛ قبل الأزمة في سوريا لم أكن أعلم أن بشار علوي فكل ما كانت أعرفه أنه رئيس لا يقيم علاقات مع "اسرائيل"، وللفصائل الفلسطينية في بلده معسكرات ومقرات.
في النهاية؛ حتى لو اتفقنا أنها ثورة بغطاء أمريكي اسرائيلي ولكن السوري اليوم يعنيه أن يعيش بأمن غير جريح أو مشرد أو مثكول فمن يتحمل المسؤولية عن هذه المأساة؟! الذي يتحمل المسؤولية هو ذلك يضخ المال والسلاح للمجموعات المسلحة ولا يرسل كسرة خبز للسوريين.. 4 ملايين سوري هجروا فكم استقبلت دول “الحرية لسوريا” منهم ؟! كنت أقول دائما أن "اسرائيل" لو هزمت في 1948 لانهزمت المنظومة الفكرية والسلوكية التي تحكم العالم واليوم أقول اذا هزم الخيار الأمريكي في المنطقة فإنها هزيمة أولية للمشروع الإمبريالي الجديد الذي يأتي مكملا لما سبقه.
محمد بدر
اسير المحرر … طالب صحافة وعلوم سياسية في جامعة بيرزيت
................
https://telegram.me/buratha