محمد صادق الهاشمي ||
المقدمة
يرتبط الشعبان الإيراني والعراقي بمكوناتهم المختلفة، بروابط مهمة تاريخية وإستراتيجية بالتاريخ، تكونت تلك العلاقات وترسخت وتعمقت وتلازمت؛ بما يجعلها مميزة وراسخة ومنتجة لواقع أكثر حيوية، ويحقق ترابط العلاقات إلى الأبد، ويجعل من الشعبين نموذجًا لحياة الشعوب في المنطقة، وتفرض تلك الروابط واقعًا لا يمكن للأعداء فتَّه مهما كانت التحديات والبرامج الغربية؛ لتفكيك تلك الآصرة لأنها مبنية على أسس كبيرة، ولأنَّ العلاقات المتينة دومًا هي التي يتوفر فيها عامِلا الثقافة والاجتماع، لكن علاقات الشعب العراقي مع الشعوب الأخرى –الغربية منها والأميركية– تحديدًا لا تصمد؛ لعدم وجود العلاقة التاريخية، ولا الأسس العميقة التي جعلت بعض الجوانب مشتركات في العقيدة، والفكر، والثقافة، والتاريخ، والجغرافيا، وفي هذا البحث المختصر نتناول الأبعاد: التاريخية، الثقافية، والاجتماعية.
وهنا نتناول الجوانب المهمة وهي:
1- الإسلام
يتجاور الشعبان الإيراني والعراقي عبرالتاريخ فالجغرافيا والتاريخ حاكمان على عمق العلاقة بين الشعبين ، اما فيما يختص في مرحلة التاريخ الإسلامي فان العلاقات ترسخت وتضاعفت اسباب قوة العلاقة وتنوعت وتحولت الى علاقات تقوم على اساس العقيدة والدين والفكر الاسلامي والهم الرسالي ، ومنذ ظهور الإسلام في إيران (637-651)، فقد خلق المشترك الإسلامي كمًا كبيرًا من التراكمات الثقافية، والعقائدية، والفكرية؛ وجعلت تلك المشتركاتُ ثقافةَ الشعبين تقوم على أساس الوحدانية، والنبوة، والعقائد الواحدة، كما أنَّ وجود الشعور المشترك بين الشعبين أنهما واحد في الديانة، فضلًا عن الإسهامات المشتركة للفقهاء والرواة من أصحاب الرجال، والشخصيات التي ألَّفت، وكتبت، ونسجت تاريخ الإسلام من كلا الشعبين الغى الكثير الكثير من الفواصل وقرب المساحات ودمج الثقافات ومازج بين الشعوب واوجد فرص التواصل والتلاقي والتلاقح والتداخل الاجتماعي والفكري والثقافي ؛ فتجد في سماء الشعبين سلمان المحمدي والكليني، وابن قولويه، وابن سينا، والفخر الرازي، والبخاري. وكلما توسعت مساحة الإسلام في العدد السكاني؛ اقتربت ثقافة الشعبين بين العراق وإيران، فإيران الآن بلد مسلم، تبلغ نسبة المسلمين فيه (99%)، والكلام نفسه في العراق، وهذه مشتركات عميقة، تقوم على قمة الأسس في التقارب.
2- التقارب المذهبي
خلق التشيّع والتقارب المذهبي بين الشعبين، آصرة تشد الشعبين على أسس عقائدية، وفكرية، وثقافية؛ ترتكز على الإيمان بآل البيت (ع)، وتتفرع عنها التفصيلات المتعددة، من وجود المراجع، والحوزات، والمفكرين، والمؤلفات المشتركة، والمصير المشترك، والمواقف الواحدة.
الجدير بالذكرإنَّ عمر هذه الآصرة، يمتد قرونًا بنحو مهد الى تمازج الشعبين, وأنتج وحدة ثقافية عقائدية واحدة؛ منذ تأسيس الحوزة على يد الشيخ الطوسي، وهذه دلالة على التمازج الاجتماعي على اساس العقيدة الواحدة. وهنا تجدر الاشارة الى إنَّ أغلب المراجع الذين تصدوا إلى المرجعية وإدراة الحوزات في العراق، هم من إيران، وإلى الآن لم نجد في التاريخ أي حساسية قومية لدى الشعب العراقي، في التقليد لهولاء المراجع، بل يوجد انقياد وطاعة، وخير دلالة؛ طاعة الشعب العراقي وشيعته للمرجع الشيرازي في ثورة العشرين، والمرجع السيستاني في فتوى الجهاد الكفائي، وتمازج الأمر أكثر حينما أوصي الشهيدُ الصدر الأول، الشعبَ العراقي أن يساند الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني بمقولته الشهيرة (ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام). وقد دفع الشيعة في العراق الدماء، والشهداء، والتضحيات؛ إيمانًا بالثورة الإسلامية، ومنهاجها الفكري ، كما أنَّ السنين التي عاشها الإمام الخميني في النجف الأشرف؛ يصنع فيها مجدَ ثورته وفكرها؛ وما زالت تعمق الثورة ومنهاجها ورجالها في ذاكرة الأجيال الشيعية، والحوزات العلمية في العراق . هذا في جانب المكون الشيعي اما في ما يرتبط بالسنة في العراق فهم أحناف وشافعية، لا يحملون أي منهاج تكفيري؛ مما جعل التقارب قائم الآن وتاريخيًا مع كل المكونات.
3- لغة القرآن، والحديث، والدراسات الإسلامية
سارالشعبان تاريخيا بعد ظهور الاسلام مسارًا واحدًا لتأسيس الفكر والثقافة الواحدة، والاشتراك في صناعة الحضارة الإسلامية، وترسيخ أسس الإسلام الثقافية، والعلمية، والفكرية؛ من اللغة والرواية والقرآن والتفسيروالعقائد، وللحق يقال إنَّ الشعب الإيراني ترك أثرًا كبيرًا في تاريخ العراق والعراقيين الثقافي ؛ كونهم اهتموا بعلوم الإسلام، فيكفي أنَّ في تاريخ الأدب واللغة العربية: سيبويه، وأبو علي الحسن بن أحمد الفارسي، والمبرد، وابن جني الموصلي، وابن فارس، والزمخشري.
أما في الجانب الروائي؛ فنجد نجوم العلم من قوم فارس، الذين تركوا بصماتهم على الرواية، والفكر الروائي العشرات منهم، نحو: إبراهيم إسماعيل بن زكريا الخلقاني, وإبان بن تغلب، وعباد بن العوام، وعبد الملك بن أعين، وعلي بن هاشم بن البريد… وغيرهم، والكلام نفسه يقال في تفسير القرآن؛ فإنَّ عددًا كبيرًا من المفسرين من الفرس، تركوا بصماتهم في علوم القرآن، مما مازج الفكر في هذا المجال بين الفرس والعرب، ونذكر منهم: الطبري، الأخفش البلخي، النيسابوري، ابن أبي حاتم، البغوي، الفخر الرازي… وغيرهم.
4- التداخل العشائري والقومي
من العوامل التي عمَّقت تاريخيًا التمازج بين الشعبين، هي وجود امتداد عشائري بين الشعبين؛ فإنَّ الشريط الممتد بين الشمال العراقي، من السليمانية وصولًا إلى ديالى، ثم واسط وميسان، وانتهاءً بالبصرة، وهو الشريط المجاور لإيران؛ شهد تمازجًا عشائريًا وقوميًا, فتجد في مختلف مراحل التاريخ، وقبل ترسيم الحدود وبعدها؛ نجد أنَّ في كل مدينة إيرانية وعراقية، مقابلة لها مشترك قبلي؛ فالعشيرة مقسومة نصف في الجانب الإيراني، والآخر في الجانب العراقي من الكرد والعرب, وهذا خير دليل على التفاعل والانسجام ووجود التماثل الثقافي والفكري وتقارب العادات والتقاليد واللغات واللهجات وكثير من الامور.
وهناك عامل آخر في تعميق التفاعل بين الشعبين، وهو وجود القوميات المختلفة، والمتمازجة بين الشعبين، مثل وجود الكرد الفيلية من أصول إيرانية، واللر، والشبك في العراق؛ وهم استوطنوا العراق منذ قرون؛ مما شكل تمازجًا كبيرًا، والكلام نفسه يقال في الجانب الإيراني بوجود السادة المهاجرين، والعرب المهاجرين، والمهجَّرين.
5- الحوزات العلمية
الحوزة العلمية النجفية، هي العاصمة العلمية الدينية التاريخية للنظام الاجتماعي الديني الشيعي العالمي، منذ (1000) عامٍ تقريبًا؛ فقد أسس موقعها هذا بعد العام (448 هجري - 1038م) زعيم الشيعة في وقته: (الشيخ محمد بن الحسن الطوسي) المعروف بشيخ الطائفة، وبقيت تمارس دورها العلمي والفكري والديني والتبليغي والإعلامي والأدبي والاجتماعي والسياسي؛ دون توقف حتى اللحظة الراهنة.
منذ ذلك العهد إلى الآنتفاعل الشعبين في ميدان الحوزة ، فقد هاجرت عقول من الشعب الإيراني إلى النجف الأشرف، والخلاف كذلك، وبهذا ظهرت في سماء العالم الإسلامي، والعراقي، خصوصًا شيعة العراق؛ نجوم المراجع والمحققين الكبار من إيران الذين عمقوا التمازج الاجتماعي، ولو أتينا إلى المتأخرين منهم، وجدنا المراجع العرب والفرس وغيرهم؛ يتفاعلون في مساحة الفكر والعلوم الإسلامية منذ المفيد، والرضي، والمرتضى… مرورًا بعشرات المراجع، منهم الكركي، ثم المرجع الشيرازي، والأصفاني، والنائيني، وكاشف الغطاء، والإمام محسن الحكيم، والمرجع الخوئي، والمرجع حسين الحلي، والإمام الخميني، والشهيد الصدر الأول، وغيرهم عشرات, كما أنَّ ثورة الإمام الخميني، أثرت فكريًا وسياسيًا ونهضويًا في جسد الفكر الشيعي العراقي.
6- الأماكن المقدسة
إنَّ وجود المراقد المقدسة بين البلدين، عمق التبادل الثقافي والتواصل الاجتماعي؛ فوجود مرقد الإمام الرضا (ع)، ومعصومة المطهرة (ع)، ومراقد غيرها كثيرة في إيران يحج إليها الشيعة العراقيون، ومراقد في العراق من أئمة الهدى، أبرزها مرقد الإمام علي (عليه السلام)، ومرقد الإمام الحسين (عليه السلام)، والمراقد البقية وهذه المراقد عامل مهم ومحرك للفاعلية الاجتماعية والعقائدية وحتى التجارية فضلا عن الفكرية فقد كان عامل وجود المزارات والمراقد المقدسة سبب للهجرة والسياحة والتبادل الثقافي والتداخل الاجتماعي واخرها زيارة الاربعين التي تشهد انفتاح الساحة الاجتماعية بين الشعبين من تواصل وتقارب ,وقد اشاد الامام الخامنئي بجهود الشعب العراقي وكرمه في ما يقدمه من سخاء مهم في هذه الزيارة الى عموم الشعوب والشعب الايراني ايضا ووصف الشعب العراقي بالكريم والمثقف وهذا عامل اخر ومهم وحيوي لخلق التراص والتشاد بين الشعبين . نعم كانت الظاهرة المميزة، التي يمكن عدّها أكبر قوة للظهور الاجتماعي الموحد بين الشعبين، على أسس العقيدة؛ هي (الزيارة الأربعينية)، التي تخلق التقارب، وربط المصير, كما لا ننسى الدور المهم للشعب الإيراني، في بناء العتبات المقدسة، وتطويرها منذ تأسيسها وبنائها إلى اليوم.
7- الهجرات الاجتماعية الطوعية والقسرية
إنَّ الهجرات والتهجير في التاريخ، ولَّد تمازجًا ثقافيًا منذ عام (786م), وأهم نقطة في تاريخ الهجرات، حينما هاجر (يحي بن عبد الله) بعد موقعة فخ، وهجرة الإمام علي بن موسي الرضا (ع) (818) هجري، ومعصومة المطهرة (ع).
ثم تلتها الهجرات القسرية, كما تجدر الإشارة إلى الآثار المشتركة، التي تتوزع بين إيران والعراق؛ وأبرزها (طاق كسرى) في العراق… والعشرات من الأنهار والمدن وغيرها من المشتركات التي لايسعها البحث .
* الخلاصة
هناك العشرات من المشتركات التي تظهر في كل حقبة زمنية، منها ما اسلفنا ذكره ومنها مشتركات اخرى منها الفن، والمقامات، والحركات السياسية والفكرية… وغيرها، التي تؤكد توكيدًا وثيقًا وجود قوة من تاريخ الثقافة والاجتماع؛ كل تلك الأبعاد والمقومات التاريخية، التي تحتاج إلى مقولات البحوث، ألقت بظلالها على العلاقات في العصر الراهن، والجدير بالذكر؛ يُعَدُّ عامل المصير السياسي، وموقف الجمهورية الإسلامية إلى جانب الشيعة في العراق، وما قدمته من خدمات، وأدوار ساندة ومؤيدة، ومسددة لشيعة العراق؛ جعلت الشعبين يسيران بمسار واحد في الفكر، والمذهب، والموقف السياسي والاجتماعي، وتشهد مرحلة ما بعد إسقاط الصنم البعثي، عصر الازدهار في العلاقات بين الشعبين، واندماج العلاقات الاجتماعية والثقافية بنحو اعمق.
من هنا تصيب المقولةُ التي يرددها العراقيون:
(بين العراق وإيران، تاريخ من الوفاء؛ بدْءًا بسلمان وعلي, وأكملها المختار وكيان, وجددها المهندس وسليماني).
المصادر
......
1- البلاذري : فتوح البلدان : لبلاذري: فتوح البلدان، تصحيح رضوان محمد رضوان، 1978 ص 258، دار الكتب العلمية، بيروت . ابن الاعثم: الفتوح، ج 1، 1986 ص 159، دار الكتب العلمية، بيروت .
2- اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي ,بيروت ,دار صادر 1960م, ج 3 .
3- الشيخ عدنان فرحان ال قاسم : تاريخ الحوزات العلمية عند الشيعة الامامية ,بيروت , دالر السلام , ج 3 ف 1.
4- النعماني : محمد رضا النعماني , سنوات المحنة وايام الحصار , بيروت , 1997 ,ط 2.
5- المومن : احمد المومن , الامام الخميني في ذاكرة النجف الاشرف , بيروت , مطبعة الساقية .
6- الشيخ فرحان : مصدر سابق ,ج 1 .
7- الطبري، ج 2، ص 255-257؛ ابن هشام، ج 1، ص 71-72؛ ابن سعد، ج 1، ص260؛ المسعودي، التنبيه والاشراف، ص 259.
8- راجع: القرشي، باقر شريف، موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية، ج 11، ص 38. 9-
9- راجع: الأسدي، المختار، الامام علي بن الحسين عليهما السلام دراسة تحليلية، ص 74-80. الدينوري، أبو حنيفة، الأخبار الطوال، ص 143.
10- موجاني : علي موجاني ,دور ايران في بناء الاضرحة المقدسة في العراق , لبنان 2009, مطبعة الساقي ,مركز الهدى للدراسات الحوزوية .
11- -جعفريان : رسول جعفريان ,الحياة الفكرية والسياسية لائمة ال البيت (ع), بيروت – لبنان , دار الحق , 2008.
12- مجلة الحوزة : العدد 38 السنة 2020 الفصل 6 (مركز الهدى للدراسات الحوزوية )
........................