كان ديفيد ساتّرفيلد واصلا لتوّه للعاصمة التركية أنقرة، يوم الأربعاء العاشر من يوليو/تموز الماضي، متطلعا لمباشرة مهامه الجديدة بعد أن اختاره الرئيس الأميركي دونالد ترامب سفيرا للولايات المتحدة، وأهمها على الأرجح بذل محاولة أخيرة لإثناء النظام التركي ورئيسه رجب طيب أردوغان عن صفقة شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي "إس 400" التي أُبرمَت مع موسكو، وإدارة العلاقات المعقّدة حاليا مع تركيا، وكيف لا وهو الرجل نفسه الذي تولى منصب القائم بأعمال السفير الأميركي في القاهرة بين أغسطس/آب 2013 ويناير/كانون الثاني 2014 خلال فترة عصيبة من العلاقات مع مصر، وكان على رأس المرشحين لتولى منصب السفير فيها الصيف الماضي، قبل أن يقرر رئيسه أن يُبقيَه لمهمة أكثر صعوبة هذا الصيف.
بيد أن ساتّرفيلد وصل متأخرا على ما يبدو، فبعد أن وطأت أقدامه العاصمة التركية بيومين فقط، وصلت أول أجزاء منظومة الدفاع الصاروخي "إس 400" بالفعل إلى قاعدة "مُرتَد" الجوية الواقعة إلى شمالي غربي العاصمة أنقرة على مسافة ليست ببعيدة من السفارة الأميركية، حيث حطّت طائرتا نقل روسيتان قبل أن تهبط منهما معدّات عسكرية روسية تحت مرأى ومسمع وسائل الإعلام التركية التي نقلت بفخر لحظات التسليم صباح الجمعة 12 يوليو/تموز المنصرم، في إشارة واضحة إلى مُضيّ تركيا في قرارها -غير المسبوق لدولة من حلف الناتو- بالحصول على نظام دفاع صاروخي روسي.
تزامن كل ذلك مع حلول الذكرى السنوية الثالثة لمحاولة الانقلاب الفاشلة التي جرت في 15 يوليو/تموز 2016؛ ذكرى وثيقة الارتباط بقاعدة "مُرتَد" الجوية نفسها، والمعروفة حتى سبتمبر/أيلول 2016 باسم قاعدة "أقينجي" إذ اتخذها ضباط القوات الجوية المدبّرون للانقلاب مقرا رئيسيا لهم آنذاك، واحتجزوا فيها رئيس الأركان خلوصي أكار قبل أن تتدخل القوات الخاصة التركية لتحريره ورفاقه، ويُقصَف مدرج الطائرات الخاص بها لمنع الطيّارين المشاركين في الانقلاب من الإقلاع، وهي قاعدة سرعان ما عوقبت على دورها المحوري في الانقلاب بتحويلها من قاعدة مركزية يقودها ضابط برُتبة عقيد (أو أعلى) وتحوي الطائرات بشكل دائم إلى قاعدة عادية تُستَخدَم فقط في استضافة عمليات محددة ويقودها ضابط أقل رُتبة، وكان قائدها الأخير هو الجنرال المدبّر للانقلاب أكِن أوزتورك قبل اعتقاله.
وبمقتضى حالة الطوارئ المُعلنة إبان الانقلاب الفاشل، انتقلت ستون طائرة من طراز "إف 16" من القاعدة وتم توزيعها على قواعد جوية أخرى في ولايات أسكيشهير وقونيا وأماسيا، في حين أُعيدت تسمية القاعدة باسمها القديم "مُرتَد"، والذي سُميت به وقت تأسيسها عام 1960 نتيجة لقُربها من منطقة "مُرتَد" غرب أنقرة، وهي منطقة مُسمّاة بذلك الاسم منذ هزيمة السلطان بايزيد الأول فيها على يد تيمورلنك وجيشه عام 1402، حيث لعبت خيانة بعض قوات بايزيد من أعيان الأناضول وفرارهم من المعركة دورا في هزيمته، ومن ثم سُمّيت المنطقة بـ "مُرتَد" في إشارة إلى ارتدادهم عن واجبهم في دعم السلطنة العثمانية، وهو اسم ظل ملازما للقاعدة الجوية تلك حتى عام 1995 حين تقرر تغييره إلى "أقينجي"، قبل أن يعود بعد 21 عاما إلى اسمه الأصلي إثر خيانة أخرى أشد وطأة.(1)
لم يكن قرار هبوط أول أجزاء "إس 400" قبيل ذكرى الانقلاب في هذه القاعدة من قبيل المصادفة إذًا، فقد كان الانقلاب الفاشل في القلب من توتر العلاقات التركية الأميركية على مدار السنوات الثلاث الماضية نظرا لما تعتبره أنقرة تقاعسا أميركيا عن التعاون في ملاحقة مدبّريه، وأشهرهم وفق ادعاءات تركيا، فتح الله كولن الموجود بولاية بنسلفانيا، بل واتهامات أردوغان المبطنة للولايات المتحدة بتمرير الانقلاب، وأشهرها اتهامه لجوزيف فوتيل، قائد القيادة العسكرية المركزية الأميركية (USCENTCOM) بين 2016 و2019، بالانحياز لمدبري الانقلاب في الجيش، وذلك نتيجة اعتراض واشنطن المستمر على حملة "التطهير" التي تمت في الجيش ونالت من آلاف الضباط، وتُثار الشكوك باستمرار حول قانونيتها.
توترت العلاقات التركية الأميركية، ولم تلبث موسكو أن دخلت على الخط لتضع يديها على كل الثغرات في تلك العلاقة في سعيها المستمر منذ سنوات لتقويض التحالفات الأميركية وإفساح المجال لنفوذها المتزايد، فقد نجحت في ضمّ تركيا إلى مسارها الدبلوماسي حيال الأزمة السورية بحضور أردوغان لقمة أستانة الأولى في يناير/كانون الثاني 2017، ثم سلسلة من القمم الدبلوماسية في مدينة سوتشي الروسية منذ مطلع العام الماضي 2018، علاوة على إغلاق موقع سبوتنيك الروسي الناطق بالكُردية نزولا على رغبة تركيا، ورفع العقوبات الروسية المفروضة على أنقرة على خلفية إسقاط طائرة روسية في 2015، وأخيرا والأهم، توقيع صفقة "إس 400" في نهاية 2017.
لكن تلك لم تكن المرة الأولى التي تتوتر فيها علاقات أنقرة بواشنطن، إذ كُتبَت أولى صفحات ذلك التوتر حين استحوذ الجيش التركي على شمال قبرص عام 1974 لحماية سكانها الأتراك من هيمنة ثلثي سكان الجزيرة من اليونانيين القاطنين في الجنوب، وهي معركة رفضها الأميركيون لأنها وضعت حليفين داخل الناتو -تركيا واليونان- وجها لوجه في فترة أراد فيها الأميركيون توحيد الصفوف الغربية لمواجهة الاتحاد السوفيتي، ومن ثم فرضت واشنطن حظرا لتصدير السلاح إلى تركيا لثلاث سنوات؛ ضربة موجعة(2) لا تزال آثارها باقية دفعت الأتراك لتأسيس شديد الجدية لصناعتهم العسكرية، لكنها لم تدفعهم أبدا للبحث عن البديل العسكري من روسيا، عدوّها التاريخي، حتى العام الحالي حين تغيرت كل الأمور بلا عودة في أي وقت قريب.
"إس 400" والترسانة التركية: الضيفُ الغريب
هذه المرة اندفعت أنقرة في سابقة تاريخية نحو التسليح الروسي الثقيل والمتطور على خلفية أزمتها الجديدة مع واشنطن، لا سيّما وأنها تبحث منذ وقت طويل بالفعل عن نظام دفاع صاروخي يحمي أجواءها من الأخطار المحيطة بها في منطقتي الشرق الأوسط وشرق أوروبا حيث تزداد فاعلية وقوة الحركات المسلحة فيهما، وكذلك يقل الالتزام الأميركي بتأمين حلفائهم، وهو ما دفع بالأتراك لفتح الباب أمام أطراف عدة لتقديم عروضها للجيش التركي من أجل سد تلك الفجوة في الدفاع الصاروخي عام 2007، حيث تعاقبت العروض لأربع سنوات من موسكو لتزويد الأتراك بنظام "إس 300" القديم، ومن بكين لتزويدهم بنظام "إتش كيو 9"، ومن فرنسا وإيطاليا معا لتزويدهم بنظام "يورو-سام"، ومن لوكهيد مارتن الأميركية لتزويدهم بنظام "باتريوت".
كان العرض الروسي أول ما أخرجته تركيا من حساباتها آنذاك، في حين أشارت التوقعات إلى وقوع الاختيار على الأميركيين أو الأوروبيين نظرا لتخلّف الصين التكنولوجي عن منافسيها الثلاثة، لكن المفاجأة أتت عام 2013 باختيار الصين، لتبدأ مفاوضات طويلة ظن الأتراك أنها ستكون الأسهل من أجل الحصول على صفقة نظام دفاع صاروخي صيني تشمل تصنيعا مشتركا لبعض أجزائه تتيح لأنقرة فيما بعد صناعة نظامها الخاص وتمنح الصناعات العسكرية التركية نقلة لا بأس بها لمواكبة منافسيها، لكن المفاوضات مع الصين لم تُثمر عن الاتفاق المأمول، ومن ثم اختيرت فرنسا وإيطاليا في الأخير مطلع 2018، وأصبحت تركيا عضوا في مجموعة "يوروسام" لتطوير نظام دفاع صاروخي مشترك، لكن الاتفاق تزامن مع توقيع اتفاق مشابه ومفاجئ مع روسيا للحصول على "إس 400" الأكثر تطورا من "إس 300".
لم يكن "إس 400" مطروحا من قبل من جانب الروس لبيعه لدول أخرى، لكن موسكو فتحت الباب لتصديره بصفقة مع الصين عام 2014 تسلّمت الأخيرة على إثرها أول دُفعة من بطاريات "إس 400" مطلع 2018 وشغّلتها بالفعل في صيف العام نفسه، ثم أتى الدور على الهند لإبداء رغبتها في الحصول على النظام نفسه من روسيا عام 2016، ليتم توقيع صفقة بالفعل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي للحصول على خمس نُسَخ منه دون أن يبدأ التسليم بعد نتيجة للضغوط الأميركية المستمرة للآن، ولكن حين أتى الدور على تركيا كانت المفاجأة، ليس فقط لأنها دولة أقل وزنا من الصين والهند لتحصل على نظام روسي متطور بهذا الشكل بعد سنوات قليلة من طرح الروس له، ولكن أيضا لأن "إس 400" سيكون غريبا على ترسانتها العسكرية وعلى ضباطها غير المعتادين على التعامل مع سلاح روسي أو سوفيتي.
في ظل تلك الترسانة الغربية الضخمة، والشبكة المعقدة من الشراكات التكنولوجية وخطوط الاستيراد والتصدير الغربية أيضا، سيكون "إس 400" غريبا على الأراضي التركية؛ غريبا بالمعنى الحرفي للكلمة، إذ إن نظام الدفاع الصاروخي المفترض فيه رصد الطائرات الصديقة والعدوّة بوضوح، سيرصد الطائرات العسكرية التركية كافة باعتبارها أجسام "غير معروفة" له باستثناء أي طائرة تركية الصنع بشكل خالص، وذلك نظرا لرفض موسكو منح الأكواد الإلكترونية الخاصة بـ"إس 400" للجيش التركي، ومن ثم عدم قدرته على تغيير أو تحديث أدوات الرصد والتعقيب بحيث تتعرف على أنواع الطائرات الموجودة على الأراضي التركي، ولذا فإن عيون النظام الصاروخي ستظل "روسية" إن جاز القول، يُضاف إلى ذلك عدم استفادة تركيا من التصنيع المشترك الذي حرمها منه الروس، وعدم معرفتنا بما إن كانت نُسخة "إس 400" المخصصة لتركيا مطابقة للنظام الأصلي أم أنها لا تحوي إمكانيات نظيرتها كافة المشغّلة في روسيا كما يشير الباحث بمركز التحليل البحري الأميركي مايكل كوفمان، إذ إن احتمالية حصول تركيا على نُسخة "مقلّمة الأظافر" من "إس 400" واردة جدا بالنظر للتنافس المستمر بين البلدين في البحر الأسود والقوقاز والشرق الأوسط(6).
روسيا: الهاجس والحارس
لم تكن عضوية تركيا في حلف الناتو يوما مثار جدل بين أقطابها السياسية الرئيسة العلمانية والمحافظة على السواء، فقد تم قرار الانضمام للحلف تحت حكومة عدنان مندريس، أول حكومة تركية منتخبة بشكل مباشر وتنتمي للشرائح الاجتماعية المحافظة على العكس من النُّخَب العلمانية التي حكمت لربع قرن تقريبا وبدون إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية، ورغم اهتمام العلمانيين بالتغريب على المستوى الثقافي في حين التزم المحافظون بالحفاظ على الروابط الشرقية والدينية للشعب التركي، فإن كلا القطبين رأى في حلف الناتو ركنا أساسيا للإستراتيجية التركية لمواجهة هاجس القوة الروسية السوفيتية التي أحاطت بتركيا في شرق أوروبا والقوقاز، علاوة على حرمانها من الاضطلاع بدورها الثقافي الناعم في آسيا الوسطى المرتبطة تاريخيا بالأتراك، وكذلك الانحياز الطبيعي الذي شكّل تاريخ علاقة الروس باليونان والمسيحيين الأرثوذكس في البلقان والذين وقفوا عادة في خانة منافسة للوجود التركي، يُضاف إلى ذلك أخيرا العلاقة القوية التي تشكّلت بين موسكو والنظام السوري تحت رئاسة حافظ الأسد، ولا يُستثنى من ذلك الإجماع التركي إلا قطاعات من القوميين المتطرفين، وكذلك اليسار الراديكالي في السبعينيات، ولم يمتلك أيٌّ منهم قواعد اجتماعية مُعتبرة.(7)
كانت روسيا هي الهاجس إذًا حتى انطفأ نجمها مع انهيار الاتحاد السوفيتي؛ انطفاء تنفس الأتراك الصعداء على إثره، وشرعوا في مد جسورهم شرقا وغربا لاستعادة أدوارهم المختلفة في القوقاز خاصة مع أذربيجان وجورجيا، والبلقان خاصة البوسنة وألبانيا المسلمتين، وآسيا الوسطى، وكذلك شرق أوروبا حيث تتمتع تركيا ولا تزال بعلاقات متميزة مع أوكرانيا، وكانت تحالفات تركيا الغربية حاضرة في كل ذلك، حيث حظي الدور التركي ضمنيا بدعم غربي لما شكّله باستمرار من ضغط على روسيا في مساحات نفوذها التاريخية، ولكن تلك الحقبة السعيدة لم تدُم طويلا، وسرعان ما عادت موسكو للتعافي في أواخر العقد الماضي، أولا بالاستحواذ على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا، وثانيا بالاستحواذ على شبه جزيرة القرم بكل ما تُشكّله من مركزية في البحر الأسود، وثالثا بالتمدد في شرق أوكرانيا، وأخيرا بتوسيع دورها العسكري في سوريا.
وبينما عادت روسيا لتصبح الهاجس الرئيس في معظم الدوائر المحيطة بتركيا، تصاعدت تحركات أنقرة لبلورة تحالفات عسكرية مناوئة لها، أبرزها أوكرانيا في البحر الأسود إبان الأزمة مع موسكو، ففي عام 2016 بدأ التعاون بين شركة "أوكروبورونبروم" الأوكرانية للصناعات العسكرية ونظيرتها التركية "هاولسان" لإنتاج معدات رادار للرصد والتعاون في مجال الطيران، ثم شهد العام 2017 اتفاقا بين شركة "أوكرينماش" الأوكرانية و"هاوِلسان" لتأسيس مركز مشترك للأمن السيبراني، وكذلك اتفاقا بين شركة "أنطونوف" الأوكرانية لصناعة الطائرات والشركة التركية للصناعات الجوية والفضائية لتطوير وإنتاج الطائرات المُسيّرة (تجدر الإشارة إلى أن الطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية الروسية ركنان رئيسان في الحرب على أوكرانيا)، وقد كشفت "أنطونوف" العام الماضي عن طائرة AN-188 للنقل العسكري المصنوعة بصورة مشتركة بين البلدين، بالإضافة إلى تجربة صاروخ "سكيف" المضاد للدبابات المصنّع بين البلدين أيضا.(8)
على المنوال نفسه، تبلور تحالف ثلاثي بين تركيا وجورجيا وأذربيجان عبر سلسلة اجتماعات لوزراء الدفاع بدأت عام 2014 للتعاون في مجال التدريب، وتطوير التكنولوجيا العسكرية والتصنيع العسكري المشترك، وكذلك القيام بتدريبات عسكرية مشتركة تهدف لحماية البنية التحتية للطاقة، وأهمها خط أنابيب الغاز باكو-تبليسي-جيهان الذي يمر عبر البلدان الثلاثة ويحمل الغاز الأذربيجاني لأوروبا منافسا بذلك الخطوط الروسية، علاوة على محاولات مستمرة من جانب تركيا لجذب البلدين الصغيرين إلى الاندماج الفعلي في بنية حلف الناتو، والتي وصلت لمشاركة أذربيجان في مهمات لحلف الناتو بالفعل تحت لواء العلم التركي، في حين تظل العلاقة التركية الجورجية العسكرية أقل تشعبا، حيث تعتمد تبليسي(9) بالأساس على الروابط الغربية المباشرة مع برلين وواشنطن، يُضاف إلى ذلك تعاون بدأ مؤخرا في مجال الأمن السيبراني لحماية البنية التحتية للطاقة بين الدول الثلاث من الهجمات السيبرانية المحتملة عليها.(10)
في الدوائر الجغرافية كافة الواقعة إلى شمال تركيا إذًا ليس ثمة مجال لاستخدام "إس 400" لأن الهاجس ببساطة هو القوة الروسية نفسها، والتي يستحيل استخدام تلك المنظومة ضدها، ومن ثم يصبح الاتجاه الوحيد للبحث عن العدو الذي تحتمي منه تركيا بالمنظومة الروسية هو الجنوب، حيث نجد إيران والتي بإمكانها استهداف قواعد أميركية على الأراضي التركية إذا ما تعرّضت لضربة أميركية مثلا، وبجانب إيران فهناك النظام السوري المحتمل دخوله في أي احتكاك عسكري مع نظيره التركي المسيطر فعليا على مساحة صغيرة من الأراضي السورية، ولعلنا نجد احتكاكا مستبعدا مع جنوب قبرص أو اليونان نتيجة الصراع على الغاز الطبيعي بشرق البحر المتوسط، غير أن أيًّا من تلك المخاطر لا تسوّغ خطوة "إس 400" الغريبة على ترسانة تركيا، فإيران وسوريا دولتان خبيرتان بالسلاح الروسي وتمتلكان "إس 300"، ومن ثم فالسلاح الغربي أكثر نجاعة في أي مواجهة ممكنة معهما، بجانب أن اليونان تملك أيضا "إس 300"، علاوة على أن وقوع حرب مفتوحة بين الطرفين تدفعهما لاستخدام بطاريات الدفاع الجوي هو احتمال ضئيل، كما يشير(11) الباحث اليوناني ثيموس تسالّاس، احتمال لن يُسمح له بالتفاقم من جانب حلفائهما في الناتو وجيرانهما في القارة الأوروبية.
يبقى أخيرا الخطر الذي يُشكّل الضغط حاليا، وإن كان الأبسط تسليحا، وهو الخطر الكردي القادم من قوات سوريا الديمقراطية في شمال سوريا، حيث يغلب على مقاتليها الانتماء لحزب العمال الكردستاني، والذي تشن الدولة التركية منذ 2015 حملة عسكرية ضده بعد سنوات من عملية سلام لم تؤتِ أُكلها، خاصة أن الحزب يتمتع بدعم أميركي حصل عليه بعد مشاركته مع التحالف الغربي لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية المعروف بـ "داعش"، وحصوله على سلاح وتدريب أميركي على مدار السنوات القليلة الماضية عكّرت صفو العلاقات الأميركية التركية؛ سلاح لعل بطاريات "إس 400" قد استُجلبَت لوقفه، لكن الواقع هو أن الحزب بحاجة إلى عشرات السنين قبل أن يتمكّن من حيازة سلاح يمكّنه من تشكيل خطر على الأجواء التركية بما يستدعي بطاريات من هذا النوع، كما يشير الباحث المتخصص بالشؤون الروسية والأوراسية لدى هيئة البحوث الإستراتيجية الدولية بالعاصمة أنقرة كريم هاس، فالحزب يظل ميليشيا بتسليح محدود تحتاج أنظمة وإستراتيجيات عسكرية من نوع آخر على عكس "إس 400" الموجّه عادة لأسلحة غربية ثقيلة تملكها دول ذات وزن مثل طائرات "إف 16" أو صواريخ باليستية أو غيرهما.
وعليه، وإن لم تكن روسيا أو إيران أو اليونان أو النظام السوري أو الأكراد هم العدو الذي يُشكّل خطرا، فمَن إذًا يمكنه أن يهدد الأجواء التركية بسلاح غربي متطوّر يستدعي معه صفقة بحجم "إس 400" عطّلت حصول تركيا على أحدث طائرة مقاتلة أميركية بكل ما في برنامج إنتاجها من مزايا اقتصادية وتقنية، وتجلب ضيفا غريبا إلى ترسانتها العسكرية؟ من يمكنه أن يحلق بطائرة "إف 16" ويهدد بها تركيا؟
مظلة الرئيس.. العدو في الداخل
لم تكن طائرة واحدة؛ بل اثنتين حلقتا على مقربة من طائرة الرئيس وثبّتتا أجهزة التصويب الصاروخي عليه وعلى طائرتين أخريين -للمفارقة من الطراز نفسه "إف 16"- كانتا تقومان بتأمين الطائرة المستهدفة وأردوغان على متنها في طريقه إلى إسطنبول، في حين حلّقت طائرات أخرى على ارتفاعات منخفضة فوق إسطنبول وقصفت أخرى مقر البرلمان في العاصمة أنقرة في ليلة طويلة شهدت أول محاولة انقلاب عسكري في تركيا منذ العام 1980؛ محاولة باءت بالفشل، لكنها سلّطت الضوء على شروخ كثيرة بين أجنحة المؤسسة العسكرية، والقوات الجوية بشكل خاص، وتلتها إجراءات غير مسبوقة لتغيير موازين القوى داخل الجيش جرت على قدم وساق طوال السنوات الثلاث الماضية ولا تزال جارية.(12)
أخيرا، ورغم خروج تركيا من برنامج تطوير الطائرة المقاتلة "إف 35" واحتمالية وقوع عقوبات اقتصادية عليها، تأمل إدارة ترامب والنظام التركي كذلك إلى الخروج بأقل خسائر ممكنة في العلاقة بين الطرفين، فقد صرّح وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو بأن "هدفنا هو ألا يتم تشغيل ’إس 400‘" في إشارة إلى قبول وجوده على الأراضي التركية الآن، وهو ما يعني الحصول على فوائده السياسية من جانب أنقرة ولكن ليس العسكرية، وهي مساومة لعلها تُرضي أردوغان الذي لا يزال مشغولا بإعادة ترتيب الصفوف في الجيش كما تشي أخبار الإقالة والتطهير القادمة من أنقرة، آملا أن ينجح في إدارة كل تلك التناقضات بين التقرُّب من موسكو لتحقيق أهدافه السياسية والحفاظ على الروابط الأميركية للحماية من الأخطار التقليدية في آن، والحفاظ على ولاء القوميين المتطرفين من الضباط وتأسيس ذراع منفصل من المقاتلين المحافظين في آن، وكسر شوكة سلاح الجو في الداخل وتطهيره من الانقلابيين ثم الحفاظ على جاهزيته ومستواه وخبرة ضباطه الكبار في آن؛ خيوط تلتقي كلها في عُقدة صفقة "إس 400" لعل سيرها يحدد ما إن كان الرجل سيتمكن من الإمساك بكل تلك الخيوط أم أن أحدها -أو كلها- سيفلت منه.
https://telegram.me/buratha