د. علي المؤمن||
بين القانون الدستوري الوضعي والفقه السياسي الإسلامي:
هناك فرق معرفي ووظيفي بين القانون الدستوري والدستور؛ فالدستور هو النص أو الوثيقة القانونية الملزِمة حرفياً للدولة والشعب، وتتكون من مواد أو أحكام توضح طبيعة النظام السياسي للدولة وهيكليته وسلطاته وحقوق الأمة وحرياتها وعلاقتها بالنظام السياسي. أما القانون الدستوري فهو القواعد القانونية التي يدوّن الدستور على أساسها، وتشمل أساليب التقنين الدستوري ومصادره وضوابطه، والرقابة على دستورية قوانين الدولة. أي أن الفرق بين الدستور والقانون الدستوري، كالفرق بين أحكام الفقه العملية وعلم الأصول الفقه وعلم الفقه.
والحكم الشرعي في الفقه الإسلامي يقابل المادة القانونية والتشريع في القانون الوضعي. وبذلك يكون التشريع (القانون) في الدولة الإسلامية كاشفاً عن الحكم الشرعي. أما مصطلح القاعدة الشرعية في الفقه الإسلامي؛ فيقابله مصطلح القاعدة القانونية أو المبادىء القانونية في القانون الوضعي.
ومن ناحية التقسيمات القانونية التقليدية؛ فإن القانون الوضعي الحديث ينقسم إلى: قانون عام يعنى بتنظيم المؤسسات، وقانون خاص يعنى بالأفراد. وينقسم القانون العام - بدوره - إلى: قانون دولي وقانون داخلي. ويختص القانون الدولي العام بشؤون العلاقات الدولية وعمل المنظمات الدولية والإقليمية وقوانين الجو والبحار وغيرها، فيما يضم القانون العام الداخلي: القانون الإداري والقانون الدستوري والقانون المالي والقانون الجنائي. أما القانون الخاص فإنه يشتمل على: القانون المدني والقانون التجاري وقانون العمل وقانون التأمين الاجتماعي. وهناك عناصر مشتركة في بعض فروع القانون بين القانون العام والقانون الخاص، أوجدت قسماً ثالثاً يعرف بالقانون المختلط، ويضم فرعين: قانون المرافعات المدنية والتجارية والقانون الدولي الخاص. وقد عرفت قوانين الشريعة الإسلامية هذا التقسيم أيضاً في تجربة التطبيق الحديثة.
ويمكن مقاربة مساحات الافتراق والاشتراك بين الفقه السياسي الإسلامي والقانون الدستوري الوضعي من خلال أربع ركائز:
1 - حجم الموضوعات ونوعها: بما أن القانون الدستوري الوضعي هو جزء من القانون العام الداخلي؛ فإنه لا يشتمل على موضوع السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؛ إذ خصّ التقسيم القانوني هذا الموضوع بقانون مستقل هو القانون الدولي. بينما يتسع الفقه السياسي الإسلامي لموضوعات السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؛ أي أن موضوعاته تستوعب أجزاء من فروع القانون العام الداخلي والخارجي؛ كالقانون الدستوري والقانون الإداري والقانون الدولي؛ بل يتسع الفقه السياسي الإسلامي لموضوعات أكبر من القانون؛ ولا سيما موضوع (الولاية) و(الإمامة) و(قيادة الأمة)، وهو موضوع يرتبط بالعقيدة والنظرية السياسية. ومن جانب آخر؛ فإن الفقه السياسي الإسلامي هو جزء من فقه الدولة الإسلامية، وأن الفقه الدستوري الإسلامي هو جزء من الفقه السياسي الإسلامي؛ إذ يختص الفقه الدستوري الإسلامي بالموضوعات ذات العلاقة بالدستور؛ أي أنه الإطار الفقهي للقانون الدستوري الإسلامي؛ بينما يشتمل الفقه السياسي الإسلامي على موضوعات أخرى أوسع من موضوع الدستور. وإذا اعتبرنا أن القانون الوضعي بجزئيه العام والخاص؛ يمثل قانون الدولة؛ فإن فقه الدولة الإسلامية يناظر جميع قواعد القانون الوضعي.
2 - المصادر: تقتصر مصادر القانون الدستوري الوضعي على المصادر الوضعية البشرية؛ كقبليات النظام الاجتماعي والمذهب السياسي للدولة، ووثيقة الدستور واللوائح والقوانين الأساسية، والأعراف والتقاليد الدستورية. وهناك بلدان تحاول التوفيق بين المصادر الوضعية والمصادر الدينية؛ فتضع التعاليم الدينية للأكثرية السكانية في البلاد إلى جانب المصادر الوضعية، كأغلبية البلدان المسلمة التي تضع الشريعة الإسلامية مصدراً لقانونها الدستوري إلى جانب المصادر الوضعية الاخرى. وهو ما يمكن ان نصفه بالمنظومة القانونية العلمانية المتأسلمة أو الإسلامية المعلمنة. أما مصادر الفقه السياسي الإسلامي؛ فهي مصادر التشريع الإسلامي نفسها، والتي تشتمل على المصادر المقدسة الملزِمة التي تحتوي الأحكام القطعية: القرآن الكريم والصحيح من السنة الشريفة، والمصادر الاجتهادية التي تحتوي الأحكام الظنية؛ بما في ذلك الأحكام الثانوية والأحكام الولائية. وتنعكس المصادر على الجانب المنهجي أيضاً؛ إذ تنزع منهجية القانون الدستوري الوضعي نحو التخصص في القواعد التقنية التي تحتضن وثيقة الدستور؛ بينما تطغى المنهجية الفكرية والعقدية والفقهية الاستدلالية على الفقه السياسي الإسلامي.
3 - دولة الفقه ودولة القانون: هناك فرق بنيوي بين دولة الفقه السياسي الإسلامي ودولة القانون الدستوري الوضعي؛ فالدولة التي يفرزها الفقه السياسي الإسلامي هي دولة دينية - مدنية. وقد عززت القواعد الشرعية السياسية للمدونات الفقهية الحديثة جانب الشرعية أيضاً لدولة الفقه السياسي الإسلامي، ونقصد بها الشرعية القانونية؛ أي أن الدولة الإسلامية ذات شرعية ثنائية؛ فهي تراعي القواعد الشرعية الدينية من جهة، والقواعد القانونية الوضعية التي تقبلها الشريعة الإسلامية بتكييفاتها الفقهية المعاصرة، وخاصة في قسمي القانون الدولي والقانون الدستوري من جهة أخرى. أما الدولة التي يفرزها القانون الدستوري الوضعي فهي دولة وضعية تستند إلى شرعية أحادية متمثلة في القانون الدستوري الوضعي.
4 - جزاء مخالفة الدستور: يدخل موضوع مخالفة سلطات الدولة وعموم نظامها القانوني للدستور في صلب مبدأ سمو الدستور. فعلى وفق القانون الدستوري الوضعي؛ لاتوجد فوق سلطات الدولة سلطة أعلى تستطيع كفالة الإحترام للقواعد الدستورية. لذلك؛ فجزاء مخالفة القواعد الدستورية يتمثل في مسؤولية كل سلطة من سلطات الدولة قبال السلطات الأخرى، في حدود الرقابة المخولة لها من ناحية، وفي مسؤولية هذه السلطات أمام الشعب في نهاية المطاف من ناحية أخرى. أما في منظومة الفقه السياسي الإسلامي؛ فإن منصب (الولاية) و(الإمامة) و(قيادة الأمة) يتكفل بحماية منظومة القانون وكفالة سمو الدستور، من خلال آليتين: آلية فقهية ـ قانونية، تتمثل في مجلس فقهي قانوني يراقب التشريعات ومدى تطابقها مع الدستور والشرع، وآلية فقهية محضة، تتمثل في الأحكام الولائية التي ينحصر إصدراها بولي الأمر، والتي لايقتصر تأثيرها على تجميد بعض القوانين والمواد الدستورية أو مخالفتها؛ بل يمتد إلى إمكانية تجميد بعض الأحكام الشرعية. وبذلك يتكفل منصب (ولاية الأمر) في محاسبة سلطات الدولة، وضمان التزامها بالدستور.
وبالتالي؛ فإن القانون الدستوري الإسلامي يطابق القانون الدستوري الوضعي من الناحية الوظيفية، وكذا يطابق الدستور الوضعي الدستور الإسلامي. ولكن الإختلاف يكمن في بعض المصادر وبعض المخرجات. فمصادر القانون الدستوري الإسلامي وقبلياته ومخرجاته مقيدة بالنظرية الإجتماعية السياسية الإسلامية والنظام السياسي الذي تفرزه النظرية، أي أنها مصادر مركبة: شرعية، وتنحصر بالقرآن والسنة، وكاشفة، أي الإجماع والعقل، إضافة الى المصادر الوضعية المقبولة شرعاً.
أما القانون الدستوري الوضعي؛ فمصادره وقبلياته أرضية محضة، وتنتمي الى النظرية الإجتماعية السياسية المراد تطبيقها؛ ففي الغرب ـ مثلاً ـ يعتمد القانون الدستوري النظريات الإجتماعية السياسية الوضعية، ولا سيما الليبرالية والديمقراطية. أي أن المبادئ العامة أو القبليات الفكرية للمجتمع؛ تنتج قانوناً دستورياً، والقانون الدستوري ينتج دستوراً، والدستور ينتج نظاماً سياسياً للدولة.
https://telegram.me/buratha