دراسات

مبحث في ليلة القدر


الشيخ محمد الربيعي ||

 

v    ليلة القدر والعراق

[ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ]

نريد ان نسجل جملة من المقدمات قبل الخوض بما نهدف له من العنوان ( ليلة القدر و الوطن ) ، حيث اننا نرى من الضروري جدا التطرق لهذا الامر ، سواء كانت ضرورته على نحو الشرعي او الأخلاقي .

محل الشاهد :

▪️لماذا سميت بليلة القدر او لنقول ما هو القدر ؟

القدر : هو بمعنى الشأن العظيم فيقال عالي القدر حيث انه متحقق فيها فلها قدر عظيم هذا معنى .

و هناك معنى آخر لهذه الليلة مأخوذ من اسمها ، و هو القدر بمعنى التقدير أي اتخاذ القرار و البت في الأمر .

▪️لماذا اشير لهذه ليلة المبارك بتعبير ما ادراك ما ليلة القدر ؟

ان ليلة القدر سر من الاسرار الخاصة [ وَ مَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ] ، فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه ، لأنّ ذلك سرّ الله في الزّمان ، كما هو سرّه في المكان و في الأشخاص ، فهو الخالق للوجود كلّه ، بكلّ أنواعه ، و هو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصيّة الّتي تجعل منه « شيئاً مذكوراً » ، و يمنح ذاك بعضاً من الأسرار الّتي تجعله شيئاً عظيماً ، لأنّ الّذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته.

▪️هل ان ليلة القدر أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها ، أم أنّ شرفها سابقٌ عليه ؟

الظّاهر و الله العالم ارجح الثّاني ، لأنّ الله يقول : [ إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ] ، فهي مباركةٌ في ذاتها .

و ربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنّه من الأمر الإلهيّ الّذي يتنزل به الملائكة .

و أيُّ أمرٍ أعظم من القرآن الّذي هو النّور و الهدى للبشريّة من خلال اللّطف الإلهيّ الّذي يصل الأرض بالسّماء ، و يدفع بالحياة إلى السّير على الخطّة الإلهيّة الحكيمة في الفكر و المنهج و الشّريعة و المفهوم الكامل الشّامل للحياة ، الّذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الرّوح القادم من عند الله، ليزداد بذلك ارتفاعاً في السّماوات الروحيّة العليا في رحاب الله .

محل الشاهد :

بعد هذه المقدمات الظاهر منها علو شأنية و عظمة ليلة القدر ، كانت لها جملة من الاعمال المذكورة في محلها ، و لنا اتجاهها ملاحظتين مهمتين :

▪️الاولى : ممكن ان تؤدى تلك الاعمال فرادا او ضمن المجموعة ، هذا من ناحية الاداء .

▪️الثانية : ممكن لمن استطاع ان يؤدي تلك الاعمال كاملة ، او يستقر على العمل الذي يجد فيه نية تقربة لله اقرب او يجد راحة نفسه وتوجهه اكثر .

محل الشاهد :

اذن نحن نريد من كل شخص ان يبوب هذه الليلة المباركة ، الى الوطن الغالي ونحن اذ نتحدث عن العراق فهو يستحق من ابناء شعبه ان تكون كل اعمالهم موجهة الى دعم الوطن و ان لا تخلو تلك الاعمال من حب العراق ، ونحن سنشير الى هذه الكيفية في بعض الاعمال التالية :

▪️ الاستغفار و العودة الى الله تبارك و تعالى ، فالاجدر بالفرد و الجماعة سواء كان ضمن سلطة الحكم و المسؤولية او السياسة او اي صفة كان في هذا البلد ، التوبة الى الله تعالى من اي تقصير صدر منه او منهم اتجاه الوطن ، و التعاهد على اصلاح ما افسده و اسرفه اتجاه وطنه ، و البدأ بعمل صالح اتجاه وطنه و شعبه او دائرة مسؤوليته .

▪️كما انه من الاعمال المطلوبة هو الدعاء ، و الاولى به من باب الوفاء للوطن الاكثار بالدعاء له بالنصر و التمكين ، و النصر ، و دفع البلاء عنه و الوباء .

▪️ من الاعمال الطيبة و المباركة في هذه الليلة المباركة انهاء قضية البغضاء و التوجه الى المصالحة و التحابب ، و هنا ممكن للسياسي واصحاب السلطة و الحكم ، في مثل هكذا ليلة مباركة عرض الصلح و التصالح و المحبه مع الاطراف السياسية الاخرى ، من اجل نصرت البلد و جعله عزيزا من خلال جعل كل قواه صفاً واحداً ، [ كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ]

▪️كذلك من الاعمال المباركة في مثل هذه الليلة هو طلب العلم :

و ممكن ان يكون ذلك العلم هو التفكر من قبل من في سلطة الحكم و المسؤولية ، او من هم في دائرة العمل السياسي ، ان يكون ذلك التعلم و القيمة العلمية منه تسهم في استقرار الوطن ، و ازدهاره و ديمومة الحياة الكريمة فيه .

طبعا هذه بعض الجوانب التي يمكن ان تستغل في هكذا ليلة مباركة ، من اجل الوطن و شعبه

v    استعدوا لليلة القدر

قال الله في كتابه العزيز: { حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }. صدق الله العظيم.

ساعات تفصلنا عن أوّل ليلة من ليالي القدر، هذه اللّيلة التي ميَّزها الله عن بقيَّة ليالي شهر رمضان، بل عن بقيّة ليالي السّنة، بما أودع فيها من الفضائل والبركات، وهي سمّيت ليلة القدر، لما لها من قدر عظيم وشرف عند الله عزّ وجلّ.

وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك، عندما قال: { وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ }.

فهذه اللّيلة هي عند الله خير من ألف شهر، أي أنّ الله منَّ على هذه الأمّة بليلةٍ، العمل فيها يقابل عمل ألف شهر ويزيد عليه، أي عبادة ثمانين سنة، وهذا ثوابٌ أيّما ثواب.

وفي هذه اللّيلة، يُنزل الله ملائكته والرّوح فيها إلى الأرض، حتى تضيق بهم تكريماً لنزول القرآن الكريم في هذه اللّيلة، وليفيضوا على أهلها أمناً وسلاماً وطمأنينةً، وليحملوا دعاء الدّاعين وابتهالاتهم، وأذكار الذّاكرين واستغفار المستغفرين إلى خالقهم. وقد اختلف المفسّرون في المقصود من الرّوح الوارد في قوله: { تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَ }، فمنهم من قال إنّه جبرائيل، لقوله تعالى عندما تحدَّث عنه: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}، وهناك من قال إنّه مخلوق عظيم يفوق الملائكة.

وفي آيةٍ أخرى، بيَّن الله سبحانه أمراً آخر يجري في هذه اللّيلة ويدعو إلى الاهتمام بإحيائها، وهو أنَّ الله سبحانه يقدِّر فيها ما سيجري على العباد لسنة كاملة، من حياة أو موت، ومن خير أو شرّ، ومن صحة أو مرض، ومن سعادة أو شقاء، ومن عطاء أو حرمان، فقال عزّ وجل: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ }.

وما يزيد من شرف هذه اللّيلة ويعلي من مكانتها، هو نزول القرآن الكريم فيها، فقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}… { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ }.

وهنا قد يطرح التّساؤل: كيف تتحدَّث الآية عن نزول القرآن الكريم في ليلة القدر، فيما لم ينزل القرآن الكريم على رسول الله (ص) دفعة واحدة، إنما على مدى ثلاث وعشرين سنة منذ بعثة رسول الله (ص) حتّى مغادرته الدنيا، حيث كانت الآيات تنزل على النبيّ (ص) رداً على التساؤلات، ولمواجهة التحدّيات، أو لإبلاغ حكم شرعيّ أو مفهوم دينيّ أو توجيه أخلاقيّ…؟

وقد ورد في تفسير ذلك آراء عدّة؛ فهناك من المفسّرين من قال إنّه في هذه اللّيلة، ليلة القدر، نزل القرآن الكريم من اللّوح المحفوظ (هو المستودع لمشيئاته) إلى بيت العزّة في السّماء الدّنيا، ليبدأ بعد ذلك نزوله بالتّدريج في كلّ مناسبة أو حدث، وعلى مراحل، وهناك من قال إنَّ القرآن الكريم بدأ نزوله في هذه اللّيلة على رسول الله (ص)، أي أنَّ جبرائيل نزل على رسول الله (ص) في غار حراء بأوّل آية من آيات القرآن الكريم. ويعزّز هؤلاء رأيهم بأنَّ النبيّ (ص) كان يتعبّد في غار حراء خلال شهر رمضان، وكلمة القرآن تطلق على آيات من القرآن، كما تطلق على القرآن كلّه.

فيما قال بعض آخر إنَّ القرآن نزل في هذه اللَّيلة على قلب رسول الله (ص) ليعي القرآن بشموليّته، وبعد ذلك، بدأ النّزول التدريجيّ، وحسبما تقتضيه الظروف، والذي استمرّ لثلاث وعشرين سنة.

يبقى السّؤال الذّي يُطرَح دائماً عند الحديث عن ليلة القدر: متى ليلة القدر؟ ولماذا يتمّ إحياء ثلاثة أيّام مع كونها ليلةً واحدة؟ هنا يقال إنّ هذا الاختلاف يعود إلى تعدّد الروايات التي أشارت إلى ليلة القدر؛ منها ما أشار إلى أنها في ليلة التّاسع عشر، وهناك روايات أخرى أنها في ليلة الواحد والعشرين، وهناك من ذكر أنها في الثّالث والعشرين، وهو المرجَّح لدينا، وهناك روايات أنّها في السّابع والعشرين، وهناك روايات أن التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان.. فنحن ينبغي أن نحييها في كلّ هذه الأيّام، حتى نتأكّد أننا أحيينا ليلة القدر ولن يفوتنا إحياؤها، ولا تضيع علينا بركتها.

ولعلّ في هذا الاختلاف في تعدّد الرّوايات حكمة وغاية، وهي دفع المؤمنين إلى إحياء هذه اللّيالي، حتى لا يفوتهم خيرها وبركاتها.

فكما أشارت الأحاديث إلى أنّ الله أخفى رضاه بين أنواع الطّاعات، حتى لا يستصغر أحدٌ شيئاً من طاعته، وأخفى سخطه في معصيته كي يتجنَّب العباد جميع معاصيه، وأخفى وليّه في عباده حتى لا يستصغر أحدٌ عبداً من عبيده، فربما يكون هو وليّاً، وأخفى إجابته في دعوته حتى لا يستصغر شيئاً من دعائه، وأخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظَّم كلّ أسمائه، وأخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائماً على استعداد له، كذلك أخفى الله هذه اللّيلة بين كلّ هذه اللّيالي كي يحيوها كلّها.

لذلك أيّها الأحبَّة، لا بدَّ أن نسجّل حضورنا الفاعل في كلّ ليلة من لياليها، إن لم يكن في المساجد ففي بيوتنا، أن لا ندعها تمرّ دون أن نستفيد من بركاتها؛ فنرى أنّ كلّ دقيقة من دقائقها ثمينة، ليس من شيء هو أثمن منها، وأن لا يشغلنا عنها شاغل، وأن نقبل عليها بقلوب نقيّة صافية قد خلت من كلّ حقد وضغينة، وأن نتوجَّه إلى الله بألسن طهرت من أيّ غيبة أو نميمة أو كذب أو افتراء على الله وعلى النّاس، فلا يقبل دعاء أو ذكر بلسان غير نقيّ، وبنفوس امتلأت حباً لخالقها، ورغبةً بما عنده، وثقةً بوعده وخوفاً من وعيده، وأن ندعوه بأن يقينا من النّار، فنقول كما نقرأ في دعاء الجوشن: “سُبحانَكَ يا لا إلهَ إلّا أنتَ، الغَوثَ الغَوثَ الغَوثَ، خَلِّصنا مِنَ النّارِ يا رَبِّ”، وأن نتطبّع بمكارم الأخلاق وأعلى الصّفات، فندعو الله أن يسدِّدنا لأن نعارض من غشّنا بالنّصح، ونجزي من هجرنا بالبرّ، ونثيب من حرمنا بالبذل، ونكافئ من قطعنا بالصِّلة، ونخالف من اغتابنا إلى حسن الذّكر، كما نقرأ في دعاء مكارم الأخلاق.

وأن نستهدي بالقرآن الكريم في حياتنا، ليكون هدياً ومقتدى وهدى لنا، وأن نشمل بدعائنا كلّ من يحتاج إلى الدعاء، وحتى ممن نختلف معهم، أو كان بيننا وبينهم عداوة وشحناء.

هي فرصة ثمينة لا يفوِّتها الواعون.

وكما قال رسول الله (ص): “مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ”. وليكن دعاؤنا لله أن يعيننا عليها: “اللَّهمَّ ووفِّقني فيه لليلة القدر على أفضل حالٍ تحبّ أن يكون عليها أحد من أوليائك وأرضاها لك، وارزقني فيها أفضل ما رزقت أحداً ممن بلّغته إيَّاها وأكرمته بها، واجعلني فيها من عتقائك من النَّار وسعداء خلقك، برحمتك يا أرحم الرّاحمين

v    الليلة المباركة

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.

سؤال ليلة القدر هل هي مباركة بذاته ام انها مباركة للاحداث الواقعة فيها ؟

الجواب سيأتي تبعا ...

محل الشاهد :

إنّ التّدقيق في الآيات التي تحدثت عن نزول القرآن، يوحي بأنّها من ليالي شهر رمضان، وذلك كما في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة: 185]، وقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ* فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدّخان: 3ـ5]، فإنّ الظاهر منها ـ بالمقارنة مع سورة القدر ـ أنّ المراد بها ليلة القدر.

وقد اختلفت الأحاديث في تحديدها، ولعلّ المشهور في أحاديث الإماميّة، أنها ليلة ثلاث وعشرين، فقد جاء في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحد الإمامين الباقر والصّادق(ع)، قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، وحديثه أنّه قال لرسول الله(ص)، إنّ منزلي ناءٍ عن المدينة، فمرني بليلةٍ أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين.

وهناك رواية في «الدرّ المنثور» عن مالك والبيهقي بهذا المعنى، والمعروف عند علماء أهل السنّة، أنّها ليلة سبعٍ وعشرين.

هل تدلّ الآية على نزول القرآن دفعةً واحدةً؟

{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. هل نزل القرآن بأجمعه في ليلة القدر؟ وهل هناك ظهور في الآية وفي أمثالها أنّ القرآن أنزل جملةً واحدة غير نزوله التّدريجيّ في مدّة ثلاث وعشرين سنةً، كما ورد في قوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}[الإسراء: 106]، وفي قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً}[الفرقان: 32].

ربما يقال: إنّ ظاهر كلمة القرآن هو مجموع ما بين الدفَّتين، ولكن يمكن أن نلاحظ، على هذا، أنّ الآيات الّتي تتحدّث عن إنزال القرآن في ليلةٍ مباركةٍ، وفي شهر رمضان، وفي ليلة القدر، هي بعضٌ من القرآن، فهل تشير إلى نفسها كجزءٍ من القرآن المنزّل؟

ثم إنّ الظّهور في الكلّ ـ لو كان ـ فهو مشتركٌ بين الآيات الّتي تتحدّث عن النزول التدريجيّ، وعن نزوله بنفسه، ما يدلّ على أنّ المراد بالقرآن هو المعنى العام الّذي يصدق على الآية والسّورة والكتاب كلّه.

 كما أنّنا نلاحظ في كتب السّيرة، أنّ النبيّ كان ينتظر النزول القرآني كلّما وقع المسلمون في مشكلةٍ تحتاج إلى الحلّ، وكان يتوقّف في بيانها للنّاس انتظاراً منه للحلّ القرآنيّ من الله، فلو كان قد نزل جملةً، لكان معلوماً للنبيّ بتفاصيله في كلّ أحكامه، والله العالم.

وما هو المراد بالقدر؛ فهل هو بمعنى الشّرف والرّفعة في ما يمثّله ذلك من علوّ الدّرجة والمنزلة، لما لها من المنزلة الرّفيعة عند الله، أم أنّ المراد التقدير، فهي اللّيلة الّتي يقدّر الله فيها كلّ أحداث السنة، من حياةٍ وموتٍ، وبؤسٍ وشقاءٍ، وحربٍ وسلمٍ وغير ذلك، ولعلّ هذا هو الأقرب، بلحاظ قوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}[الدخان: 4ـ5]، وقوله في آخر السّورة: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}.

محل الشاهد :

{وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه، لأنّ ذلك سرّ الله في الزّمان، كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص، فهو الخالق للوجود كلّه، بكلّ أنواعه، وهو الذي يمنح هذا بعضاً من الخصوصيّة الّتي تجعل منه «شيئاً مذكوراً»، ويمنح ذاك بعضاً من الأسرار الّتي تجعله شيئاً عظيماً، لأنّ الّذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه اللّيلة قيمتها الروحيّة: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، وقد لا يكون هذا الرّقم تحديداً في الكمّ، فربما كان تقريباً للنّوع في الدّرجة الّتي يتضاءل أمامها كلّ زمنٍ من هذه الأزمنة الّتي لا تحمل إلا الذرّات الزمنيّة المجرّدة.

وهل أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها، أم أنّ شرفها سابقٌ عليه؟ الظّاهر الثّاني، لأنّ الله يقول: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}[الدخان: 3]، فهي مباركةٌ في ذاتها.

وربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنّه من الأمر الإلهيّ الّذي يتنزل به الملائكة.

وأيُّ أمرٍ أعظم من القرآن الّذي هو النّور والهدى للبشريّة من خلال اللّطف الإلهيّ الّذي يصل الأرض بالسّماء، ويدفع بالحياة إلى السّير على الخطّة الإلهيّة الحكيمة في الفكر والمنهج والشّريعة والمفهوم الكامل الشّامل للحياة، الّذي يفتح للإنسان أكثر من نافذةٍ على الرّوح القادم من عند الله، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعاً في السّماوات الروحيّة العليا في رحاب الله؟!.

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ}، وهذا هو سرّ اللّيلة الّذي تتنزّل به الملائكة، الّذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتّصل بالإنسان من كلّ أمرٍ يهمّه أو يتعلّق بشؤونه، في رزقه، وحركته وعمره، ونحو ذلك. كما يتنزّل به الرّوح الّذي قد يكون المراد به جبريل(ع)، الّذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنّه الرّسول الّذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للنّاس، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الّذي يتميّز بقدرةٍ خاصّةٍ غامضةٍ، أو بطبيعة مختلفةٍ عن طبيعة الملائكة.

ولكن ما هي تفاصيل ذلك الأمر؟ وما هي ملامحه الدّقيقة؟ إنّ ذلك مما لم يبيّنه الله لنا، ولكنّنا نعرف أنّ هناك بياناً لكلّ أمرٍ حكيم، أمراً من عند الله، وقد فسّره المفسّرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتّصلة بحياة الإنسان.

ومهما كان، مما يمكن للإنسان فهم معناه، وبلوغ مداه، أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك، فإنّ الآية توحي بأنّ هناك سرّاً ربّانياً يثيره الله في هذه اللّيلة في الكون الإنساني، من خلال رحمته الّتي يرحم بها عباده، ولطفه الّذي يلطف به في حياتهم العامّة أو الخاصّة.

{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، فليس فيها أيّ معنًى يوحي بالشرّ والبغض والأذى مما يرهق مشاعر السَّلام للإنسان؛ إنَّه سلام الرّوح الّذي يمتدّ في روحانيَّة هذه اللّيلة، في كلّ دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، ليبدأ يومٌ جديدٌ يتحوّل فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسانٍ جديد، هو إنسان الخير والمحبّة والسّلام، في آفاق الله الرّحمن الرّحيم الّذي هو السّلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبّر.

وتلك هي ليلة القدر الّتي قد يكون لها موعدٌ معيّنٌ معلومٌ، لأنّ الله ربما أخفاها في اللّيالي، لينطلق العباد في أيّامه، ليصلوا إليها، ليتعبّدوا لله في أكثر من ليلةٍ، لاحتمال أنّها ليلة القدر، حتّى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر، في العبادة والخضوع والقرب من الله.

 وذلك ما يريده الله لعباده، أن يتقرّبوا إليه، ويلتقوا به، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم، لأنّهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.

ولذلك جاءت التّعاليم النبويّة المستمدّة من الوحي الإلهيّ الّذي أوحى به إلى نبيّه، أو ألهمه إيَّاه، بضرورة استعداده فيها للصَّلاة والابتهال والدّعاء والانقطاع إلى الله، والتقرّب إليه بالكلمة الخاشعة، والدَّمعة الخائفة، والخفقة الحائرة، والشَّهقة المبتهلة، ليحصل على رضاه، فيكون ذلك أساساً للتَّقدير الإلهيّ الّذي يمثِّل عناية الله به ورعايته له، وانفتاحه عليه بربوبيّته الحانية الرّحيمة. وذلك هو السرّ الّذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر، في مواقع إنسانيّته، ليلتقي ـ فيها ـ بالسرّ الإلهيّ في رحاب ربوبيّته، لينطلق الإنسان إلى ربّه قائماً وقاعداً، وراكعاً وساجداً، في إخلاصه، وفي ابتهاله وفي خشوعه، لتكون هذه اللّيلة موعداً إلهيّاً يتميّز عن أيّ موعدٍ آخر. فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كلّ وقت، ولكنّ لقاءه به في ليلة القدر شيءٌ آخر، فهي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، فالرّحمة فيها تتضاعف، والعمل فيها يكبر، والخير فيها يكثر، وعطايا الله تتزايد، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السّلام الّتي يعيش فيها الإنسان روحيّة السّلام مع نفسه ومع النّاس، لأنها تحوّلت إلى معنى السّلام المنفتح بكلّ معانيه على الله، ليكون برداً وسلاماً على قلب الإنسان وروحه، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله.

اللهم احفظ الاسلام واهله

اللهم احفظ العراق وشعبه

 

 

ـــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك