إعداد: د. نعمه العبادي ||
تزامناً مع ما يجري في الأراضي المحتلة من تصعيد، ولأهمية الموقف المسيحي وأثره البالغ على كل مجريات القضية الفلسطينية، أضع بين أيديكم خلاصات مكثفة لموقف أهم التكوينات المسيحية، معتمداً على الرأي المشهور والمتداول بشأن مواقفها بعيداً عن الجدل والخلاف، إذ يؤشر الواقع مطابقة هذه المواقف لواقع الحال بحسب ما تمت الإشارة إليه في أدناه من التفاصيل الآتية:
١- الصهيونية المسيحية هو الاسم الذي يطلق عادة على معتقد جماعة من المسيحيين المنحدرين غالباً من الكنائس البروتستانتية الأصولية والتي تؤمن بأن قيام دولة إسرائيل عام 1948 كان ضرورة حتمية لأنها تتمم نبؤات الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وتشكل المقدمة لمجيء المسيح الثاني إلى الأرض كملكٍ منتصر.
يعتقد الصهاينة المسيحيون أنه من واجبهم الدفاع عن الشعب اليهودي بشكل عام وعن الدولة العبرية بشكل خاص، ويعارضون أي نقد أو معارضة لإسرائيل خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يشكلون جزءاً من اللوبي المؤيد لإسرائيل.
يعارض التيار الصهيوني المسيحي أي انسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة أو أي تفكيك وإخلاء لأي مستوطنة إسرائيلية، كما يرفضون بشكل قاطع تبني حل الدولتين وهذا يخالف رأي المنظمات المعتدلة المؤيدة لإسرائيل والتي ترى في إقامة الدولة الفلسطينية حلاً لإنهاء حالة الحرب في المنطقة.
بحسب القس ويزلي غرانبيرغ-مايكلسون الأمين العام للكنيسة المصلحة في الولايات المتحدة فأن الصهيونية المسيحية هي عدوة الشهادة المسيحية في الشرق الأوسط، وهي ليست مجرد انحراف لاهوتي بل أيديولوجية تهدد وجود مسيحيي المنطقة وتعيق إعلان الإيمان المسيحي في تلك البلدان، ويقول بأن دعم الصهاينة المسيحيين وحكومات الولايات المتحدة لإسرائيل وسياساتها التوسعية يقوض قدرات المسيحيين الأمريكيين الآخرين للخدمة كصناع سلام أو وسطاء نزهاء في تلك المنطقة من العالم.
٢- الكنيسة الكاثوليكية:
أعلنت الكنيسة الكاثوليكية في الولايات المتحدة الأمريكية موقفها من الصهيونية المسيحية مبكراً في مايو/أيار عام 1897 عندما صرحت في بيانٍ لها "إن إعادة بناء القدس لتصبح مركزا لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها يتناقض مع نبوءات المسيح نفسه الذي أخبرنا أن القدس سوف تدوسها العامة حتى نهاية زمن العامة أي حتى نهاية الزمن". وكرد فعل على وعد بلفور صرح البابا بندكت الخامس عشر عام 1917 "لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة". وبتاريخ 15 مايو/أيار عام 1922 بعث الفاتيكان بمذكرة رسمية لعصبة الأمم للتعبير عن اعتراض البابا على فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ورد فيها "إن الحبر الأعظم لا يمكن أن يوافق على منح اليهود امتيازات على غيرهم من السكان"، ولم تكن مواقف بيوس الثاني عشر مختلفة عن مواقف سلفه بندكت الخامس عشر، فبشكل عام ترفض الكنيسة الرومانية الكاثوليكية اللاهوت الإسخاتولوجي الألفي الذي يستند عليه الصهاينة المسيحيون في معتقداتهم، ومع عودة ظهور هذا اللاهوت بقوة على الساحة المسيحية بين البروتستانت الإنجيليين في القرنين التاسع عشر والعشرين أعلن مكتب العقيدة في الفاتيكان بتاريخ 21 يوليو/تموز عام 1944 في زمن حبرية البابا بيوس الثاني عشر عن رفضه الصريح للتعليم الألفي. فنظرة الكاثوليكية التقليدية للحكم الألفي المذكور في سفر الرؤيا الإصحاح 20 تنص على أن حكم المسيح بدأ فعلاً مع مجيئه الأول إلى الأرض (الرقم ألف هنا ذو قيمة رمزية) وسينتهي مع مجيئه الثاني عند نهاية العالم، عندما تقوم كل البشرية من الموت فيذهب الأبرار إلى الحياة الأبدية والأشرار للعقاب الأبدي؛ فلا يوجد أي فترة ألفية ما بين عصر الكنيسة ونهاية العالم. هذه الأفكار اعتنقتها الكنيسة الكاثوليكية بفضل تعاليم جيروم وأوغسطينوس وأمبروز ويوحنا فم الذهب وغريغوريوس أسقف نيصص ويوستينوس الشهيد ويوسابيوس القيصري وتوما الإكويني. يعتقد الصهاينة المسيحيون أنه بعودة المسيح لحكم العالم سيُعاد بناء هيكل سليمان في القدس، بينما ورد في الموسوعة الكاثوليكية نسخة عام 1911 بأن المسيح الدجال سيكون من أصل يهودي من سبط دان، وفي نسخة 1936 تقول الموسوعة نفسها بأن المسيح الدجال سوف يقوم بإعادة بناء أورشليم والمعبد اليهودي حيث سيدعو الناس لعبادته كإله.
هذه الأسباب وغيرها دفعت الكنيسة الكاثوليكية لاعتبار الصهيونية المسيحية كحركة معادية للكاثوليكية تحاول أن تنزع عن الكنيسة دورها كمحققة لنبوءات الكتاب المقدس وكمرجعية وحيدة لها صلاحية تفسير هذه النبوءات؛ فهي ترى أن الصهاينة المسيحيين يلوون عنق نصوص الكتاب المقدس بما يخدم مصالحهم السياسية والدينية، فهم يجعلون اليهود وإسرائيل وليس "كنيسة العهد الجديد" مركزاً لخطة الله الخلاصية، فتكون الصهيونية المسيحية بذلك بالنسبة للكاثوليك خاطئة ولا أساس لها لا في الكتاب المقدس ولا في التقليد الكنسي.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وقيام دولة إسرائيل عام 1948 أعاد بعض رجال الكنيسة الكاثوليكية النظر بموضوع تأسيس الدولة العبرية، فالبعض صار ينظر لوجودها على أنه ضروري لمحاربة المد الشيوعي الإلحادي في منطقة الشرق الأوسط، بينما استمر البعض الآخر برفضهم لمبدأ قيام دولة يهودية مؤيدين مبدأ عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم المحتلة، وأخيراً برز تيار ثالث يدعو لحل الدولتين مع منح الفلسطينيين كافة حقوقهم.
٣- الكنيسة الأرثوذكسية:
تعارض الكنيسة الأرثوذكسية في أمريكا الصهيونية المسيحية مستندةً في ذلك على أسسٍ ذات طابع عقائدي، فبالنسبة لها تعمل الحركة الصهيونية المسيحية على إدخال أفكار لاهوتية غريبة على الدين المسيحي لأهداف سياسية تصب في مصالح دولة محددة.
في محاضرة ألقاها القس الدكتور جورج عطية في أبرشية طرطوس للروم الأرثوذكس وهو دكتور في مادة العقائد في معهد القديس يوحنا الدمشقي في جامعة البلمند، صرح بأن "المسيحية لم تعرف لا بشرقها ولا بغربها وعلى مدى قرونها كلها أي ميل لقبول أي فكرة صهيونية، وذلك بسبب التصادم الجذري بين المفهومين لا بل يمكن القول أن المسيح رُفض وصُلب من اليهود، لأنه لم يرد أن يكون صهيونياً فقد حاولوا هم أن يجعلوه ملكاً أرضياً بمفهومهم الصهيوني فأما هو فلم يرد وقد أظهر بوضوح هذا أثناء محاكمته أمام بيلاطس عندما قال (مملكتي ليست في هذا العالم)".
أتمنى ان تساعد هذه الخلاصات في فهم أوسع وأعمق للموقف العالمي وتوجهاته المتعددة، كما انها تفضح بوضوح حالة التناقض لدى اطراف كثيرة بين الرأي العقائدي والموقف السياسي الذي نشهده منذ قرابة المائة سنة.
https://telegram.me/buratha