محمّد صادق الهاشمي.
الثقافة السياسية للطائفة السنية :
الحديث هنا عن الطبقات الحاكمة ومراكز القرار السياسي والديني مع قطع النظر عن المجتمع ، وإنْ كنّا نوعاً مّا نجدُ أنّ الشعوب تتأثّر بسلوك قادتها.
(أوّلا). أبرز خصائص الثقافة السياسية المتعلقة بالمكوّن السني في العراق هي:
1. تمسّكهم عبر القرن العشرين وقبله بالحكم والسلطة؛ لأنَّ السنّة في العراق ـ بوصفهم طائفة ـ وقعوا تحت ظلّ الشعور السلطوي؛ إذ أنّهم وجدوا العراق محكوماً للإمبراطورية العثمانية التي ينتمون إليها مذهبياً خلال أربعة قرون، ثمّ حكموا العراق خلال الامبراطورية البريطانية من عام 1920م إلى عام 1958م، ثمّ أتت حكومات سنّية بعد زوال الملكية، هي حكومة عبد السلام عارف، وعبد الرحمن عارف، والبكر، وصدام حسين، هذه المدّة الطويلة التي جعلت السُنّة في العراق يمارسون الحكم والسلطة ولدَّت لديهم ثقافةً سياسيةً مفادها: أنّهم أولى بالحكم من غيرهم، وأنّهم أهل العراق الحقيقيّون، دون غيرهم.
2. بعض المكوّن السني لديه ثقافةُ الولاء للحاكم، مستندين في ذلك إلى فهمهم من الآية الكريمة: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}أنّ معنى «أولي الأمر» هم الحكّام وقد أُمرنا بطاعتهم، وهذا معروف عنهم حاضراً وماضياً؛ إذ أنَّ الواقع السياسي دلَّ على ذلك بقوّةٍ ووضوحٍ.
أمّا الشيعة – تبعاً لأئمّتهم - فيغلب عليهم عدم الطاعة للحاكم إلّا ضمن شروطٍ، من هنا نجد أنَّ المسز بيل تحدّثت بانفعالٍ شديدٍ ضدَّ الشيعة قائلةً: «أمّا أنا شخصياً فابتهج وأفرح أنْ أرى الشيعة الأعراب يقعون في مأزقٍ حرجٍ؛ فإنّهم من أصعب الناس مزاجاً وعناداً في البلاد».
3. من ثقافة المكوّن السنّي السياسية طائفياً أنَّ الحكم لديهم يعتمدُ الفردية والمركزية؛ لأنّهم مارسوا هذه التجربة قروناً، فهم أقرب إلى الشمولية التي يصطلح عليها (التوتاليتارية)، ولاسيّما العرب في العراق، وفي العالم العربي، لم يعيشوا أيَّ مرحلةٍ معتدٍّ بها في ممارسة الحكم على أساس دستورٍ عادل، وديمقراطية تنصف جميع المكوّنات، وبفعل تسلمهم إدارة الحكم في العراق زمناً طويلاً برزَ لديهم ميلٌ نحو الحكم الفردي الأقرب إلى الحكم القبلي.
4. من خصائص بعض قادة المكوّن السني عدم الاندماج في المكوّنات الأخرى، وهو ناتجٌ عن ميول الحكّام نحو المنهج الطائفي؛ لأنّهم تعاملوا معها اجتماعياً كما يحدده علم (الاجتماع السياسي) بروح استعلائية على مبدأ الحاكم والمحكوم، وقسّموا الشعب في العراق إلى مواطن من الدرجة الأولى، ومواطن من الدرجة الثانية، وهذا ما انعكس للأسف على موضوع المواطنة والجنسية وحقّ امتلاكها، وميّزوا بين المواطن الذي يحمل الجنسية العثمانية وغيرها، وأنَّ ولاء المجتمع السنّي للحكومات السُنيّة التي مثّلتهم وجعلتهم مكوّناً معزولاً، وتحمّلوا بسبب ذلك مسؤوليات هذه الأنظمة، وتركت عليهم نظرةً من قبل المكوّنات الأخرى أدّت إلى تعميق عزلتهم .
5. ومن ثقافة المكوّن السُنّي وبحسب المتابعة الميدانية، نجد أنّ هذا المكوّن الحكومي السياسي أقرب إلى العلمانية منه إلى السياسة الإسلامية، وحتّى داخل المكوّن الاجتماعي السياسي السنّي في تركيبته الاجتماعية لا نجد إلّا أحزاباً سياسيةً علمانيةً، ولم نلحظ في تاريخه القريب وجود أحزاب إسلامية عريقة معروفة، بل حتى «حزب الإخوان المسلمين» الذي انتشر في ربوع العالم السُنّي العربي «وحزب التحرير» الذي أُسس على يد النبهان في الأردن، لم يكن لهذه الأحزاب وجودٌ مهمٌّ في العراق، وفي هذا الوسط، وخلال القرن العشرين نتج عنها الحزب الإسلامي الذي يعدّ تاريخياً أضعف الأحزاب الإسلامية السنّية في العقد الأخير، فاستطاع الحزب العلماني القومي «حزب البعث» أنْ يختزل المكوّن السنّي به، فتحوّلت الطائفة السنّية في كلّ ثقافتها السياسية إلى ثقافة تُستَمد من ثقافة وايديولوجيات حزب البعث العربي!!.
ولا يُنكر أنّ للمكوّن السنّي في العراق ثقافةً إسلاميةً سياسيةً، لكنّه لم يتمكّن من تحويلها إلى أنْ تكون ثقافة الدولة أو الحكومة أو ثقافة مقننة في شكل تنظيم سنّي سياسي مهيمن له أثرٌ في الميدان، وينهض على رؤيةٍ فقهيةٍ واضحةٍ.
(ثانياً) . الجانب الطائفي في ثقافة المكوّن الشيعي:
أبرز خصائص الثقافة السياسية المتعلّقة بالحكام الشيعة في العراق هي:
1. إنّ حصول الوعي السياسيّ لديهم جاء متأخّراً، والدليل على ذلك أنّهم في ثورة العشرين تحمّلوا المسؤولية الكبرى، واعطوا الدماء وقاتلوا، شعباً وحوزةً إلّا أنّهم لم يستفيدوا من هذا الجهد في الوصول إلى جني ثمارٍ سياسية، بل انتهى الأمر إلى أنْ تتشكل الحكومة السُنية بزعامة النقيب، في الوقت الذي كانت فيه المحافظات الشيعية تجاهد الاحتلال البريطاني، وانتهى الأمر بقرار الحكومة الملكية زمن عبد المحسن السعدون تسفير المراجع والعلماء الذين قادوا الثورة ضدَّ الانكليز، كالسيّد أبي الحسن الاصفهاني، والشيخ حسين النائيني، والشيخ جواد الخالصي، وآخرين، فالشيعة تاريخياً لوحظ أنّهم غير متمسّكين بالسلطة على أساس طائفي .
2. إنَّ الطائفة الشيعية تمتلك ثقافة تعايش، وهي أكثر استيعاباً للآخرين؛ لأنّها تشمل قوميات عدّة: من الكرد الفيلية، ومن الشيعة التركمان، ومن الشيعة العرب, والفضل فيه إلى تعاليم المراجع لا إلى الطبقة السياسية .
وقد أثبت الشيعة ذلك عملياً، وقاتلوا لأجل هذه المبادئ ضدَّ الانكليز، ومن ذلك المنطلق وقفوا إلى جانب العثمانيين الذين اضطهدوهم قروناً في الوقت الذي وقف سُنّة العراق ضدَّ الدولة العثمانية التي كانت تحتضنهم ونصروا البريطانيين.
3. الولاء السياسي لشيعة العراق يكون للحاكم العادل؛ وقد أكّدوا في العديد من المناسبات، والكثير من المواقف السياسية ومراحل النضال الشيعي ضدّ الطائفية أنّهم مع الحاكم العادل، والعجيب ـ مع كلّ ما لا قوّة من ظلم طائفي سياسي ـ أنّهم لم يردّوا بالمثل؛ بل كانت مطالبهم وحدويةً للغاية، ويشهد لهذا كلامُ السيد محسن الحكيم الذي أجاب طاهر يحيى رئيس وزراء عبد السلام عارف ومبعوثه إليه أجابه قائلاً: (إنّهم كشيعة لا يريدون حاكماً شيعياً، بل يريدون حاكماً عادلاً سنّياً كان أم شيعياً). نعم أثبت الشيعة تاريخياً في ثقافتهم السياسية بوصفهم مكوّناً عراقياً كبيراً، أنّهم يناضلون دوماً من أجل وجود الحكومة العادلة، ومنع الدكتاتورية.
4. الطائفة الشيعية أكثر قابلية للاندماج في المكوّنات الأخرى؛ لعدم وجود تاريخ يتحدّث عن الخلافات مع المكوّنات الأخرى، فهم مع الكرد أشدّ تقارباً وتواصلاً؛ لما عاناه كلاهما من الظلم القومي، وهكذا مع التركمان، ممّا جعلهم مؤهّلين لمدّ الصلات وجسور العلاقات مع باقي المكوّنات أكثر من المكوّن السني.
إذن، الطائفة الشيعية في ثقافتها الطائفية السياسية وجدت نفسها تتحرّك على أسس دينية، ووجدت نفسها بعيداً عن الخطّ العلماني، إلّا من جنّدته الحكومات العراقية وغيرها بالقوّة، أو الإغراء، أو بأيّ أسلوب آخر، أو بعض الشخصيات التي اندكّ عملها وتأثيرها ونشاطها ضمن الخطّ العلماني والقومي واليساري، الذي غزا العراق بعد نشوء الدولة القومية عام 1921 وصولاً إلى الخطّ الماركسي وحزب البعث وما بعده.
هذه خصائص ومقارنات سجّلتها أحدات التاريخ وتزخر بها كتب علم الاجتماع، ومازالت تلك الخصائص راهنة في وجودها يمكن تلمّس أثرها، نثبتها هنا بكلّ حياد، وهي خاضعة للنقاش لمن أراد أنْ يضيف أو يعدّل.
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha