( بقلم : محمد كاظم الجادري )
(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)منذ الخلق الأول لأبينا آدم (ع)، مرت العديد من الإنعطافات التاريخية التي كان لها الأثر الأكبر في صياغة الإنسان نحو الكمال والصلاح، وكان أبطال هذا الرحلة المضنية والشاقة هم الأنبياء والأئمة (عليهم الصلاة والسلام).ونحن نعيش واقعة الطف كربلاء، لا بد من إلقاء الضوء على كربلاء. حيث طلّت في أرضها سحابة الدم الحر الشهيد فأنبتت أجيال الشهداء الثوار، وها هي أصداء الصوت الأبي الذي أطلقه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) تتردد في وادي الطفوف، وتقرع مسامع الأجيال، وتطوف في ربوع التاريخ إعصاراً يعصف بالطغاة، وبركان دم يهز عروش الظالمين ويوقظ الضمائر الحرة، ها هو صوته يدوي ويملأ مسامع الزمن:(لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد).
إن رجل التاريخ اللامع هذا وأسطورة الملاحم والكفاح وكلمة الإباء والشرف هو الحسين. فمن هو هذا الحسين (ع)؟ وما هي معالم هذه الشخصية الفذة العملاقة؟.هو الحسين السبط بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) بن عبد المطلب بن هاشم، وأمه فاطمة الزهراء (ع) بنت محمد رسول الله (ص). ولد الحسين (ع) الشهيد في المدينة المنورة في الخامس من شعبان السنة الرابعة من الهجرة وقيل الثالث من شعبان. ولد الحسين (ع) فاستقبلته الأسرة النبوية بروح الحب والحنان، فسماه رسول الله (ص) (حسيناً). نشأ وترعرع في أحضان رسول الله (ص) وبين أمير المؤمنين علي (ع) وفاطمة الزهراء (ع)، فارتضع أخلاق النبوة وشب على مبادئ الرسالة الإسلامية العظيمة، مبادئ الحق والعدل والإباء. أحاطه رسول الله في طفولته بمشاعر الحب والحنان، وكان يحمله وأخاه الأكبر (الحسن) (ع) على صدره الشريف، ويصرح أمام أصحابه ويعلن عن هذا الحب الأبوي الكريم ويقول:(اللهم إني أحبهما وأحب من أحبهما)، ويقول في عبارات أخرى:(إن ابني هذين ريحانتاي من الدنيا). وكان رسول الله ذات يوم يصلي والحسن والحسين عليهما السلام يتناوبان على ظهره الشريف فباعدهما الناس عن ظهره فقال:(دعوهما بأبي هما وأمي من أحبني فليحب هذين). وهكذا يعرِّف بالحسين الشهيد (ع) في طفولته ويشخِّص مقامه للأمة لئلاّ تعتذر يوماً عن الجريمة الكبرى بحقه. هذا هو الحسين في قلب رسول الله وفي عرفه وشريعته، وقد نشأ في بيت من أكرم بيوتات الإسلام وأعزها وهو بيت رسول الله (ص)، وتربى على خلقه ومبادئه فكان مثال الورع والتقوى وقدوة الإخلاص والزهد والعبادة. قوي الشخصية شجاعاً غيوراً على الإسلام والأمة. ذو شخصية قيادية عظيمة، شديد التمسك بالحق، قوي الإرادة، لا تأخذه في الله لومة لائم. فبهذه الصفات العظيمة وبهذه الشخصية العبقرية وبهذه المكانة الإجتماعية الفريدة، صار الحسين (ع) قوة فعالة في ضمير التاريخ الإسلامي وإرادة حية تؤثر عبر الأجيال. لقد نحت له هذا المجد العظيم تمثالاً في قلوب كل حر أبي يعرف للإنسانية حقها وللمبادئ والقيم قيمتها، فهو مثال الحر الأبي ومثال الثائر المنتصر للمستضعف المظلوم، وهوأحد القربى الذين أمر الله سبحانه وتعالى بحبهم حيث قال في محكم كتابه الشريف:(قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنةً نزد له فيها حسناً). وهو أحد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس حيث قال تعالى:(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً). هذا هو الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فهو شعار مدرسة، وتيار كفاح، وجهاد رسالي وسياسي فريد في تاريخ الإسلام، لذلك فإن دوره كبيراً وأثره عظيماً، فقد كان قوة دافعة ومحركة في أحداث التاريخ الإسلامي وخصوصاً الجهادي منه على مدى أجيال وقرون عديدة، ولم تزل نهضته وحركته ومبادئه تتفاعل وتؤثر في ضمير الأمة ووعيها.
إن السياسة الأموية وواقع الإنحراف الذي خطط له الطاغية معاوية، وتبناه بشكله المرعب فور موته بتولي إبنه يزيد الحكم الموروث، أن منح يزيد السلطة ليقود الأمة الإسلامية، ويخطط لمستقبلها ويحدد مسارها، فهذا معناه الإنهاء العملي للوجود الإسلامي على الإطلاق، وردة واقعية عن مبادىء السماء وعودة للجاهلية ولكن في ثوب جديد، فيزيد هذا كما تؤكد المصادر التاريخية يغلب عليه طابع الشذوذ في شتى أفكاره وممارساته ومشاعره، وأن يزيد لم يتوفر له أي انفتاح واع على الرسالة الإسلامية وأهدافها العليا التي تحقق أرقى صياغة للإنسان كفرد وكعضو في المجتمع.
ومن الجدير بالذكر أن يزيد بن معاوية هو بن ميسون النصرانية الذي تربى في حجرها وعند قومها النصارى، ويحدثنا التاريخ عن نشاطات مشبعة بروح الإنحراف عن الإسلام مما كان بن معاوية ابن أكلة الأكباد يمارسها على مسمع ومرأى من كثير من المسلمين في بلاد الشام، كاللهو الماجن واللعب الخليع وشرب الخمور ومنادمة الفتيات والغناء وكان يلبس كلابه أساور الذهب، واشتهربالمعازف والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والدباب والقرود، وما من يوم يمر إلا يصبح فيه مخموراً.
قرر معاوية أن ينصب إبنه يزيد هذا الوزغ المنحط خلقياً خليفة على المسلمين، ويأخذ له البيعة بنفسه خلافاً للأعراف والأحكام الإسلامية المتبعة في تعين الخليفة. فأثار هذا القرار الرأي العام الإسلامي وخصوصاً الشخصيات الإسلامية البارزة كالحسين (ع) وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن عمر وشخصيات أخرى. ذلل معاوية الصعاب وأحكم القبضة بكل ما أوتي من وسائل المال والدهاء والإرهاب. ونقل السلطة ورئاسة الدولة إلى ولده يزيد الفاسق مما حفز الأمة للثورة وجعلها تتهيئ لخلع يزيد الحاكم المفروض عليها.
وطبيعي عندما تشتد المحن وتتوالى الشدائد، ويطوق الأمة طوق الإرهاب والتسلط السياسي الجائر تتجه الأنظار الى رجال المعارضة وقادة الرأى التي تحمل روح الثورة والتضحية وتعيش من أجل المبادئ والقيم، ولم يكن في الأمة يومها من رجل كالحسين بن علي (عليهما السلام)، فهو سيد قريش وسبط الرسول وابن أمير المؤمنين وخير رجال الأمة علماً وورعاً وكفاءةً وخلقاً، وليس في المسلمين من يجهل مقامه الشريف أو لا يعرف شخصيته. ويزيد يعرف تعلق الأمة بالحسين (ع) وشدة الحسين وعنفه وروح الوثبة والثورة فيه، فكتب في الأيام الأولى من توليه السلطة وبعد هلاك الطاغية معاوية، رسالة الى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة آنذاك كتاباً جاء فيه:- أما بعد، فخذ حسيناً وعبد الله بن عمر وابن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليس فيه رخصة حتى يبايعوا. إستلم الوليد رسالة يزيد وقرأ فيها نعي معاوية وإعلان البيعة ليزيد وتكليفه بمهمة سياسية كبرى. إستدعى مستشاره مروان ليبلغه نبأ هلاك معاوية وإعلان البيعة ليزيد، وفي كيفية مواجهة الحسين وتنفيذ قرار يزيد فأشارعليه مروان:(أرى أن تدعوهم الساعة وتأمرهم بالبيعة فإن خلعوا قبلت منهم وإن أبو ضربت أعناقهم). فأرسل الوليد عبد الله بن عمر بن عثمان وهوغلام حدث إلى الحسين (ع) وابن الزبير يدعوهما للحضور فقالا انصرف الآن ناتيه. لم يكن هذا الإستدعاء إعتيادياً، ولم يكن الحسين ليغفل عنه، وماذا يريد الوليد في هذه الساعة، أحس الإمام الحسين وابن الزبير بخطورة الموقف وأدركا أن امراً جديداً قد حدث، وظن الحسين (ع) أن الطاغية معاوية قد هلك فبعث إلينا ليأخذ بالبيعة منا قبيل أن ينتشر في الناس خبر هلاك الطاغية معاوية.
وهكذ استقبل الحسين (ع) الخطة الأموية وتهيأ للمواجهة وأدرك المباغتة وعرف لغة التعامل مع هذا الحزب ثم قال:(لا آتيه إلا وأنا قادر على الإمتناع)، ثم بعث الحسين الشهيد إلى أهل بيته وحاشيته فاجتمع من حوله ثلاثون فارساً، فكانوا كوكبة أبطال ورجال ثورة، ثم سار إلى الوليد ومعه حرسه ورجاله مستعداً للدفاع متأهباً للمواجهة بهذه الروح وبتلك العزيمة وبالموقف الشجاع وبالتحدي والرفض، ومن الوهلة الأولى قرر الحسين (ع) أن يجابه تسلط يزيد ويرد على الموقف السياسي الخطير، فهو يعرف يزيد ويدرك عمق المأساة ويعلم أن لا بد من السيف والدم والثورة والجهاد وسحب الصفة الشرعية من هذا المتسلط الطاغية بأي ثمن كان، فليس في نفس الحسين (ع) الثائر الشهيد رضى ولا مهادنة وليس في لغته ضعف ولا وهن، فبين جنبيه قلب علي بن أبي طالب، وفي يده سيف الحق، وفي نفسه نفحة النبوة وعزة الإمامة وشرف الرجولة.
سار الحسين ليحدد الموقف ويعلن القرار ويحسم النزاع ويقول كلمة الرفض وهويمثل إرادة الأمة وينطق بلسان الشريعة ومن حوله حاشيته وأهل بيته موحياً بالمواجهة وملوحاً بالموقف الصعب ومهدداً بالعنف والثورة. سار موكب الحسين حتى وصل ديوان الوليد وقد حضر مروان بن الحكم. فاقتحم الموكب الحسيني مجلس الوليد وروح الرفض والتحدي ظاهرة على الحسين الشهيد(ع) وأجلس حرسه ورجاله في موضع بحيث يرون مكانه ويسمعون قوله لئلا يؤخذ غدراً أو يهاجم على حين غرة. ثم احتاط للأمر وأعد رجاله وحرسه للوثوب والهجوم ووضع كلمة سر بينه وبينهم. بدأ الحوار بعد أن سلم عليهم وجلس عليه السلام وأخبر الوليد الحسين بموت معاوية وعرض عليه البيعة ليزيد، فقال الحسين أيها الأمير إن البيعة لا تكون سراً ولكن إذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم، فقال مروان لا تقبل أيها الأمير عذره وحتى لم يقبل فاضرب عنقه، فغضب الحسين (ع) ثم قال ويلك يا ابن الزرقاء، أأنت تضرب عنقي... كذبت والله وخسئت، ثم أقبل على الوليد وقال: إنا أهل النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة وبنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة. ثم خرج وانفض المجلس وانصرف الحسين عائداً إلى أهله وقد عزم على الجهاد وتأهب للمواجهة، ثم قرر التحرك وإعلان الثورة وأن يتخذ مكة المكرمة مقراً للإنطلاق وميداناً للتحرك. وخرج الحسين من المدينة المنورة رافضاً للسلطة اليزيدية ومعلناً للثورة على يزيد، ويجيب على تساؤلات وأسئلة الكثيرين ويحدد هوية الحركة ومعالم الإنطلاقة وأسس المواجهة مع النظام الأموي الجديد، فقد أرسل رسالة إلى أخيه محمد بن الحنفية وقد جاء في نص الرسالة:-( لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر وأسير سيرة جدي وأبي)، ويوضح سبب رفضه لبيعة يزيد بقوله:-(يزيد رجل فاسق شارب للخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله)، فالإسلام يشترط في القائد الذي يقود الأمة ويمسك بزمام الأمور أن يلتزم بقواعد القسط والعدل ويحترم قوانين الشريعة وإرادة الأمة ويلتزم بسيادة القانون ويتجرد عن حب التسلط واستغلال المنصب وجعله طريقاً للاثراء والمتع والإستئثار. فقد كان الحسين (ع) يرى القيادة أداة ووسيلة لوضع الأمة على طريق الهدى والصلاح والعمل على تربية الإنسان وبناء شخصيته وتنظيم الحياة وتطويرها نحو الخير والكمال. فهو يعلم أنه القادر على هز الحكم الأموي، وتفجير البركان تحت عرش يزيد، وأنه القادر على كلتا الحسنتين: النصر أو الشهادة، وأن يختط للأمة درب الجهاد والثورة على الحاكم الظالم، فإن انتصر سيقيم عدل الإسلام ويطبق أحكام الشريعة وقيم الحق التي نادى بها، وإن استشهد فسيبقى شلال الدم المقدس يجري عبر وديان الحياة يخصب الثورات ويسقي أغراس الشهادة. لقد كان الموكب القليل العدد العظيم الإرادة الذي زحف به الحسين من مدينة جده الرسول الخالد محمد (ص) إلى مكة المكرمة، ليقرر هناك مستقبل المسيرة الخالدة. ولقد اجتمعت الكوكبة من آل البيت النبوي (ع) حول الحسين وسلكت درب الكفاح الطويل، فقد اصطحب الحسين (ع) معه أخوته وأبناءه وبني أخيه وجل أهل بيته، ولم يغادر الحسين المدينة المنورة حتى زار قبر جده رسول الله (ص) زيارة المودع الذي لا يعود، فقد كان يعلم أن لا لقاء له مع مدينة جده، ولن يزور قبره بعد اليوم، وسيكون اللقاء في مستقر رحمة الله، لن يلقي جده إلا وهو يحمل وسام الشهادة. وقف الحسين الى جوار القبر الشريف فصلى ركعتين ثم وقف بين يدي جده العظيم محمد (ص) يناجي ربه: (اللهم هذا قبر نبيك محمد (ص) وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك ياذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه إلا ما اخترت لي ما هو لك رضى ولرسولك رضى). وهكذا كانت عزيمة الحسين (ع) إصرار ومضاء قرار الرجال، وحزم القائد الذي لا يلين. إتجه ركب الحسين نحو مكة، وسارت الكوكبة الرائدة في طريق الجهاد والشهادة، سار الحسين (ع) ومعه نفر من أهل بيته وأصحابه وبرفقته نساؤه وأبناؤه وأخته زينب الكبرى وهو يقرأ قول الله تعالى: (فخرج منها خائفاً يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين). المسافة شاسعة والأرض مديدة ورمال الصحراء توقدها حرارة الشمس اللافحة وقطار الحسين (ع) يخترق قلب الصحراء ويجتاز كثبان الرمال ولوافح الحصى. وهكذا سارت كواكب الفداء وطلائع الجهاد تيمم وجهها شطر البيت الحرام لتنتهي إلى أرض الطفوف كربلاء، إلى مثوى الخالدين ومنار الأحرار، يقودها الحسين سالكاً الدرب الذي اعتاد الناس سلوكه متحدياً السلطة والقوة والمطاردة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهذا هو الحسين - الفصل الثاني
إن روح الإمام علي (ع) ما زالت تسبح بين جنبيه، وقلب ذاك البطل الشجاع يربض كالجبل في أعماقه. لقد رحل ابن رسول الله (ص) وهجر مدينة جده (ص). إنه قادم على أمر عظيم، لقد أبى البيعة ورفض الخنوع لسلطة الطاغية يزيد، وما عسى الأمة أن تنتظر؟ ها هي ديار علي والحسين والزهراء قد أمسى عليها ليل الفراق وأحاطتها وحشة البعد والغربة وأمست المدينة موحشة تبكي سيدها الراحل والقلوب يعتصرها الأسى والنفوس يفترسها الألم، وسيغيب الحسين عن سماء المدينة نجم ليس بوسع السماء أن تلمع بمثله، ها هي داره مطفأة الأنوار وها هو بيته الرفيع أمسى خربة مهجورة، لقد كانت بالأمس تعمرها الصلاة وتتعالى في أرجائها أصوات المتهجدين ويرى الناس فيها وديعة رسول الله (ص) وبضعة الزهراء البتول وبقية أهل الكساء، وقد أمست اليوم صوت ناعي يبكي الراحلين وقلب آسي ينعي المغتربين، لقد بقيت الدار هي الأخرى معلماً من معالم الإحتجاج وقلعة من قلاع الصمود. ومن يوم هجرها الحسين (ع) وحتى آخر عهدها يندبها الشعراء ويناجيها الأدباء. لقد أصبحت الطلول تشكو غياب الحسين (ع) وتندب الراحلين في ظلمة الليل البهيم بصمتها الناطق وسكوتها المعبر وربوعها الخالية وشموخها المهيب، وراح ركب الحسين (ع) يطوي الفلاة ويعد السير حتى بلغ مكة المكرمة ودخل أرض الحرام ( ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان دخلها وهو يقرأ قوله تعالى:-(ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني السبيل).
حلّ الحسين (ع) في مهبط الوحي ومدينة السلام مكة المكرمة، فنزل في دار العباس بن عبد المطلب. سرى نبأ قدوم الحسين (ع) إلى مكة وانتشر خبر خروجه من المدينة ورفضه لبيعة الطاغية يزيد، وبدأت الوفود والرسائل تفد عليه من أرجاء شتى، وبدأ يبعث بالكتب والرسل ويدعو للثورة وإسقاط سلطة يزيد وخلع بيعته التي أخذها بالقهر والإرهاب والرشاوي، وبدأ التكتل وعقدت الإجتماعات في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، واستبشرت الجماهير بتحرك الحسين (ع) وكان من آثار هذا التحرك أن دبت روح الثورة في العراق مركز الحركة السياسية الموالية لأهل البيت آنذاك. فقد اجتمع زعماء المعارضة من أنصار الحسين (ع) في الكوفة في بيت سلمان بن صرد الخزاعي واستعرضوا الأوضاع السياسية والإجتماعية وموت الطاغية معاوية بن أبي سفيان وانتقال السلطة إلى الطاغية يزيد. وقرروا نصرة الحسين (ع) والإنضواء تحت قيادته وإعلان الولاء له، فقام سلمان بن صرد الخزاغي فألقى خطاباً في الحاضرين قال فيه:- إن معاوية قد هلك وإن حسينا قد تقبض (أي اشمأز وامتنع عن البيعة)، على القوم بيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدوا عدوه وتقتلوا أنفسكم دونه، فاكتبوا إليه وأعلموه، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل في نفسه، قالوا لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه، قال اكتبوا إليه فكتبوا إليه:- بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتآمر عليها بغير رضى منها.. إلى آخر الكتاب. وسيروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال، واستمرت الكتب والرسائل تتوارد على الحسين (ع) وصيحات الإستغاثة تنطلق: (ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى وفي رسائل أخرى (إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل). وبعد كل المعلومات التي توفرت لدى الحسين (ع) أصبح العراق هو البلد المرشح للإنطلاق وإعلان الثورة وقيام دولة الإسلام الراشدة.
إنطلق الركب يوم الثامن من ذي الحجة ومضى الحسين (ع) لا يلوي على شئ، فقلبه يحوم حول مصرعه في أرض الميعاد وقطاره يستحث الخطى نحو سرادق الشهادة. واصل المسير وفي نفسه شوق وتطلع لمعرفة الأوضاع السياسية وطبيعة الرأي العام في العراق، فصادفه الشاعر المعروف (الفرزدق) في موضع (الصفاح) فسأله الحسين ( ع) وطلب منه أن يصور له الأوضاع التي خلفها وراءه فوصفها الفرزدق بقوله:-( قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء)، فقال الحسين (ع) صدقت، لله الأمر والله يفعل ما يشاء وكل يوم ربنا في شأن، إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته).
سرى نبأ مسير الحسين (ع) فاضطرب الموقف الأموي وشعرت السلطات بالخوف من انقلاب سياسي يطيح بعرش الطاغية يزيد، فتناهى الخبر إلى عبيد الله بن زياد وهو والي يزيد على الكوفة، فأعد جنده ورجاله ووضع خطة لقطع الطريق أمام الحسين (ع) والحيلولة دون وصوله إلى الكوفة، فبعث مدير شرطته الحصين بن نمير التميمي وكلفه بتنفيذ المهمة، فاختار الحصين موقعاً استرا تيجياً يسيطر على طريق مرور الحسين (ع)، فنزل في (القادسية) واتخذها مقراً لقيادته، ونظم خطاً عسكرياً يمتد من القادسية حتى (خفان)، وآخر يمتد إلى (قطقطانة)، ومد انتشار هذه القوات حتى جبل (لعلع).
أما الحسين (ع) ما زال مجداً في السير، تطوي ظعائنه أبعاد الفلاة ويواصل الزحف نحو العراق حتى بلغ موضعاً يسمى (الحاجر)، ومن هناك كتب كتاباً إلى أهل الكوفة يشحذ فيه هممهم ويحثهم على الثبات والمواجهة ويعلمهم بمسيره وقدومه. طوى الحسين (ع) وأوفد قيس بن مسهر الصيداوي لهذه المهمة، فانطلق نحو الكوفة يحمل كتاب الحسين (ع) ويبشرهم بقدوم القائد المغوار، إلا أنه وقع أسيراً بيد قوات الحصين المنتشرة في القادسية، فنقل إلى عبد الله بن زياد. طلب منه أن يصعد المنبر ويسب الحسين (ع) وكان جريئاً وبطولته نادرة، فصعد المنبر وحث الناس على نصرة الحسين (ع)، ولعن بن زياد وآبائه واستغفر لعلي فاستشاط ابن زياد غضباً وطلب من جلاوزته أن يصعدورا به إلى أعلى القصر ويرموه إلى الأرض. وألقي به من فوق قصر الامارة وتقطع جسده الطاهر واستشهد رضوان الله عليه. ووصل خبر أسر الرسول واستشهاده للحسين (ع) في موضع يدعى (زبالة).
وهكذا راحت تتوارد على الحسين (ع) أنباء الإنتكاسة وتلوح له بوادر الإنعطاف الخطير، وشعر بالخذلان ونقض العهود. إستقر الحسين (ع) تلك اليلة في منطقه يقال لها (زبالة)، وهو ينعي مسلم وهاني وعبد الله بن بقطر، ويقلب الأمور في مستقبل الحركة ومصير الأمة. وحين أذن الصباح بالإفصاح تحركت القافلة الحسينية وواصل المسير ماراً (ببطن العقبة) عبر مسالك الصحراء الوعرة والمستقبل البهيم يرتسم أمامه والثقة بالله تملأ جوانحه، وتابع المسير حتى بلغ موقع يقال له (شراف)، وفي الطريق فوجئ الحسين (ع) وأصحابه مع قلة العدد وعدم التهيأ للقتال وانكشاف الأرض بهذا الجيش الكثيف الزاحف نحوهم من القادسية، فاستشار أصحابه وسألهم أما لنا ملجأ نلجأ إليه في ظهورنا ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فأ شاروا عليه بالإتجاه إلى جبل (ذوحسم) والتحصن به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهذا هو الحسين - الفصل الثالث
فاتجه الحسين (ع) هو وأصحابه إلى الجبل، وعسكر العدو المتشكل من ألف مقاتل يزحف نحوهم بسرعة وبقيادة الحر بن يزيد الرياحي، فراح الحر يضايق الحسين (ع) ويسابقه لاحتلال الموقع الإستراتيجي من الجبل فسبقه الحسين (ع) إلى الموقع وأمر بخيامه فضربت. كان الوقت ظهراً والحر شديداً وجيش الحر يكتوي بحر الظهيرة وخيوله تلهث من العطش ورجاله تتلوى من الضمأ، نظرالحسين (ع) إليهم بأخلاق النبوة التي عامل بها رسول الله (ص) أهل مكة يوم الفتح والنصر، وبروح العطف التي تربى عليها في بيت الإمامة فحنى على هذا الجيش الذي جاء لمحاصرته بقلبه الكبير وشملهم بشعوره الإنساني النبيل وأمر أصحابه بسقي الخيل والرجال بل وشارك هو بنفسه بتقديم الماء وإرواء بعض العطاشى المتلهفين.
كان وقت صلاة الظهر قد حان وآن للحسين (ع) أن يعرج بصلاته إلى الملكوت الأعلى، ما أن انتهى المؤذن حتى قام الحسين خطيباً بين المعسكرين موضحاً للحر والجند الذين كانوا معه رأيه ومبادئه، ثم طالبهم بالوفاء بالعهود والمواثيق وذكر لهم الكتب والرسل التي أرسلوها إليه فسكت الجميع ولم يردوا على الخطاب. يئس الحر من الحسين (ع) وتنحى عنه فسار الحسين (ع) حتى انتهى إلى (غذيب الهجانات) ثم استمر حتى وصل إلى موقع (قصر بني مقاتل) فنزل به، وفي ساعة متأخرة من الليل أمر فتيانه بالتزود بالماء والبدء بالرحيل وامتطى الحسين (ع) جواده وقد أخذ السهر والإعياء منه مأخذاً فغشيه النوم لحظة ثم انتبه وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين)، فقال له إبنه علي بن الحسين (ع) مم حمدت الله واسترجعت؟ فقال: يا بني إني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرسه وهو يقول: (القوم يسيرون والمنايا تصير اليهم). واخترقت خيوط النور إهاب الليل البهيم وبدأ وجه الصباح الملئ بالأسرار والمفاجآت حتى انتهى إلى موقع يدعى ( نينوى).
فوجئ الحر برسول عبيد الله بن زياد يحمل رسالة شديدة اللهجة موجهة للحر بن يزيد الرياحي يقول فيها: (أما بعد فجعجع بالحسين (ع) فلا تنزله إلا بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك أمري والسلام). توجه الحر إلى الحسين (ع) فقرأه عليه وأطلعه على رأي عبيد الله بن زياد فقال له الحسين (ع) إذاً دعنا ننزل (نينوى) أو(الغاضريات) أو (شفية). رفض الحر طلب الحسين (ع) وتذرع بالخوف من عناصر الإستخبارت والرقابة في الجيش، ثم بادر زهير بن القين واقترح النزول في منطقة قريبة تدعى (العقر)، فرفض الحسين (ع) ذلك وأصرعلى مواصلة المسير ليرد أرض الميعاد وليحط رحله حول سرادق الشهادة في أرض كربلاء. ثم قام الحسين (ع) خطيباً: (إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبرمعروفها ولم تبقي منها إلا صبابة الأناء وخسيس كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقاً، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما).
وهكذا قاد القدر المسيرة وأخذ القضاء بزمام الركب حيث الموعد والمثوى، فسار ولم يقطع مسافات طويلة حتى اعترضه الجيش الأموي واضطره للنزول. توقف الحسين (ع) وراح يسأل وكأنه يبحث عن كربلاء (ما إسم هذه الأرض؟ فقيل له (الطف)، فقال هل لها إسم غير هذا؟، قيل إسمها كربلاء، فقال:(اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء انزلوا، ها هنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وها هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله (ص). راحت الجيوش تتوالى، وراح عبيد الله بن زياد يبعث بقواته المسلحة بشتى صنوفها، وكان من أبرز الذين انتدبهم لتنفيذ الجريمة ومقاتلة الحسين (ع) هو عمر بن سعد، وقد سُمِعَ يقول ويردد الشعر:
أأتـرك مُـلك الـري والري رغبة أم أرجع مذموماً بقتل حسين
وفي قتله النار التي ليس دونها حجاب ومُلك الري قرة عيني
واتجه نحو الحسين (ع) وهويقود أربعة آلاف مقاتل، فاتخذ من نينوى مقراً لقواته، وحرك عمر بن سعد جيوشه وفرسانه في السابع من محرم لتطويق الحسين (ع) من جانب الفرات والحيلولة بين آل الرسول وبين الماء ليموتوا عطشاً أو يضطروا للتسليم كجزء من خطة الحرب والحصار.
إبتدأ الزحف الآثم عصر يوم الخميس التاسع من شهر محرم الحرام، وراحوا يلوحون بالسيوف والرماح والحسين (ع) جالس أمام فسطاطه ينظر في صحراء الطف ويجول في آفاق الحدث الكبير ويرقب جولة الباطل وحميمة الشيطان، وترتسم أمامه لوحة المشهد وتصور فصول المعركة والشهادة فيراها كوكباً تألّق في سماء التاريخ وحركة لا تهدأ في ضمير الأحرار. لم يكن الحسين (ع) ملتفتاً إلى جموع جيش عمر بن سعد، وها هي الجيوش تحيط بظعن الحسين (ع) والنساء والصبية من آل الرسول (ص) يرقبون المحنة بقلوب حرى ونفوس واجفة والحسين (ع) يتحرك حول المخيم ويخطط لحماية الأطفال والنساء من غارات الجيش المتحفز بروح الحقد والكراهية للإجهاز على هذه الكوكبة النيرة وإطفاء نورها من أفق الإسلام. وقبيل المغيب وقف الحسين في أصحابه وأهل بيته (ع) خطيباً ليخبرهم أن القوم لا يريدون قتل غيره، وبوسع كل واحد أن ينسحب تحت جنح الظلام وينجو من القتل، فرفض الجميع ذلك وأصروا على القتال والفداء. جن الليل وأرخى الصمت سدوله وهدأ الطير ونامت جفون الخلائق كلها إلا آل محمد (ص). باتوا ليلتهم بين داعٍ ومصلٍ وتالٍ للقران ومستغفرٍ وبين مودعٍ وموصيٍ بأهله وأبنائه ونسائه، فكان لهم دوي كدوي النحل وحركة واستعداداً للقاء الله سبحانه وتعالى، يصلحون سيوفهم ويهيئون رماحهم، فباتوا تلك الليلة ضيوفاً في أحضان كربلاء وبات التاريخ أرِقاً ينتظر الحدث الكبير، وباتت سيوفهم ورماحهم أقلاماً تتهيأ لتخط في صفحات التاريخ بمداد الدم المقدس أروع فصل كتب في عمر الإنسان. قد أحاطت بهم الخيل والليل والغربة والجيش الذي راح يتكاثر ويجتمع، الألف بعد الأف والمئة بعد المئة حتى أمسى جيشاً عرمرماً. انقطعت ليلة الهدنة وطلع ذلك اليوم ورؤوس الأسنة والرماح والأحقاد وهي مشرعة لتلتهم جسد الحسين (ع) الطاهر.
عبأ عمر بن سعد رجاله وفرسانه فوضع على ميمنة الجيش عمر بن الحجاج وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس وعلى الرجالة شبث بن ربعي وأعطى الراية دريداً مولاه. نظر الحسين (ع) إلى الجيش الزاحف وتأمل به طويلاً، ولم يزل الحسين (ع) كالطود الشامخ قد اطمأنت نفسه وهانت دنيا الباطل في عينه وتصاغر الجيش أمامه فكان وأصحابه كما قال الشاعر فيهم:-
لبسوا القلوب على الدروع وأقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفس
فلم ترهبه كثرة الجيوش ولم توهن عزيمته كثافة الصفاح والأسنة، بل استشرق من عليائه الروحي المتعال ورفع يدي الضراعة والإبتهال إلى الله سبحانه وراح يناجي:- (اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل شدة، وأنت لي في كل أمر، نزل بي ثقة وعدة، كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو، أنزلته بك وشكوته إليك عمن سواك ففرجته عني وكشفته فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومنتهى كل رغبة). وهكذا استغرق الحسين (ع) في لحظة مناجاة وموقف روحي أخاذ والجيوش تقترب والجند تجول الميدان والحسين (ع) قد حصن مخيمه وأحاط ظهره بخندق أوقد فيه النار ليمنع المباغتة والإلتفاف من الخلف وليحمي النساء والأطفال من العدوان المحقق.
طلب الحسين (ع) من جيش يزيد بن معاوية أن ينصتوا لكي يكلمهم إلا أنهم أبو ذلك وعلا ضجيجهم ولغطهم، إلا أنهم في النهاية سكتوا فخطب فيهم الحسين (ع) معاتباً لهم على دعوتهم له وتخاذلهم، كما حدثهم بما سيقع لهم بعد قتله على أيدي الظالمين من ولاة بني أمية، عهدٌ إليه من جده (ص) وأبيه (ع)، وهو ما تحقق فعلاً، وخص قائد الجيش عمر بن سعد الذي كان الطاغية يزيد يُمنـِّيه بجعله والياً على بلاد الري وجرجان بأن حلمه ذاك لن يتحقق وأنه سوف يقتل ويرفع رأسه على الرمح. ثم قال عليه السلام:- تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً، أفحين استصرختمونا ولهين متحيرين فأصرخناكم مؤدين مستعدين، سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوكم وعدونا فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم إلا الحرام من الدنيا أنالوكم، وخسيس عيش طمعتم فيه من غير حدث كان منا ولا رأي تفيل فهلا لكم الويلات إذ كرهتموها تركتمونا فتجهزتموها والسيف لم يشهر والجأش طامن والرأي لم يستحصف ولكن أسرعتم علينا كطيرة الدبا إلى آخر خطبته... ألا لعنة الله على القوم الناكثين الذين ينقضون الإيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، فأنتم والله هم، إلا أن الدعي ابن الدعي قد ركزه بين اثنتين بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أن توثر طاعة اللئام. ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك:
فأن نهزم فهزامون قدماًوأن نهـزم فـغير مهزمينا وما أن طبنا جبن ولكنمنايـانـا ودولــة آخــرينا فـقل للشامتين بنا أفيقواسيلقى الشامتون كما لقينا اذا ما الموت رفـع عـنأناس بكلكله أناخ بآخرينا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــهذا هو الحسين - الفصل الرابع والأخير
عاد الحسين (ع) على ظهر فرسه ووقف أمام الجيش وخاطبهم:(أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم (ص) وابن وصيه وابن عمه؟ إلى آخر الخطبة... فقال له شمر ابن ذي الجوشن إن كان يدري ماتقول، فقال حبيب ابن مظاهر للشمر: والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد إنك من الصادقين، ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك. ثم قال الحسين (ع) فإن كنتم في شك من هذا القول أو تشكون في أني غير ابن بنت نبيكم، فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري ولا من غيركم، أنا ابن بنت نبيكم خاصة، أخبروني أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص من جراحة؟. فلم يستجب له أحد، ثم خاطبهم:أما ترون سيف رسول الله (ص) ولامة حربه وعمامة علي؟ قالوا نعم، فقال لم تقتلوني؟ فلم يجيبوا إلا بجواب الأمعة الذي لا يملك رأياً ولا إرادة ولا يميز بين التبعية العمياء والطاعة القائمة على وعي وفهم سليم، أجابوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد. ثم قال الحسين (ع):(أما والله لا تلبثون إلا كريثما يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله (ص) فأجمعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم). كل ذلك وعمر بن سعد مصر على قتال الحسين (ع)، والحسين (ع) يحاور وينصح ويدفع القوم بالتي هي أحسن، ولما لم يجد نصح ولم ينفع حوار قال الحسين (ع) لابن سعد: أي عمر أتزعم تقتلني ويوليك الدعي بلاد الري وجرجان على مصارع الكرام ألا وإني زاحف بهذي الأسرة على قلة العدد، والله لا تهنأ بذلك عهده معهود، فاصنع ما أنت صانع فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضا بينهم.
استحوذ الشيطان على ابن سعد ونادى حامل الراية:(يا دريد إدن رايتك فأدناها ثم وضع سهمه في كبد قوسه ثم رمى فقال:اشهدو أني أول من رمى ثم ارتمى الناس وتبارزوا). وهكذا أضرم ابن سعد نار الحرب ووجه سهامه نحو مخيم آل الرسول (ص) فتبعه جنده ورماته يمطرون الحسين (ع) وأصحابه بوابل من السهام حتى لم يبقى أحد من أصحاب الحسين (ع) إلا وأصابه سهم. عظم الموقف على الحسين (ع) ثم خاطب أصحابه: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بد منه فإن هذه السهام رسل القوم إليكم)، أمام جيش عرمرم عدته تبلغ الألوف ومع هذا الفارق في العدد والعدة فإن أحداً لم يتراجع من رجال الحسين (ع)، ولم ينكص أمامهم شاب ولا غلام، فاستجابوا للنفير ولبوا النداء وانطلقوا كالأسود الضواري يلتحمون مع العدو بكل ما أوتو من قوة وبأس فاشتد القتال وحمى الوطيس ودارت رحى الحرب وغطى الغبار أرجاء الميدان واستمر القتال ساعة من النهار فما انجلت الغبرة ولا انجاب الإلتحام عن خمسين صريعاً من أصحاب الحسين (ع). ثم نادى بعض أصحاب عمر بن سعد بالبراز فتواثب أصحاب الحسين (ع):حبيب بن مظاهر وبرير وعبد الله بن عمير الكلبي يطلبون الإذن من الحسين (ع) ويتسابقون للشهادة، فانتدب الحسين (ع) عبد الله بن عمير للبراز ليصول في ميدان الشرف والجهاد وراح عبد الله ينازل الخصوم ويقارع الأقران ويصول في ميدان الجهاد. نظرت إليه أم وهب زوجته وجراحات يده اليسرى تسيل وتنزف دماً، فهالها الموقف واستنفر الغضب عزيمتها فحملت عمود الخيمة واتجهت نحو الميدان وأقبلت نحو زوجها تقول له فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد (ص) فأقبل إليها يردها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه ثم قالت:إني لن أدعوك دون أن أموت معك، فنادها الحسين (ع) فقال جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً إرجعي إلى الخيمة فليس على النساء القتال.
استمرت رحى الحرب تدور في ميدان كربلاء وشلال الدم المقدس يجري ليتخذ طريقه عبر نهر الخلود، وأصحاب الحسين (ع) يتساقطون الواحد تلو الآخر وقد أرهقوا جيش العدو وأثخنوه بالجراح فتصايح رجال عمر بن سعد لو استمرت الحرب برازاً بيننا وبينهم لأتوا على آخرنا، لنهجم مرة واحدة ولنرشقهم بالنبال والحجارة. تقدمت وحدات من الجيش الأموي يقودها عمر بن الحجاج وهاجمت ميمنة الحسين (ع) فاستعمل أصحاب الحسين (ع) أسلوباً عسكرياً رائعاً، حيث جثوا على ركبهم وأشرعوا الرماح فخافت الخيل وتراجعت بفرسانها. إستغل أصحاب الحسين (ع) إدبار الخيل ورجوعها فأطلقوا نبالهم يصطادون بها الحملة الظالمة. عاود الجيش الأموي الحملة فقاد شمر بن ذي جوشن قطعات من عسكره وهاجم ميسرة الحسين (ع) ودارت معركة طاحنة استطاع الرجال الذين بقوا مع الحسين (ع) من صد الهجوم ورد الشمر على أعقابه، وقد أبلى فيها عبد الله بن عمير الكلبي بلاءً حسناً وأبدى بسالة نادرة فقتل تسعة عشر فارساً وإثنا عشر راجلاً، فسقط جريحاً ثم أسر وقتل صبراً، ولم تحتمل أم وهب قتل زوجها وفراق الرجل المقدام فاتجهت إلى ساحة المعركة وراحت تحنو على الجسد المسجى بقلبها المثكول وغربتها المفجعة وتمسح الدم عن الرأس الحر الأبي وهي تقول:هنياً لك الجنة. نظر الشمر إلى صلابتها وتحديها فاستعظم موقفها وأمر غلاماً له بقتلها، نفذ العبد أمر سيده واتجه يحمل عموداً من حديد فضرب أم وهب على رأسها فسقطت شهيدة تسبح بدم الشهادة وتعانق روحها روح الزوج الحبيب فاقتطع القتلة رأسها ورموا به نحو مخيم الحسين (ع). إستمر الهجوم والزحف نحو من بقي مع الحسين (ع) وأحاطوا بهم من جهات متعددة فتعالت أصوات ابن سعد ونداءاته إلى جيشه وقد دخل المعسكر يقتل وينهب (( أحرقوا الخيام ))، فضجت النساء وتصارخ الأطفال وعلا الضجيج وراحت ألسنة النار تلتهم المخيم وسكانه يفرون فزعين مرعوبين.
ها هو الجيش الأموي يهاجم مخيم آل الرسول وقد زالت الشمس وحضر وقت الصلاة وليس معقولاً أن يغيب الحسين (ع) عن الوقوف بين يدي الله يوحده ويسبحه ويناجيه وها هو يستعين بالصبر والصلاة ويشده الشوق والحب الإلهي المقدس فينادي للصلاة وقد تحول الميدان عنده محرابا للجهاد والعبادة وليس بوسع الأسنة والسيوف أن تحول بينه وبين الحضور في ساحة المناجاة والعروج إلى حظائر القدس وعوالم الجلال والحرب لم تضع أوزارها، فراح من بقي من أصحاب الحسين (ع) وأهل بيته (ع) ينازلون الأعداء ويستشهدون الواحد تلو الآخر: ولده علي الأكبر، أخوته عبد الله،عثمان، جعفر، محمد، أبناء أخيه الحسن (ع) أبو بكر القاسم، الحسن المثنى، إبن أخته زينب (ع): عون بن عبد الله بن جعفر الطيار، آل عقيل:عبد الله بن مسلم، عبد الرحمن بن عقيل، جعفر بن عقيل، محمد بن مسلم بن عقيل، عبد الله بن عقيل، أولئك الأبطال الأشاوس من آل عقيل وآل علي بن أبي طالب، مجزرين كالأضاحي يتناثرون في أرض المعركة تناثر النجوم في سماء الخريف.
وقف الحسين (ع) بينهم ينادي وقد أيقن باللحوق بهم والإجتماع معهم تحت سرادق الرحمة مع الشهداء والصديقين والنبيين بعد أن حز في نفسه عويل النساء وصراخ الأطفال ولوعة اليتامى والأرامل من آل محمد (ص) ومن رافقهم في رحلة الشهادة والخلود وقف ينادي: هل من ذابٍ عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟. فلم يجبه غير صراخ النسوة وعويل الأطفال وضجيجهم المروع. لم يبق أمام الحسين (ع) إلا أن ينازل القوم بنفسه ويدخل المعركة مبارزاً بفروسيته وشجاعته، وقلبه يفيض حباً وحناناً وخوفاً على أهله وحرمه وحرم الأنصار وأيتام الشهداء، وقد أيقن أنه لن يعود بعد هذه الحملة، فحامت عواطف الحب الأبوي حول ولده الرضيع عبد الله فشده الشوق ووقف على باب الخيمة ينادي أخته زينب (ع) ويطلب منها أن تحمل إليه ولده عبد الله الرضيع ليطبع على شفته القبلة الأخيرة ويلقي عليه نظرة الوداع، فجائت به عمته زينب (ع) تحمله فرفعه الحسين (ع) ليعانقه ويقبل شفتيه الذابلتين فسبقه سهم من معسكر الأعداء إلى نحر الطفل الرضيع وحال بينه وبين الحياة فراح يفحص رغام الموت بقدميه ويسبح في مسرب الدم البريء ويكتب بذلك الدم المقدس أروع قصيدة في ديوان المآسي ويخاطب ضمير الإنسان عبر أجيال التاريخ بتلك الظليمة والفاجعة التي رزيء بها آل الرسول محمد (ص) في يوم عاشوراء.
ما عسى أن يفعل الحسين (ع) وكيف يمكن أن يتصرف، أب مفجوع وقد سالت بين يديه دماء طفل رضيع برئ يناغي السماء ويملأ أحضان أبيه بالبشر والإبتسامة. وقف الحسين (ع) كالطود الأشم لم يضعف ولم يتزعزع بل راح يجمع الدم بكفيه ويرفعه شاكياً إلى الله باعثاً به نحو السماء مناجياً:(هوّن علي ما نزل به أنه بعين الله). وهكذا بدأ شلال الدم ينحدر على أرض كربلاء وسُحُبُ المأساة تتجمع في آفاقها الكئيبة وصيحات العطش والرعب تتعالى من حول الحسين (ع) وتنبعث من حناجر النساء والأطفال.
ركب الحسين جواده يتقدمه أخوه العباس (ع) بن علي بن ابي طالب (ع) حامل اللواء، وتوجه العباس (ع) نحو الفرات ليحمل الماء إلى القلوب الحرى والأكباد الملتهبة من آل محمد (ص)، والروايات التاريخية تشير إلى أنه عندما صال العباس (ع) على جيش الأعداء الذين يحولون بين آل الرسول (ص) والماء انشقت أمامه الجيوش وانكشفت المشرعه بعد أن انشغل الأعداء والمارقين بالتطلع إلى بهاء طلعته وجمال وجهه الذي منحه لقب (قمر بني هاشم)، إضافة إلى ضخامة جسده الطاهر وشجاعته الفائقة حيث كان إذا ركب الفرس خطت قدماه في الأرض، فحالت جموع من العسكر دونه اقتطعوا العباس (ع) عن الفارس والبطل وحامل اللواء، فغدا الحسين (ع) بجانب والعباس بجانب آخر، وكانت للبطل الشجاع قمر العشيرة قمر بني هاشم أبي الفضل العباس صولة ومعركة حامية طارت فيها الرؤس وتساقطت فرسان وهو يصول في ميدان الجهاد حتى وقع صريعاً يسبح بدم الشهادة، واستشهد العباس (ع) وعمره الشريف كان (34) سنة ليثبت لواء الحسين الذي حمله يوم عاشوراء في أرض كربلاء خفاقاً إلى الأبد لا تبليه الأيام والسنين ولا تطأطئ هامته دول الطغاة، وهكذا امتلأ الميدان بالصرعى والشهداء من آل الرسول الله (ص) والفئة الثائرة التي كتبت بدمائها الزكية ملحمة الخلود والكفاح واختطت للأجيال طريق الثورة والجهاد.
نظر الحسين (ع) إلى ما حوله، مد ببصره إلى أقصى الميدان فلم ير أحداً من أصحابه وأهل بيته إلا وهو يسبح بدم الشهادة مقطوع الأوصال. إذاً ها هو الحسين (ع) وحده يحمل سيف رسول الله (ص)، وبين جنبيه قلب البطل الشجاع علي بن ابي طالب (ع) وبيده راية الحق وعلى لسانه كلمة التقوى، وقف أمام هذا الجموع التي أوغلت في الجريمة واستحوذ عليها الشيطان ولم تفكر إلا بقتل الحسين والتمثيل بجسده الطاهر، إذ هذا هو اليوم الموعود الذي أخبر به رسول الله (ص)، وتلك هي تربته التي بشر بها من قبل. حمل الحسين (ص) سيفه وراح يرفع صوته على عادة الحرب ونظامها بالبراز وراح ينازل فرسانهم ويواجه ضرباتهم بعنف وشجاعة فذة، ما برز إليه خصم إلا وركع تحت سيفه ركوع الذل والهزيمة إذ قال الراوي فوالله ما رأيت مكثوراً قط قتل ولده وأهل بيته وصحبه أربط جأشا منه ولا أمضى جناناً ولا أجرأ مقدماً. ولقد كانت الرجال تشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب. ولقد كان يحمل عليهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفاً فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول:(لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
هجمت قوات عمر بن سعد على الحسين (ع) وطوقته وحالت بينه وبين أهله وحرمه فصاح بهم:(أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حياً، ويلكم إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون يوم المعاد فكونوا أحراراً ذوي أحساب إمنعوا رحلي وأهلي من طغاتكم وجهالكم). قال بن ذي جوشن ذلك لك يا ابن فاطمة.
إستمر الهجوم عنيفاً والحسين (ع) في بحر الجيش العرمرم، حتى سدد أحد جنود الأعداء سهماً نحو شخصه الشريف فاستقر السهم في نحره، وراحت ضربات الرماح والسيوف تمطر جسد الحسين (ع) الطاهر حتى لم يستطيع مقاومة الألم والنزيف، وقد استحالت صفحات جسده الطاهر كتاباً قد خطت عليه الجراح والآلام بمداد الدم أروع ملاحم التاريخ وكتبت أقدس مواقف البطولة والشرف، فكان الجرح في جسده أروع حرف يكتب في سطر الخلود، قرأت تلك الحروف الجراح فكانت سبعاً وستين حرفاً تروي بصمتها الناطق قصة الكفاح والجهاد وتدون بعمقها المتأصل فصول الأسى والظليمة (كان عدد جراح الحسين ثلاثاً وثلاثين طعنة رمح وأربعاً وثلاثين ضربة سيف كما جاء في الطبري تاريخ الملوك ج4ص 344- 346).
عانق الحسين عليه السلام صعيد الطفوف واسترسل جسده الطاهر ممتداً على بطاح كربلاء لينصب من حوله مشعل الحرية والكفاح ويجري من شريان عنقه شلال الدم المقدس.ألا إن روح الوحشية التي ملأت جوانح الجناة لم تكتف بذلك ولم تستفرغ أحقادها في حدود هذا الموقف بل راح شمر بن ذي جوشن يحمل سيف الجريمة الوحشية ويتجه نحو الحسين (ع) ليقطع غصناً من شجرة النبوة وليثكل الزهراء بأعز أبنائها، ليفصل الرأس عن الجسد ويحمله هدية للطغاة، الرأس الذي طالما سجد مخلصاً لله وحمل اللسان الذي ما فتئ يردد ذكر الله، الرأس الذي حمل العز والإباء ورفض أن ينحني للطغاة أو يطأطئ جبهته للظالمين، فأكب الحسين (ع) على وجهه وراح يحتز رأسه الشريف ويحول بينه وبين الجسد الطاهر، ثم أمر قائد الجيش عمر بن سعد من الفرسان أن يطأوا بحوافر خيولهم صدر الحسين الشريف (ع) وظهره فداسوا الحسين (ع) حتى رضوا ظهره وصدره. واستشهد الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) وكان ذلك يوم الجمعة من عاشوراء في المحرم سنة إحدى وستين من الهجرة وله من العمر(56) سنة وخمسة أشهر. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.(وقد قال الشاعر بولس سلامة شاعر لبناني مسيحي في هذا الموقف):سيكون الدم الزكي لواءاً لشعوب تحاول استقلالا سوف تبكي على الحسين البواكي ويرى كل محـجـر شلالا ليت شعري لم البكاء وذاك اليوم عيد يشرف الأجيالا مأتم القاتلين لا مأتم القتلى يسيرون للخلود عجالا
محمد كاظم الجادري ***** ابو ميثم الحياوي** النمسا*** فيينا* محتاج الى دعائكم جزاكم الله خير الجزاء
https://telegram.me/buratha