محمد صادق الحسيني ||
أثارت عملية اعادة انتشار قوات الجيش الروسي ، على جبهات كييڤ وبعدها خاركوڤ / ايزومي / وخيرسون كثيراً من الجدل ، بين المراقبين والمحللين العسكريين ، عما اذا كانت تلك العملية ، التي نفذتها القيادة العسكرية الروسية ، بداية الخريف الماضي ، كانت عملية اعادة انتشار مخطط لها ومسيطر عليها تماماً ومدروسةً وتندرج في اطار خطة عسكرية ، اعدتها هيئة الاركان العامة للقوات المسلحة الروسية ، ام انها كانت نتيجةً لضغط عسكري وخسائر كبيرة ، تعرض لها الجيش الروسي على يد القوات المعادية ، اي قوات كييف والغرب الجماعي النازية .
الا ان التحليل العلمي الموضوعي ، لعملية اعادة الانتشار تلك ، يوضح ان ما حصل كان تطبيقا لتكتيك عسكري قديم جدًا ، يعود استخدامه ، لاول مرة ، في معركة لويكترا ( Leuktra ) الاغريقية ، وهي المعركة التي حصلت سنة ٣٧١ قبل الميلاد ، بين جيش إسبارطة ( Sparta ) وجيش ثيبا / Thebae ….. اسمها الحالي Thiva …… ( دولة اغريقية جنوب شرق اليونان) .
علما ان هذا التكتيك يسمى ، في العلوم العسكرية ، تكتيك القوات / المعركه / غير المتوازنه ، واسمه بالانجليزية هو : Crooked Order of Battle .
وقد اكتسب هذا التكتيك اهميته وشهرته ، عبر العالم وخاصة عالم العلوم العسكرية ، لاسباب عديدة ، اهمها التالية :
١) ان استخدامه بالشكل الصحيح يسمح لقادة الجيوش ان تتغلب على اختلال موازين القوى العسكرية مع العدو واستخدام القوات باسلوب يضمن الانتصار على العدو المتفوق ، في العدة والعتاد ، وذلك من خلال حشد القوة الأكبر للجيش على جبهة واحدةٍ ، او حتى على نقطة واحدة ، وترك الميمنة والميسرة لبقية وحدات الجيش ، مع التوقف عن شن عمليات هجومية في خطوط تلك القوات والاكتفاء بالدفاع عن مواقع تلك الوحدات .
٢) ان استخدام هذا التكتيك ممكن ايضاً في حالات لا يعتريها الخلل في موازين القوى العسكرية لصالح العدو وانما تطبيقاً لخطة تهدف الى :
– استخدام اقل عدد ممكن ، من القوات العسكرية المتاحة ، وتقليل خسائر هذا العدد القليل من القوات الى الحد الادنى .
– ومن اجل تحقيق هذا الهدف يتم تركيز الجهد الرئيسي للقوات المتاحة / المستخدمة / على قاطع واحد او حتى نقطة واحدة على الجبهة ، مع الابقاء على بقية القوات في مواقع دفاعية محصنة يسهل الدفاع عنها ، امام قوات العدو ، دون التعرض للخسائر .
٣) اما أشهر المعارك ، التي استخدم فيها هذا التكتيك العسكري ، في العصر الحديث فقد حصلت بتاريخ ٥/١٢/١٧٥٧ ، في مدينة : لويتِن / Leuthen / في مملكة بروسيا ( تسمى بالانجليزية : Battle of Leuthen ) ، في مواجهة جيش امبراطورية النمسا ، الذي كان يضم ٦٦٠٠٠ جندي ، بينما كان جيش بروسيا يضم ٣٥٠٠٠ جندي فقط . وهي احدى معارك السنوات السبع في التاريخ الاوروبي لحقبة القرن الثامن عشر .
ونتيجة لاستخدام هذا التكتيك استطاع جيش بروسيا ، الاقل عددًا ، من قتل ٢٢٠٠٠ جندي من الجيش الامبراطوري النمساوي وقتل الملك : كارل اليكساندر فون لوترينغن / KarlA,exander von Lothringen / وتحقيق انتصار ساحق على الجيش الامبراطوري.
٤) اذن ، فان القتال بجزء قليل من القوات ، كما تقاتل القوات الروسية في مدينة أرتيموڤيسك ( باخموت باللهجة الاوكرانيه ) هي الطريقه الانجع لتحقيق الاهداف التالية :
– الحفاظ على ارواح جنود الجيش الروسي وقدراته العسكرية . ولهذا الامر ، طبعاً ، بعداً استراتيجياً لا بد من تسجيله ، وهو النظرة الاعمق لاستخدام القوات بطريقة استراتيجية، على الرغم من ان هذا الجزء من القوات يخوض معركة تكتيكيةً ليست استراتيجية .
الا ان القيادة الروسية لم تغفل اللحظة الاستراتيجية ، عندما وضعت الخطط العسكرية لمواجهة الغرب الجماعي وعصابة النازيين في كييف ، بل وضعتها على سلم اولوياتها ، من خلال تعاملها مع المعركة الدائرة حالياً على اراضي اوكرانيا ، على انها معركة تكتيكية في خضم معركة استراتيجية مع الهيمنة الاميركية وادواتها كحلف شمال الاطلسي ، ما يستدعي المحافظة على القوات لمراحل، قد تصبح ضرورية لاحقاً .
– تدمير قدرات العدو ،البشرية والعسكرية / التسليحية / وذلك من اجل التقليل من استخدام القوات ، في عمليات هجومية ، الا بعد التمهيد الناري الملائم ، اي بعد تدمير قوات العدو في اي نقطة من نقاط الجبهة ،وفي هذه الحالة فان الحديث يدور عن جبهة أرتيموڤيسك / باخموت.
وبكلمات اوضح فان التكتيك ، الذي نتحدث عنه ، يرمي الى تحويل منطقة العمليات الى مقبرة لجنود العدو واسلحته .
٥) وهذا ما نلاحظه بالضبط ، في أرتيموڤيسك/ باخموت منذ اشهر ، حيث يقوم الجيش الروسي بعملية تدمير ممنهجة لسلاح حلف شمال الاطلسي ولقوات كييف النازية ، العميلة للحلف ، على الرغم من ان خبراء حلف الاطلسي العسكريين ، وخاصة الضباط الالمان والفرنسيي ، قد حولوا هذه المدينة الى قلعةٍ محصنة ، كان يفترض ان تشكل القوات النازيه المرابطة فيها ، الى جانب الحصون التي كانت مقامة في مدينة ماريوبل في الجنوب ، رأس حربة للهجوم على الاراضي الروسية والتوغل فيها .
اذن الجيش الروسي قادر على السيطرة على مدينة أرتيموڤيسك / باخموت / لو أراد . الا انه مصمم على استكمال عملياته في تدمير القدرات التسليحية لحلف شمال الاطلسي ودوله ، بدليل انه يحافظ على طريق فرعي يسمح لفلول القوات النازية الاوكرانية بالانسحاب غرباً ، دون معدات بسبب الظروف الجوية ( الاوحال) ،ولا تفصل ميمنة القوات ، في شمال المدينة ،عن ميسرتها جنوب المدينة ، سوى مسافة كيلومترين فقط .
وهي قادرة ، لو ارادت ، تدمير هذه المسافة الفاصلة واحكام الحصار الى المدينة ، الا ان هدف العمليات العسكرية ، على هذا القاطع من الجبهة ، ابعد من فرض حصار على المدينة .
٦) وبالعودة الى التكتيك اعلاه ، فان احد اهم مرتكزاته هو مبدأ تدمير قدرات العدو الاستراتيجية ، من خلال نقطة تكتيكية او قاطع عمليات تكتيكي ، وذلك لتأمين الظروف الاكثر ملائمة لاحداث انهيار شامل على جبهة العدو وخطوط دفاعاته ، والتي سيقوم الجيش الروسي عند حصولها الى السيطرة الفورية على المدينة ، والاندفاع غرباً ، وعلى طول جبهة الدونباس ، للسيطرة على كامل محافظتي لوغانسك ودونيتسك ، وربما ابعد من ذلك اذا اقتضت ظروف الميدان ذلك .
اذ ان قيام القوات المسلحة الروسية بتنفيذ ضربات صاروخية واسعة النطاق ،في جميع انحاء اوكرانيا ، واستخدامها صواريخ كينجال الفرط صوتية لضرب غرف عمليات ، يديرها ضباط من حلف الاطلسي بينهم امريكيون ، وتدميرها والقضاء على من فيها ، ربما يحمل رسائل واضحة الى من يعنيه الامر ، كي يفهمهما الغرب المتغطرس ان موسكو قادرةً وجاهزةً للدفاع عن سيادة الدولة الروسية ووحدة اراضيها وان حلف شمال الاطلسي بقيادة الولايات المتحدة ، وترسانته العسكرية ، سيهزمون كما سبق ان هزم نابليون وزعيم النازية الالمانية ادولف هتلر وان روسيا القوية سيكون لها دوراً ريادياً في تشكيل العالم الجديد ،كما كان للاتحاد السوفييتي دوراً ريادياً في دعم حركات التحرر في آسيا وافريقيا للقضاء على بقايا الاستعمار الغربي لدول تلك القارتين .
بعدنا طيبين قولوا الله
ــــــــــ
https://telegram.me/buratha