وبما أن هذا "التحرير" لا يشكل غير جزء من كامل الحرب الأميركية على داعش التي تنبأ المسؤولون الأميركيون بأنها قد تستغرق وقتاً قد يصل إلى ثلاثين عاماً، فإنه هو أيضاً كان من المخطط له أن يستغرق وقتاً طويلاً. وهذا الوقت الطويل قد تطرأ خلاله تطورات وأحداث من شأنها أن تصرف النظر حتى عن عملية التحرير ذاتها. مسرحية ؟
واليوم، ومع دخول خطة تحرير الموصل حيز التنفيذ، بدأ الأميركيون يترجمون ميدانياً اعتقادهم بأن الخطة تسير بسرعة أكبر من اللزوم، ويعلنون عن رغبتهم في فرملة تقدم الجيش العراقي نحو الموصل : مسؤولون عراقيون يؤكدون أن الطيران الأميركي يتلكأ في قصف مواقع داعش التي تبدي مقاومة شرسة أمام تقدم الجيش العراقي نحو الموصل.
وقد لا نفاجأ في الأيام والأسابيع القادمة، إذا ما سمعنا أن الطائرات الأميركية قد عمدت -كما فعلت أكثر من مرة في العراق، ومؤخراً في دير الزور عندما قصفت الجيش السوري دعماً لداعش- إلى قصف الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي، أو حتى إلى تقديم الإسناد لداعش نفسها، إذا ما وجد الأميركيون أن عملية تحرير الموصل تسير بسرعة أكبر من اللزوم. أو إذا ما خطر لهم أن يغيروا رأيهم ويتراجعوا عن فكرة تحريرها من الأساس. ماذا بعد الموصل ؟ هنالك الآن شبه إجماع من المراقبين على أن الولايات المتحدة جادة في العمل من أجل تحرير الموصل لأن ذلك يشكل مطلباً أثيراً لدى الرئيس الأميركي الشغوف بتحقيق إنجاز كبير قبل مغادرته للبيت الأبيض. وقد يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما. وقد يكون صحيحاً أيضاً أن عملية التحرير هذه وما يثار حولها من ضجيج ليسا أكثر من مسرحية هدفها التغطية على نقل مقاتلي داعش إلى الرقة والمناطق الشرقية والوسطى من سوريا وصولاً إلى تدمر، وربما أيضاً إلى الجنوب باتجاه الحدود الأردنية والجولان المحتل للمساهمة في خدمة مشروع إسرائيلي للرد على انتصار سوريا وحلفائها المرتقب في حلب لإقامة منطقة عازلة تمتد شرقاً نحو درعا. وبالطبع، فإن هذه الخطة التي تحرص على تنفيذها جميع القوى المشاركة في الحرب على سوريا والعراق تتطلب، بدلاً من دعوى تحرير الموصل، أو بالتوازي مع هذه الدعوى، حرصاً مقابلاً من سوريا والعراق والحلفاء الحقيقيين، رداً عسكرياً حازماً بهدف منع مقاتلي داعش من التسلل إلى سوريا. تجربة مشتركة
وبهذا المعنى بالذات، أكد وزير الخارجية الروسي أن بلاده ستتخذ "إجراءات عسكرية" لمنع عملية التسلل تلك. مع كل ما يفتحه ذلك من آفاق إضافية نحو ارتفاع وتائر التوتر بين موسكو وواشنطن. أي بين موسكو وحلفائها، من جهة، وواشنطن وحلفائها الذين يحركون داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، من جهة أخرى.
لكن التعامل مع الفرضيتين المذكورتين وكأنهما من قبيل المسلمات التي لا تقبل النقاش قد يدفع الجيش العراقي الناشيء نحو السقوط في فخ قد يسبب له أضراراً أكبر بما لا يقاس من الأضرار التي سببها له ظهور داعش واستيلائها على الموصل وغيرها من المناطق العراقية. أليس من الممكن مثلاً أن يكون تسويق فكرة نقل مقاتلي داعش إلى الرقة خديعة هدفها إشاعة الوهم عند العراقيين بأن تحرير الموصل سيكون عملية سهلة وأن مقاتلي داعش سيخلون مواقعهم وسيتوجهون إلى الرقة مع انطلاق أول رصاصة ؟ أليس من الممكن لأعمال التحصين والاستعدادات الأخرى التي تقوم بها داعش داخل الموصل وفي المناطق المحيطة بها تعبيراً عن نية أميركية وداعشية مشتركة في توريط الجيش العراقي في معركة باهظة التكاليف حول مدينة تعج بأكثر من مليون من السكان المدنيين يشكلون درعاً بشرياً إجبارياً لحوالي عشرة آلاف مقاتل داعشي من المتمرسين في فنون القتال بعد كل ما حصلوا عليه من تدريب على أيدي القوات الخاصة الأميركية والإسرائيلية والأطلسية ؟
عشرات القرون من التجارب المشتركة جعلت من الموصل وحلب مدينتين بمصير واحد. واليقظة تقتضي الآن ألا تتجرع الموصل -ربما لزمن قد يوغل بعيداً في المستقبل- مرارة التجربة التي تعيشها حلب منذ خمس سنوات حتى الآن.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha