حسين فرحان ||
كثيرة هي المنغصات التي تعكر صفو حياة هذا المجتمع، وقليلة هي السبل التي يسلكها للخروج من أزماته (الاقتصاديَّة والاجتماعية و الصحية والتعليمية.. وحتى النفسيَّة) وغيرها الكثير مما يستحق التوقف عنده والتأمل فيه بحثاً عن حلولٍ أو رجاء لانقضاء حلقات البلاء فيه، حتى أنَّ بعض السبل للخلاص من مشكلة بعينها ترتق فتقاً وتفتح آخر من باب (بعضُ الشرّ أهوَن من بعضِ)، أو من باب الأولويَّة في إعارة الاهتمام، وإنْ انعدمت فيها فرص المفاضلة.
من الأمثلة على ذلك الاضطرار إلى مراعاة الجانب الصحي على حساب الجانب المادي، فالأولوية هنا للصحة خصوصاً إذا تعلق الأمر بخطورة بالغة على الحياة.
العراقيون، ومع انتكاسة الواقع الصحي في البلد لجؤوا إلى الاستشفاء وراء الحدود، فأصبحت الرحلات الجوية والبرية تأخذهم نحو شرق الأرض تارة وأخرى نحو مغربها، يحملون معهم العملة الصعبة لهدرها في غير محلها، عند شركات السياحة والطيران وفي الفنادق، وفي مشافي الدول الأخرى وجيوب أطبائها. فهي عملة صعبة لا بمعنى كونها (الملاذ الآمن) الذي عرفت به اقتصادياً، ولكن هي عملة يصعب الحصول عند طلبها في مثل هذه الظروف التي يمرَّ بها العراق منذ عقود من الزمن، أو هي صعبة الصرف لأنَّ أغلبها يشكل كدح سنوات طوال لعامل بسيط ربما ادخرها لأمرٍ آخر غير العلاج في الغربة، وربما هي صعبة بمعنى مشقة ردها إنْ كانت مما يُقترض لهذا الأمر، فلم يبق للمضطر حيلة إلا ركوبها.
تجربة الرحلات العلاجية التي يخوضها العراقيون، تكاد تكون بطعم واحد ولون واحد - وإنْ تعددت الوجهات والمقاصد واختلفت العلل بل والمستوى المعيشي- رحلة يكتنفها الغموض بالنسبة لمن يشد الرحال فيها لأول مرة، وتتعدد فيها التساؤلات حد امتلاء الذهن بها وعجز اللسان عن تكرارها الممل، ومما يزيد من المشقة والعناء فيها أنْ يكون الشخص بسيطاً لا يمتلك تلك الأدوات التي تمكنه من الوصول لمراده بسهولة فيكون اللجوء إلى حكايات عن تجارب الآخرين من أصدقاء وأقارب هي الحل الأمثل لاطمئنانه وإزاحة تلك الضبابية التي تكتنف رحلته، رغم أنَّ الكثير مما يروى له من حكايات ستختلف تفاصيلها، لكنها ستنفعه بعض الشيء ولو بتفتيت القلق الكبير لديه، إلى أجزاء يسهل التعامل معها، وسيكون العبء الأكبر على المرافق للمريض الذي عادة ما يكون وِتراً لا يُعينه في الصحبة أحد رعاية للتكلفة الباهظة.
من الحكايات التي سيعيشها المريض ومرافقه والتي يشترك فيها الجميع من دون استثناء في الرحلة العلاجية حكاية البحث عن طبيب خلف الحدود والسؤال عن إمكاناته وتجارب الآخرين معه والاتصال به لمعرفة وقت تواجده وتكلفة ما يقدمه من استشارة أو عملية جراحية لينتقل بعدها لحكاية إصدار الجواز وما يرافقه من إجراءات فيما لو كانت بعض المستمسكات التي يحتاجها لإصداره قديمة أو بالية او ضائعة، فالأمر بحاجة إلى تجديدها بمراجعات لدوائر عدة والدخول في دوامة أضابيرها الورقيَّة و(روتينها) القاتل، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة السفر وحجز الفندق، ثم السفر الفعلي والدخول في دوامة جديدة من محاولات سبر أغوار هذه الغربة والتعايش معها بنحوٍ آمن لا مجال فيه للابتزاز من قبل أي شخص يتم التعامل معه هناك حيث يكون هذا الأسمر القادم من أرض الرافدين محط أنظار كل لاهث وراء الدولار لسد عجز ميزانية جيبه الذي جعله التضخم فارغاً إلا من بعض العملات المعدنيَّة.
فالكثير من البلدان التي يقصدها العراقي للعلاج تعاني من التضخم وارتفاع سعر صرف الدولار فيها، ما يدفع بالبعض إلى استخدام أبشع الأساليب في محاولات ابتزاز الغرباء، ما يستدعي بذل جهد مضاعف من قبل الزائر لتلافي الوقوع في مطبات الاستغلال، فيتحتم عليه بذل جهد في الوصول لشخص موصى به من قبل الأصدقاء أو الأقرباء ممن زاروا تلك البلدان في وقتٍ سابق، وبذل جهدٍ آخر في محاولة تعلم بعض الكلمات الشائعة الاستخدام لغرض الاستعانة بها في فهم أو إفهام المقابل، كذلك بذل جهدٍ كبيرٍ في التعرف على فرق السعر بين العملات ومقارنتها بالدينار العراقي وأنْ تكون لديه سرعة البديهة في الحساب من دون الاستعانة بالآلة الحاسبة أو سؤال شخصٍ معينٍ عن فرق السعر.
سيتعرض المسافر لأغراض العلاج لمواقف عديدة ترِد عليه للمرة الأولى ثم سيتعامل معها بشكل طبيعي في ما بعد، مع الأخذ بنظر الاعتبار عدم الوقوع في مطباتها، ولحين انتهاء رحلته العلاجيَّة سيكون خبيراً بعض الشيء بطبيعة الحياة في هذا البلد أو ذاك مما كان يقصده من بلدان ويكفيه ذلك أنْ ينضم لقافلة الخبراء بشأن هذه السياحة وسيكون قادراً على رواية تجربته لشخصٍ يستشيره بالذهاب وسيكون حريصاً على نقل أدق التفاصيل وسيكون حريصاً على إخفاء المحرجة منها، فهو ناصحٌ بالمقدار الذي يجعله بطلاً في عيون الآخرين.
العلاج في الخارج طامة كبرى تستدعي من المسؤولين وقفة جادة ومراجعة دقيقة، وبحسابات حكومية ترقى لمستوى مسؤوليات حكومة تجاه شعبها لإيقاف هذه المأساة
التي يتعرض لها المواطن وهو يشد رحاله بين الحين والآخر نحو بلدانٍ أخرى من أجل تشخيص دقيق للمرض أو عملية جراحيَّة ناجحة، فأطباء العراق الذين يعملون في المستشفيات الأوروبيَّة أولى من غيرهم في خدمة شعبهم هنا في العراق في منشآت طبية حديثة، والأموال التي تُنفق في الرحلات العلاجية أولى بأنْ يقضي بها المواطن حاجته ووطره، فيخفف عن كاهله ذلك الحمل الثقيل وهو يقف في مفترق طرق كلها شائكة ليختار منها ما يؤنسه بسلامة مريض يهمه أمره وإنْ أدمى الشوك قدميه.
....................
https://telegram.me/buratha