رغم أن رئيس الوزراء الباكستاني المُقال نواز شريف (68 عاما) بدأ نجمه يظهر في الحياة السياسية الباكستانية قبل أكثر من ثلاثة عقود، شغل خلالها منصب رئيس الوزراء في بلاده ثلاث مرات؛ فإن الحقيقة تؤكد أنه رجل أعمال أكثر منه رجل سياسة، وقد أطاحت به أخيرا تهم -تتعلق بأمواله- من عالم السياسة إلى الأبد.
ميراث شريف
مع أن صفحة نواز شريف شخصيا قد طُويت بشكل كبير، إلا أن هناك صفحات كثيرة -تتعلق بحزبه الذي أخذ اسمه منه (الرابطة الإسلامية - ن) وبعموم الحياة السياسية الباكستانية- تظل مفتوحة على احتمالات شتى، تحتاج إلى قراءة من خلال فهم طبيعة الناخبين الباكستانيين وتركيبتهم الإقليمية والعمرية، والجديد الذي يحمله حزب عمران خان.
أما بالنسبة للحظة الراهنة للحزب الحاكم التي تسبق موعد الانتخابات البرلمانية القادمة بسنة كاملة؛ فإنها -وكذلك المستقبل- متوقفة على مدى قدرته على التماسك، ومساندة شخصية قوية منه لها ثقل في إقليم البنجاب لإدارة البلاد خلال المدة المتبقية.
فإن أثرت أزمة عزل رئيس الوزراء نواز شريف -كما هو متوقع- على حزبه تأثيرا سلبيا، في أجواء يمكن أن يتخللها كثير من الصفقات السياسية؛ فقد يتم اختيار شخصية لا حزبية تدير المرحلة، أو شخصية حزبية توافقية تستبعد الأقوياء، ومن المستبعد اختيار شخصية حزبية من خارج الحزب الحاكم لشغل المنصب الشاغر حاليا؛ نظرا لصعوبة حصولها على موافقة البرلمان، ولأن الزمن المتبقي على الانتخابات القادمة لا يستحق كل هذا العناء.
ولا بد من أن يكون معلوما أن عزل نواز شريف لا ينهي تأثيره في هذه المرحلة نهائيا، لكن الرجل يحتاج إلى كثير من الجهد للحفاظ على لُحمة حزبه من الانهيار تحت مطارق الأزمة ومستغليها المحتملين. وربما يقدم في هذا الصدد أخاه شهباز شريف رئيس الوزراء الإقليمي للبنجاب لرئاسة الوزراء، إلا أن حسابات هذا الأخير معقدة؛ نظرا لأن صدى تهم الفساد المالي التي حوكم على أساسها رئيس الوزراء المعزول تمس العائلة برمتها.
على أي حال، سيكون من أهم مهمات الحكومة القادمة أن تضمن الاستقرار السياسي في باكستان استعدادا للانتخابات القادمة، ومن مصلحة الحزب الحاكم -إن وقع الاختيار على شخصية منه لشغل منصب رئيس الوزراء- أن يسعى إلى تبييض وجه الحزب الذي سيظهر فيه من يطالب بالخلاص من كل ميراث آل شريف وتركتهم الثقيلة، وربما يسعى إلى توحيد جناحيْ "حزب الرابطة الإسلامية" التاريخي الذي تأسست الدولة على يديه.
أحلام عمران
إذا خرجنا عن نطاق "حزب الرابطة الإسلامية - ن" ("ن" نسبة إلى نواز شريف) فسنجد كثيرين ينتظرون جني ثمار الحدث الكبير الناتج عن قرار العزل الأخير؛ سواء في صورة انتخابات مبكرة لا تستبعدها الاحتمالات، أو في الانتخابات القادمة بعد منتصف عام 2018.
وأول هؤلاء لاعب الكريكت العالمي السابق عمران خان وحزبه "حركة إنصاف باكستان" (PTI)، فهو الذي قاد الحملة القضائية الشرسة ضد نواز شريف، وكان أشد المنافسين لحزبه في الانتخابات الماضية عام 2013، كما سعى -في تربص سياسي طويل المدى- إلى عزل شريف من قبل بتهمة تزوير الانتخابات المذكورة.
وحظوظ عمران خان وحزبه في الانتخابات القادمة غير منكورة، ما لم تؤثر عليه الدعوى القضائية المرفوعة ضده أمام المحكمة العليا بتهمة الفساد؛ خاصة في جو التراجع الحتمي في شعبية حزب الرابطة الإسلامية الحاكم، إلا أن ثمة حسابات خاصة بالواقع الباكستاني ينبغي وضعها في الحسبان هنا.
وتتمثل هذه الحسابات أولا في أن مؤيدي عمران طبقة عمرية أكثر منهم تكتلا سكانيا في إقليم بعينه، كما هو حال الحزبين الكبيرين (حزب الرابطة وحزب الشعب)؛ ولذا يتوزع مؤيدوه على أنحاء باكستان خاصة في المدن والحواضر الكبرى، متمثلين في الشباب الذي يأمل أن ينتقل ببلاده إلى وضع سياسي واقتصادي أكثر قوة واستقرارا، ويشعر بالتناقض في بلد نووي تبلغ فيه الفروق الاقتصادية والاجتماعية حدا قياسيا.
وماذا عن الكتل السكانية الكبرى في بلد يكاد عدد سكانه يلامس حد مئتيْ مليون وترتفع فيه نسبة الأمية إلى أكثر من 60%؟
هذه الكتل السكانية الضخمة -التي تعمر بها أعماق الأقاليم والأرياف الباكستانية- تمثل قواعد راسخة لأحزاب بعينها، وهو وضع يصعب تغييره جدا؛ لأنه خاضع لحسابات عرقية وإقليمية بنوية..
فالسيطرة الأولى في إقليم البنجاب -الذي يمثل سكانُه قريبا من نصف الشعب الباكستاني- لحزب الرابطة الإسلامية الحاكم، والذي شقه الرئيس الأسبق برويز مشرف إلى حزبين لتشتيت قدرة خصمه الألد نواز شريف، إلا أن سوء سمعة الجنرال السابق في الحكم أفشلت "حزب الرابطة الإسلامية - ق" ("ق" نسبة إلى الرمز التاريخي الباكستاني محمد علي جناح الملقب بـ"القائد الأعظم")، وحالت دون أن يكون حزبا ذا شأن.
وبالمثل يمثل إقليم السند -الذي يضم ربع سكان باكستان- قواعد حزب الشعب، الذي أنشأه رئيس الوزراء الراحل ذو الفقار علي بوتو قبل خمسين عاما.
وهذا في جملته يعني أن الظروف في أكبر إقليمين بالبلاد -من حيث عدد الناخبين- تعمل لصالح الحزبين الكبيرين، اللذين يتبادلان عادة حكم البلاد في غير نوبات الحكم العسكري، والأحوال الطارئة لا تؤثر كثيرا في هذه المسألة.
فقد فاز حزب الشعب بالحكومة في إقليم السند في انتخابات عام 2013، وشعبية الحزب آنذاك في أدنى مستوياتها بسبب خمس سنوات من حكم الرئيس السابق آصف علي زرداري، الذي تراجعت الأوضاع الاقتصادية لباكستان في عهده بشكل ملحوظ.
أين تكمن حظوظ عمران خان إذن؟ يعيش عمران خان حالة شبابية نادرة -رغم مقاربته في السن لغريمه نواز شريف- تستقطب إليه طوائف كبيرة من الشباب الباكستاني، والموقف الأخير الذي نتج عن عزل شريف قد يزيد شعبية عمران وسط هذه الشريحة السنية خاصة.
إلا أن خان يحتاج إلى استقطاب مزيد من الأسماء والشخصيات المهمة في السند والبنجاب وخيبر بختون خاه وغيرها، لتزيد حظوظه في اقتناص الحكومة المركزية وهو يغالب طبيعة الكُتَل الانتخابية في باكستان.
وبعيدا عن الاستطراد؛ يبدو خان وحزبه نموذجا لمحاولات الخروج من الاستقطاب الإقليمي الثنائي، أو الإقطاع السياسي -الذي تعيشه الحياة السياسية في باكستان منذ زمن- إلى بديل ثالث.
ونجاحه رهن بألا تبتلعه طبيعة التركيبة السكانية والسياسية لبلاده، التي تعيش إقطاعا اقتصاديا وسياسيا ودينيا بسبب تركز التجارة في بعض العائلات الكبرى، والسياسة في بعض الأحزاب، والدين في خريجي المدارس الدينية، ولا أحد يريد أن يتنازل عن سلطانه.
حزب الشعب
تتركز قواعد حزب الشعب في إقليم السند كما سبق، وقد حكم الحزب البلاد خمس سنوات عقب فوزه في انتخابات عام 2008 التي أعقبت اغتيال رئيسة الحزب بينظير بوتو، وقد كان لعملية الاغتيال الأليم تأثيرها الأكبر في ترجيح حظوظ الحزب على غيره في هذه الانتخابات، عقب انتهاء الحكم الدكتاتوري العسكري للجنرال مشرف.
لكن وكما هي العادة؛ لم تسعد باكستان باختيارها كثيرا، فدخلت البلاد في سلاسل من الأزمات السياسية والاقتصادية طوال السنوات الخمس اللاحقة، إلا أن الرئيس السابق زرداري استطاع إدارة المشهد حينئذ لصالحه باقتدار، فظل في منصبه إلى النهاية رغم ارتفاع أصوات كثيرة تطالب بمحاسبته بتهم الفساد؛ وذلك بمحافظته على توازنات مع أطراف العملية السياسية الباكستانية ومع قادة الجيش.
والحقيقة أن زرداري يفهم بعمق -وربما أكثر من غرمائه- طبيعة المشهد الباكستاني، ويعرف متى وكيف يظهر على مسرح الأحداث من خلال الإعلام أو غيره، ومتى يختفي في أعماق لندن وصخب دبي أو هدوئها، والمتوقَّع أن يبدأ في الظهور قريبا شيئا فشيئا، وخطته جاهزة للمنافسة الشرسة على التركة السياسية لنواز شريف.
سيستغل زرداري هذه المرة -كما تؤكد بوادر- الميراثَ السياسي المهم لأسرة زوجته الراحلة بينظير بوتو، وخاصة بدفع أكبر أبنائه من رئيسة الوزراء الراحلة بيلاوال بوتو زرداري، وهنا سيكون الصراع بينه وبين عمران خان وحزبه على شريحة الشباب الذين قد يروقهم تأييد شاب في مثل سنهم (29 عاما الآن)، كما أن الرئيس السابق سيحرص على كسب ما يستطيع من تركة الحزب الحاكم الحالي لترجيح أسهمه.
وقد يزيد من فرص حزب الشعب في قيادة الحياة السياسية الباكستانية -في مرحلتها القادمة- أن المحكمة العليا قد تفاجئنا بالحكم على عمران خان بحكم مماثل لما أصدرته على غريمه المعزول. وهو ما يعبر عنه البعض في الشارع الباكستاني الآن بأن الحكام الحقيقيون للبلاد (وهم جنرالات الجيش) بدؤوا سلسلة الإطاحة بالوجوه السياسية القديمة من حلبة الصراع السياسي تماما، وسيأتي الدور بعد شريف على آخرين.
https://telegram.me/buratha