فقد اخفقت الحكومات السابقة بكوادرها المختلفة عن ادارة مليارات الدولارات من اموال النفط العراقي ولم تنجح حتى في انشاء صندوق ثروة سيادي يعمل كمصد مالي لتلطيف حدة التقلبات السعرية وزيادة مرونة الموازنة للاستجابة للصدمات النفطية الحالية، اسوة ببلدان الخليج العربي. بل عملت تلك الحكومات على اعادة تدوير الاموال النفطية في قنوات تصب في زيادة حجم المؤسسة الحكومية وترسيخ اقدام النخب السياسية الحاكمة على امكانات البلد الاقتصادية والمالية.
هبوط اسعار النفط يشكل فرصة سانحة لإعادة رسم المسار الاقتصادي للعراق عبر تبني حزمة من الاجراءات الهادفة الى جذب الاستثمار الاجنبي، خصوصا الاستثمار الاجنبي المباشر الذي يستثمر في الاقتصاد الحقيقي من مصانع وشركات وبنى تحتية وغيرها من المرافق الصحية والتعليمية.
ورغم الاوضاع الامنية التي يعيشها العراق الا ان فرص الاستثمار المتاحة في مناطق عديدة (محافظات الفرات الاوسط مثلا) بينت بوضوح جاذبيتها للمستثمر الاجنبي، وهذا ما بينته تقارير عدة للهيئة العليا للاستثمار في العراق. وفضلا على جاذبية فرص الاستثمار في الاقتصاد العراقي فان هناك مجموعة من المحفزات التي تجذب الاستثمار الاجنبي منها:
- وجود سوق محلي قادر على استيعاب معظم السلع والخدمات التي قد تنتج مستقبلا نتيجة الاستثمار في العراق وهذا الطلب مدفوع بشريحة كبيرة من موظفي الدولة، مما يعني تامين منافذ التصريف مقدما.
- يتمتع العراق بالهبة الديمغرافية حيث يشكل الشباب الجزء الاكبر من حجم السكان مما يعني تامين الايدي العاملة وبمختلف المهارات والمستويات التعليمية.
- الاستقرار النسبي في اسعار صرف الدولار والتضخم وهو ما يعد ركيزة اساسية لدخول الاستثمار الاجنبي لأي بلد نظرا لما يمثله الاستقرار النقدي من ميزة للمستثمر الاجنبي.
- توفر جزء كبير من المواد الاولية وخصوصا الطاقة ومشتقاتها والتي تعد عنصر اساسي لعدد كبير من المشاريع الاستثمارية الكبرى بالإضافة الى لما يحتويه العراق من موارد طبيعية اخرى.
- تنوع مجالات وفرص الاستثمار في الاقتصاد العراقي حيث يمكن للمستثمر الاجنبي توجيه امواله صوب قطاعات متعددة في العراق كقطاع الاسكان وقطاع الصحة وقطاع الصناعة وقطاع التجارة وقطاع زراعة وقطاع السياحة وقطاع التعليم وغيرها من القطاعات. وتفصح البيانات والتقارير الاقتصادية تنوع فرص الاستثمار في هذه القطاعات والجدوى الاقتصادية والمالية للاستثمار فيها.
- يتمتع العراق بميزة الموقع، اذا يتوسط البلد اكبر موقع تجاري في المنطقة وتحيطه مجموعة من البلدان ذات علاقات تجارية واسعة مما يشكل فرصة للانخراط في اسواق المنطقة مستقبلا بمنتجات ذات جودة عالية وكلفة منخفضة بعد اشباع حاجة الطلب المحلي.
مع ذلك، توجد مجموعة من المعوقات التي ولدها انحراف النظام السياسي في تحقيق الاهداف الاقتصادية العليا تحول دون نفاذ الاستثمار الاجنبي الى الداخل، بل عملت تلك المعوقات خلال السنوات السابقة على هروب الاستثمار الوطني الى البلدان المجاورة بحثا فرص استثمار امنة. ومن أبرز تلك المعوقات:
- تعقيد الاجراءات الادارية والقانونية وتعدد الحلقات البيروقراطية للحصول على اجازة استثمار في العراق، ولم يحسم قانون الاستثمار جزء كبير من هذه الاشكالية. وتشير معظم تجارب البلدان النفطية التي نجحت في جذب الاستثمار الاجنبي (إندونيسيا مثلا) الى ان خلق بيئة قانونية تشريعية ملائمة لجذب فرص الاستثمار الاجنبي كان المُمكن الاهم لتدفق الاستثمار الاجنبي نحوها.
- تزايد نسب الفساد المالي والاداري والسياسي في معظم حلقات منح الاجازة للمستثمر الاجنبي، اذ تعج هيئات الاستثمار والوزارات والمؤسسات الحكومية الاخرى بمافيات الفساد التي تحدد العطاءات وفقا لما يدره عليها المشروع من مكاسب مالية وحقيقية (نسب في المشروع).
- ضعف الدولة والقانون في بسط الامن والاستقرار والمحاولات المستمرة لإسقاط الحكومة والاستبدال المستمر للطاقم الحكومي يشكل هاجسا يؤرق معظم المستثمرين الاجانب خوفا من بروز طبقة سياسية جديدة تجنح الى التأميم والغاء كافة العقود والامتيازات والاستثمارات التي منحت للمستمر الاجنبي في الحقب السابقة.
- الوضع الامني في البلد وانتشار جيوب الجريمة والارهاب في العراق يحول دون توافد الكوادر الاجنبية الضرورية لبدء واستمرار مشاريع الاستثمار الاجنبي خوفا من القتل والابتزاز.
- اغراق الاسواق العراقية بالسلع الاجنبية من بلدان عدة وبمساعدة النفوذ السياسي في العراق قد يعرقل نجاح مشاريع الاستثمار الاجنبي في الانتشار وكسب الاسواق نظرا لغياب عنصر المنافسة لصالح دعم المنتج الاجنبي لغايات سياسية ومالية، مما يقلص فرص الاستثمار الاجنبي في احتواء الاسواق المحلية والتوجه بعدها نحو الاسواق الخارجية.
ان هشاشة الوضع الاقتصادي والمالي في البلد تحتم على صناع القرار اعادة النظر بالسياسات والقوانين والتشريعات المتعلقة بالاستثمار الاجنبي ليس فقط لما يوفره الاستثمار الاجنبي من عملة اجنبية تكون رافدا لعملية التنمية الاقتصادية واعادة اعمار العراق وحل بعض المشاكل القطاعية للاقتصاد العراقي وتوفير فرص عمل جديدة تكون بديلا للقطاع الحكومي المترهل، وانما ايضا لما يوفره دخول الشركات الاجنبية بإمكاناتها المالية الضخمة واساليبها التكنولوجية المتطورة في الانتاج من تنشيط القطاع الخاص العراقي المتكل اساسا على النشاط الحكومي، وخلق سوق محلية تكون قادرة على تصحيح الاختلال الذي يعاني منه الاقتصاد العراقي والناجم عن ضعف الادارة الحكومية في ادارة الملف الاقتصادي واعتمادها على المورد النفطي في تمويل والموازنة والاقتصاد.
* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha