قد يكون من الصعب الإجابة على السؤال الذي يطرحه كثيرون عما تغير اليوم لكي يصبح في الإمكان انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية بعد نحو عامين وخمسة أشهر من شغور المنصب الأول في البلاد وعدم إمكانية التوافق على اسم يشغل القصر الرئاسي المهجور.
فلطالما كان انتخاب الرئيس وتشكيل الحكومة مهمة شاقة غاية في الصعوبة نظرا إلى الارتباط العضوي بين الوضع اللبناني والتطورات الإقليمية المحيطة. فالرئاسات الثلاث الأولى والثانية والثالثة نتاج موازين قوى كانت تفرضها المعادلات الإقليمية والدولية حتى قبل بداية الحرب عام 1975.
ومنذ دخول الجيش السوري رسمياً إلى لبنان عام 1976 كان لدمشق النفوذ الأقوى في انتخاب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وتشكيلته الوزارية وصولا إلى الانتخابات النيابية والتعيينات الأساسية.
وفي عام 2011 ظن البعض أن انشغال سوريا بالصراعات الجارية داخليا سيجعلها بعيدة عما يدور في الساحة اللبنانية. لكن حلفاء الحكم السوري في لبنان وفي مقدمتهم "حزب الله" حافظوا في الواقع على نفوذهم خصوصا أن الحزب هو التنظيم الوحيد الذي ما زال يحتفظ ببنية تنظيمية عسكرية متكاملة قادرة على بسط سلطتها وسيطرتها في أي وقت رغم أن رقعة عملياته امتدت إلى داخل الصراع الدائر في سوريا.
العقدة
ولكن ما علاقة كل ذلك بالرئاسة؟ الواقع أن في لبنان انقساما بين محور المعارضة السورية الذي يدعمه بعض دول الخليج، ومحور الحكم المدعوم من إيران وحزب الله وحلفائهما. من هنا كان الأفضل التأجيل لمعرفة إلى أين ستميل دفة الصراع في سوريا ومن بعدها تتحدد الهوية السياسية للرئيس وفقا لنتائج الواقع الجديد على الساحة اللبنانية، والاسم عندها لن يكون مشكلة.
فكان مرشحون لقوى 14 آذار وآخرون لـ8 آذار، ترتفع أسهمهم تارة وتنخفض تارة أخرى على وقع التوازنات الإقليمية وزئير المدافع والصواريخ التي تتطاير في سماء المنطقة.
ويهمس البعض بأن "حزب الله" قرأ الرسائل التي كانت تتطاير بين اللاعبين الكبار والتي تتحدث عن إعادة تقسيم سوريا والمنطقة إلى كيانات طائفية. عندها فهم الحزب أن لبنان لا يمكن ان يكون بمنأى عن هذه التطورات إن حصلت وبالتالي عليه أن يطرح مجددا حصة الطائفة الشيعية في النظام السياسي اللبناني التي لا يرى أنها تتناسب مع حجمها العددي والسياسي.
فكان هناك حديث عما عرف منذ شهور قليلة بالمؤتمر التأسيسي الذي يفترض أن يعيد توزيع التوازنات الطائفية وفق قواعد جديدة. وكان هناك رفض من الطوائف الأخرى التي تعتبر أن المساس بما نتج عن اتفاق الطائف سيطيح بالتوازنات التي قام لبنان على أساسها.
الحل الآتي من حلب
الأوضاع الإقليمية المعقدة شهدت تحولات كبيرة عدلت في كثير من المواقف تجاه الصراع القائم في سوريا. فدول الخليج أعادت صياغة مواقفها وفتح هذا نافذة كبيرة تركت بعض الانعكاسات على الوضع الرئاسي اللبناني.
Image copyrightAFP
Image caption
انتخاب عون تم بعد اتفاق مع تيار المستقبل برئاسة الحريري
وما حدث في الأسابيع الأخيرة قلب الأمور رأسا على عقب وبدل الاتجاهات. فمنذ وقوع الانقلاب الفاشل في تركيا والتحول الاستراتيجي للسياسة التركية وإعادة تطبيع علاقاتها مع روسيا، تطورات أحدثت تبدلا في المعطيات، قيل في بيروت إن من أبرز ثمارها الكيان الكردي في مقابل حلب. بمعنى أن تغض أنقرة الطرف عن حلب (التي كانت خطا أحمر بالنسبة إليها) في مقابل السماح لها بتعطيل المشروع الكردي المستند إلى وعود أمريكية، لإنشاء كيان مستقل.
هذا التطور يضع مشروع الكيانات الطائفية على الرف لأن استعادة الحكومة السورية سيطرتها على حلب أو معظمها يبعد سيناريو الكيان السني الذي كان من المفترض أن تكون حلب مركزه، فتعود الأمور إلى المربع السابق: صراع بين القوات الحكومية والمعارضة المسلحة بمفهومه التقليدي العسكري وخطوط تماسه القائمة، أي بعيدا من خرائط السياسة الكبرى التي تبدل الحدود، أقله في الوقت الراهن.
هل انتهت الأزمة؟
من هنا نُفّذ الاستحقاق الرئاسي اللبناني. وفهم النافذون على الساحة اللبنانية أن وقت تغيير موازين القوى لم يحن بعد، وبالتالي أصبح من الممكن انتخاب رئيس.
كان لا بد أن تستمر مؤسسات الدولة خصوصا أن مجلس النواب الممدد له، بقيت له شهور قليلة ليصبح بعدها مطعونا في شرعيته، وفي ظل حكومة معطلة غير قادرة على تسيير حياة الناس اليومية.
وإذا كان لا بد من انتخاب رئيس لإدارة الأزمة ضمن الحد الأدنى من الأطر الدستورية، فإن ذلك لا يعني أن الأزمة في لبنان قد وصلت إلى نهايتها، فالرئيس المنتخب والمحسوب أصلا على تيار الثامن من آذار المؤيد لحزب الله وسوريا عقد اتفاقات مع تيار "المستقبل" وحزب "القوات اللبنانية" اللذين يقفان في الجانب الآخر.
https://telegram.me/buratha