د.علي المؤمن ||
عند التأمل في كثير من مشاهد الحاضر، تتداعى في الذهن وقائع تاريخية مؤلمة، شهدت انهيارات شيعية اجتماعية وسياسية متراكمة، كان فيها التيار الديني الشيعي، يعين خصومه الطائفيين والايديولوجيين على نفسه، ويساهم معهم ــ دون وعي ــ في تمزيق الواقع الشيعي وهضم حقوقه وتقهقره. وتتمظهر هذه الظاهرة في الصراع السياسي بين جماعات التيار الديني الإسلامي، وانعدام الستراتيجيا المشتركة في قضايا الحكم والدولة والسياسة والمجتمع، وعدم وحدة القرار القيادي والمرجعي أحياناً وعدم نضوجه أحياناً أخرى، وتشتت الموقف الاجتماعي السياسي. وهو مايؤدي الى إشكاليات معقدة من الفساد والفشل والتراجع. وكلما كان الواقع السياسي رخواً ومتحركاً؛ كان التفرق والشد المجتمعي يبرز بشكل أكبر.
ولعل نموذج انعكاسات ثورة المشروطة (الدستور) على المجتمعين الإيراني والعراقي بعد العام 1906 وحتى العام 1911؛ خير دليل على عمق هذه الظاهرة. ففي النجف انقسم المجتمع الى قسمين متعارضين بشدة؛ بسبب انقسام قرار المرجعية العليا بين الشيخ الآخوند كاظم الخراساني والسيد كاظم اليزدي؛ فكان جزء من التيار الديني يؤيد الشيخ الخراساني فقيه "المشروطة"، وجزء آخر يؤيد السيد اليزدي فقيه "المشروعة" (أو "المستبدة" كما كان يطلق عليها الخصوم خطأً).
وبلغ الأمر مستوى الصراع المسلح والتفسيق المتبادل بين الطرفين. وانتهى الصراع داخل التيار الديني الإسلامي في النجف، بشقيه: جماعة المشروطة (الإصلاحية)، وجماعة المشروعة (الأصولية)، الى نفوذ التيار العلماني التركي في مفاصله الدينية والاجتماعية، وهو التيار الذي بات يتحكم بالتدريج بالدولة العثمانية منذ نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، ويمد نفوذه في الولايات العثمانية التابعة، ومنها العراق، ثم سيطرت أحزابه على الواقع السياسي الإصلاحي في النجف بعد العام 1911، من خلال جماعة "تركيا الفتاة" ابتداءً، و"حزب الاتحاد والترقي" التركي العلماني فيما بعد.
وقسّم هذا التقسيم المجتمع الإيراني وتياره الديني الإسلامي بشدة أكبر؛ فكان آية الله الشيخ فضل الله النوري قائد "المشروعة" في إيران مدعوماً من المرجع السيد كاظم اليزدي في النجف، وكان آية الله السيد عبد الله البهبهاني الغريفي قائد "المشروطة" في ايران مدعوماً من المرجع الشيخ كاظم الخراساني في النجف. وانتهى الصراع بين الفريقين الدينيين الى سيطرة التيار العلماني على ثورة المشروطة، وهو التيار الذي تقوده عناصر مرتبطة بالسفارة البريطانية، ومتحالفة مع عناصر ماركسية وعناصر مرتبطة بالمحفل الماسوني بطهران (بيت الصحوة). وقد تلخصت نتائج مصادرة جهود التيار الإسلامي الذي فجّر الثورة وقادها وحقق أهدافها؛ بإعدام الفقيه الشيخ عبد الله النوري في ساحة عامة بطهران في العام 1909 بعد إدانته في محكمة ثورية "مشروطية" ترأسها عالم دين ماسوني يعمل لصالح السفارة البريطانية، واغتيال الفقيه السيد عبد الله البهبهاني الغريفي في الشارع في العام 1910 على يد متطرف ينتمي الى تيار "المشروعة" الديني، لكن الوثائق أثبتت أنه كان مدفوعاً بدعاية التيار العلماني. وقام هذا التيار بتهديد القائد الثاني للثورة الفقيه السيد محمد الطباطبائي بالقتل، ما أدى الى عزله. ثم سارع التيار العلماني الى قتل المرجع الأعلى الشيخ محمد كاظم الخراساني بالسم في العام 1911 في النجف، بعد أن قرر الخراساني التراجع عن دعم المشروطة كلياً وإصدار فتوى ضدها، بعد أن تأكدت لديه سيطرة العلمانيين المرتبطين بالانجليز على ثورة المشروطة، بعد أن كان الخراساني يقود ثورة المشروطة من النجف بفتاواه وتوجيهاته، قبل أن تنحرف ويسيطر عليها العلمانيون المرتبطون بالسفارة البريطانية.
وباغتيال مرجع النجف الأعلى، توّج التيار العلماني سرقته لثورة "المشروطة" وسيطرته على الثورة والبلاد؛ بتصفية قادة التيار الإسلامي باتجاهيه: المشروطة (الإصلاحي)، المشروعة (الأصولي).
وتكرر هذا المشهد في العراق بعد حركات المقاومة والثورات التحررية التي فجّرها وقادها التيار الديني الشيعي في الوسط والجنوب ضد الاحتلال الانجليزي، والمطالبة بحكم وطني لايتعارض مع الشريعة الإسلامية. إلّا أن عملية الاستغفال الكبرى التي قام بها البريطانيون وعملاؤهم العلمانيون الطائفيون للشيعة وقياداتهم، أدت الى انهاء انجازات مقاومة الجنوب في العام 1914 وثورة النجف قي العام 1917 وثورة العشرين في العام 1920، وتصفية التيار الإسلامي الشيعي بالكامل، واستيراد شخصية سنية غير عراقية ليكون ملكاً على العراق، وتأسيس نظام علماني سني طائفي عنصري، يقوده الزعماء والضباط العلمانيون الطائفيون الذين سبق أن خدموا في الجيش التركي العثماني وحصلوا على رتبة "الباشوية" من السلطان العثماني، ثم تحولوا الى الولاء للانجليز بالتعاون مع والي الحجاز الشريف حسين، وقفزوا على الثورة العراقية وسيطروا على الدولة التي كان ينبغي أن تنتجها الثورة.
وبادر النظام الجديد على الفور الى تصفية التيار الإسلامي الشيعي وقادته ونفوذه السياسي بالكامل، وقد كان من بين إجراءات التصفية؛ تسفير قادة المقاومة والثورة من الفقهاء والزعماء الى خارج العراق، وتحديداً الى الهند وايران.
وكانت أسباب انهيار التيار الديني الشيعي بعد العام 1920 تعود الى عدم وضوح مشروعه، وافتقاره لستراتيجيا السياسة والحكم، وتناحر أطرافه وتشتت قرارهم، ورضا بعض الشيعة بالمناصب الوزارية مقابل السكوت على طائفية النظام وحكم غير العراقيين وخضوع العراق للانتداب البريطاني. فضلاً عن عمق التآمر الذي كان يقوده المحتل البريطاني، وينفذه بالتعاون مع عملائه الطائفيين العلمانيين.
2 / 8 / 2020
https://telegram.me/buratha