◾محمّد صادق الهاشميّ.
المقال يتناول موضوعة «القدرات الذاتية لدى شيعة العراق » وتسهيلا على القارئ نلخّص الفكرة بما يلي:
إنّ بعض المكوّنات في العراق تجد قدراتها من خلال وجودها في السلطة، وتزول قدرتهم بزوالها، بينما المكوّن الشيعيّ له قدرات ذاتية بغضّ النظر عن السلطة، بل إنّ تلك القدرات هي التي أبقتهم رغم المحن التي مرّت بهم، وأهمّ عناصر القدرات الذاتية لديهم :
أوّلاً. وجود مرجعية النجف الأشرف العليا.
إنّ وجود المرجعية الدّينية في العراق يُعَدّ بحقٍّ الجانب الذي له الثقل الأكبر في الحفاظ على هوية شيعة العراق، والحفاظ على هوية العراق الوطنية، إذ أنّ دور المرجعية الدّينية تجاوز مرحلة الإفتاء، واستنباط الأحكام الشّرعية من مصادرها المقررة، إلى ما يقرر مصيرهم السياسيّ , وما نريد التأكيد عليه أنّ وجود المرجعية الدينية أضفى سكينةً واطمئناناً لدى المكوّن الشيعيّ من أنّ السير خلف هذه المرجعية يحفظ توجّهاتهم السّياسيّة.
من هنا كان للمرجعية الدينية بعد عام 2003م الدور الكبير في توحيد شيعة العراق، ورصّ صفوفهم وقيادتهم إلى المرحلة التي تحوّلوا فيها من أغلبية مهددةٍ ومشرّدةٍ ومُحَارَبةٍ لقرون من الزّمان، إلى أغلبية تشارك في حكم العراق، وتُنصف الأقليات، وتراعي حقوق الدّيانات الأخرى, وهي نفسها الداعية إلى أنْ يكون سُنّة العراق كنفس شيعة العراق، وقد اُشتهر عن مرجعية النجف قولها: « لا تقولوا إخواننا، بل قولوا أنفسنا »، فهي نفسُها التي وقفت تدافع عن حقوق المسيحيين والصابئة، بل هي نفسُها وقفت تحرّم مقاتلة الأكراد الذّي حُوربوا بيد نظامٍ يدّعي أنه ينتمي مذهبيا إلى نفس المذهب الذي ينتمي إليه أبناؤنا الكُرد.
إنّ الدّور الذّي لعبته المرجعية الحركية والرسالية في حركتها واستنهاضها للأمّة وإعطائها الشّرعية في تلك الحركة لهو دور آخر لا يقلّ عن دور المرجعية العلمية، إنْ لم نقل أنّه فاقها بكثير، على اعتبار أنّ تلك المرجعية تمثّل الامتداد التّاريخيّ لتأسيس الحوزة العلمية.
(ثانياً): الأكثرية العددية:
إنَّ هذه الأكثرية العددية الشيعية متعددة بقومياتها من العرب، ويشكّلون نحو 71% من الشّيعة في العراق، والتركمان يشكّلون نسبة 17% ، والكرد الفيلية يشكّلون حدود 8% ، والشّبك وغيرهم من الفرق الأخرى, وهذا بحدّ ذاته يشكّل عاملاً مهمّاً في انتشار الفكر الشّيعيّ داخل هذه الأكثرية، ممّا يعني أنَّ هذه القاعدة المتنوعة بقومياتها تشكّل قاعدةً بتنوعها للعملية السياسيّة، وتشكّل انسجاما سياسيّا؛ لانسجامها مذهبياً، وهذا الانسجام شهدت به وقائع التاريخ المعاصر والقريب، إذ سارت كلّ هذه المكوّنات بروحيةٍ واحدةٍ في مقاومة الاستبداد والطغيان، وقدّمت الكثير من التّضحيات تاريخيا، ممّا جعلها متوحّدة التوجّه سياسيّا بعد عام 2003م في الايمان بالعملية السياسيّة، وجعلها تدرك أنّ التغيّرات هي من مصلحتها جميعا، وأنَّ التّحديات هي تحديات تشمل الجميع، هذا الشعور ولدّ لديهم وحدةً في الموقف السياسيّ.
(ثالثاً): الجغرافيا السياسية والاقتصادية :
تمتدّ هذه الأكثرية على مساحاتٍ جغرافيةٍ واسعةٍ من العراق، فهي تشغل الوسط والجنوب وعموم بغداد وتتجاوز هذا الموقع الجغرافيّ لتصل إلى الموصل ببعض أطرافها وكركوك وديالى وصلاح الدّين، وهذا يعني أنّ هذه الأكثرية العددية متوزّعة على مساحاتٍ جغرافيةٍ واسعةٍ من العراق، وهذا الأمر يسّهل عليها التّأثير في العديد من المفردات السياسيّة.
إنَّ الجميع يدرك هذه الحقيقة ويأخذها بنظر الاعتبار، وربّما الهدف الحقيقي وراء التهجير الطائفيّ هو لغرض تغيير ديموغرافية الشيعة في العراق، وتقليل تأثير هذه الحقيقة مستقبلاً، مثلاً لا يمكن للطائفيين أنْ يلغوا مدينة « تلّعفر »، ولا يمكن إلغاء مدينة «تسعين» في كركوك، أو قضاء « طوزخرماتو » في صلاح الدّين، ولا يمكن لأهل صلاح الدّين أنْ يلغوا قضاء بلد بسكّانه البالغ 107،600 نسمة، أو سامراء البالغة 348700 نسمة، وهذا التواجد له تفاعلات مع المكوّن السنّي، وتداخل عشائريّ واجتماعيّ واقتصاديّ وثقافيّ، فضلا عن أنّ هذه الحقيقة السكّانية تفرض واقعاً عددياً لصالح الشّيعة في هذه المدن وأيضاً تؤثّر في رسم مستقبل المدن في ظلّ أيّ تصوّر ومخططٍ مّا، فعلى سبيل المثال حينما طالبت صلاح الدّين عام 2010م بالإقليم الفدراليّ فقد هدد أهل سامراء وبلد من أنّهم سوف ينفصلون عن هذه المدن وينضمّون إلى بغداد، إنْ قامت الفدراليات على أسس مذهبية وطائفية.
هذا فضلا عن أنَّ الشّيعة في بلد وسامراء وبعض قرى طوزخرماتو قد يشكّلون نسبةً تصل إلى أعلى من رُبع السكّان في مدينة صلاح الدّين، فيما لو حسبنا مدينة الدّجيل بحسابٍ أدقّ، ونفس الكلام يجري في ديالى ونوعاً ما في الموصل.
من هنا يمكن القول: إنَّ هذه الأكثرية العددية من حيث توزّعها الجغرافيّ، ومن حيث تمددها السكّاني لتصل إلى عمق مدن سنّية وكردية يجعل رسم خريطة وطنية تتفاعل بموجبها تلك المكوّنات وفي تلك الجغرافيا ، من هنا انطلق الحشد الشعبيّ « السنّي والشيعيّ » تحت خيمة الفتوى ليشكّل بموقفه في الدفاع عن الأرض والعِرض هويةً فرضتها المواقف والفتوى والدماء والجغرافيا، مضافا إلى تمدد هذا المكوّن على مساحات جغرافية واسعةً وتواجده على أهمّ المرتكزات الاقتصادية في الجنوب، إذْ تقع في مدنهم حقول النّفط والغاز, فهي جغرافيا وطنية واجتماعية واقتصادية .
رابعاً: الانسجام المذهبيّ السياسيّ
إنَّ هذه الأكثرية تقريباً منسجمةٌ في ثقافةٍ سياسيّةٍ بقدر انسجامهم المذهبيّ فيما بينهم، سواء قبل سقوط النظام البعثيّ أو بعده، وشهد لهذه الثقافة الموحّدة الدماء الغزيرة التي سالت لأجل مواجهة الطغيان والاستبداد البعثي والطائفيّ ودفاعهم عن حقوقهم ومكتسباتهم، وموقفهم الموحّد بعد 2003م لرسم مستقبل العملية السياسيّة في العراق على أسس دستورية تحمي لهم حقوقهم.
هذا فضلا عن ثقافتهم في طاعة المرجعية والحوزات العلمية، وعامل الانسجام هذا يجعلهم مُوَحَّدو الرّؤية أشدّ، ومن المؤكّد أنّ هذا الانسجام الثّقافي السياسيّ هو العامل الذي مكّن شيعة العراق من تأسيس مستقبلهم السياسيّ، وفرضِ واقعٍ دستوريّ مكّنهم من الحفاظ على عمليتهم السياسيّة بعد عام 2003م.
بل إنّ هذا الانسجام السياسي حفظهم عبر التاريخ، مع أنه تاريخٌ مريرٌ، لكنّ هذا الإصرار مكّنهم من البقاء والقوّة وعدم الزوال والوجود، ورسم مستقبلهم بنحو ٍواضحٍ تاريخياً وراهناً مع غزارة الدم والمحن والتهجير والقتل والسجون والمعتقلات .
خامساً: الحماس والثورية :
الحماس الذّي تمتلكه هذه الأكثرية في الحفاظ على مكتسباتها الوطنية من خلال تنامي الوعي الحاصل كردّة فعل للتّحديات المحدقة بمصالحها الاقتصادية والسّياسيّة والدّينية، وحضورها في الميدان لحماية العملية السّياسيّة عاملٌ مهمّ في ترسيخ قوّتهم الذاتية.
نعم قد يتباين الموقفُ هنا وهناك، صعوداً ونزولاً، من فترةٍ لأخرى، وموزّعاً في الولاء لقوى سياسيّة متعددة، إلّا أنّ الجميع مُدْرِكٌ لمصالحه، ومستعدّ للدّفاع عنها، خصوصا أنّ هذا الحضور الميداني أصبح اليوم مشحوناً بالهمّة العالية للوعي الذي يولّده النصر في مواجهة التحديات « القاعدة، و داعش، والاحتلال الأمريكيّ ».
وخلاصة القول: إنّه لا يوجد شيء يمكن التعويل عليه في الحفاظ على العملية السّياسيّة من خطر الانقلابات والتحديات في العراق إلّا إيمان الشّعب بعمليته السياسيّة، وإنّ الحديث عن إسقاط العملية السياسيّة في العراق يتعارض مع الموقف الجماهيري الشيعيّ المرصود بقوّة الموقف المؤيّد لهم من قبل المرجعية. وقد وصف «بول برايمر» هذه الحقيقية بقوله: « شيعة العراق شاركوا في العملية السّياسيّة وهم يستحضرون تاريخاً من المعاناة والتهميش، ممّا جعلهم لا يمكن أنْ يتراجعوا عن وعيهم العالي، وهمّتهم في الاشتراك بالعملية السياسيّة».
وعليه فإنّ هذه الأكثرية تُدرك أنّها تمتلك كلَّ مقوّمات القدرة والنّهوض، ليس لأنّها أكثرية عددية فحسب، بل هم يشاركون اليوم في القرار الحكوميّ، وفي مؤسسات الدّولة كأحد العوامل الإضافية في القدرة الذاتية ، ويضاف إلى هذا امتلاكهم الثروات الزراعية والنفطية ومواقعهم الجغرافية، وامتلاكهم المنافذ البحرية وغير ذلك، تلك المؤثّرات الحسَّاسة التي يحسب لها ألف حساب من قبل الآخرين حينما يفكّرون بالانفصال، أو إقامة إقليم أو غير ذلك، هذا بالإضافة إلى القدرة البشرية النامية وما تختزنه من حوزات وجامعات ومعاهد وخبرات ومثقفين ومفكّرين وأكاديميين وطاقات مهنية ويد عاملة إلّا أنّ تفعيل كلّ هذه المكامن المهمّة للنهوض يكون الأمل فيه معقوداً حينما يكونون فاعلين في القرار السياسيّ لإدارة الدولة، ويكونون على رأس الهرم الحكوميّ كي يتمكّنوا من بناء أنفسِهم، وتوحيد رؤيتهم باتجاه ترسيخ مصالحهم، ومصالح باقي المكوّنات على أسس الدستور .
أحبتي : لا يذهبنّ بكم التفكير إلى أنّي أعزز فيكم الأمل في ظلّ الاحباط العام، بل أسير معكم إلى التعرّف على نقاطِ قوّة المذهب؛ ليتأكّد لنا مصادر قوّته التي لا يمكن معها أنْ يفتّ عضد وجودنا بتأثّر القشرة السياسية بأيّ طارئ؛ وليتاكد قوّة المذهب الروحية مع قوّتكم السياسية والفكرة والشعبية وغيرها، وهي باقية فيكم تحت ظلّ مراجعنا الكرام، وفي خيمة تلاحمكم. وللحديث صلة .
كتبت بتاريخ : 13 / 4 / 2020 م .
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha