محمد صادق الهاشمي ||
المقدمة
الثقافة السياسية للعشائر العراقية هي تأثّرت بفعل العامل الخارجي، فإنّ بمراجعة سريعة للتاريخ العراقي منذ القرن السادس عشر ـ مع أنّ خارطة التكون العشائري اكتسبت شكلها النهائي في القرن التاسع عشر( ) ـ نجد أنَّ الدور العشائري امتاز بثقافة سياسية متحولة، فمن حين إلى آخر تبدل القبائل ثقافتها السياسية وولاءها ورؤيتها وطريقتها في التعامل مع الأحداث والقيادات والانظمة ، ولكن الذي يهمّنا في البحث هنا أنْ نعطي الإجابة عن السؤال الذي انعقد البحث لأجله
وهنا لانبحث في نشاة القبائل أمّا نشأة القبيلة فإنَّ الأمر يكاد أنْ يكون ضارباً في أعماق المجتمع العربي فهو مجتمع قبلي بطبعه وتحدثت عشرات المصادر عن أصل هذه القبائل ومواطنها ورؤسائها، وهذا أمر كفلته مطولات التاريخ( )
هدف البحث :
للبحث هدفان هما :
1- بما ان المجتمع العراقي مجتمع قبلي وهو موثر في تكوين الدولة والحكومة والعملية السياسية ومن الطبيعي ان المتخصص بالشن العراقي السياسي يحتاج الى معرفة ثقافة العشائر السياسية وكيف تكونت ووكيف تتاثر بالموثرات المتعددة عبر التاريخ ليتعامل مع الجتمع العراقي وفق معلومات علمية .
2- ماهو موقف العشائر من العملية السياسية بعد 2003 في ظل الواقع السياسي للقبيلة ومتغيراتها وطبيعة ثقافتها التي تكونت عبر التاريخ المعاصر لنتعرف عن مدى انتماء القبيلة الى العملية السياسية الحالية .
وعليه نحن نبحث عن الثقافة السياسية للقبيلة واثر الانظمة المتعاقبة في تكوينها وكيفية التعامل معها أمّا البحث في نشأة تكوينها وفكرها السياسي فإنّ المصادر تؤكّد أنَّ نشأة الثقافة السياسية لدى القبائل تولّد عبر مراحل ولأسباب عديدة هي:
اولا / مراحل اشتراك القبيلة في العمل السياسي
1 ـ إنّ الحكومات التي تتابعت على العراق تحديداً في مرحلة الخلافة العثمانية كان همها جباية الأموال من العشائر واستنزاف خيرات الناس وقوتهم بدلاً عن العمران وفرض الأمن والنظام في المجتمع العراقي، فإنّ مصادر التاريخ أكّدت أنّ حكم الأتراك منذ (1534 ـ 1749) لم يتّبع فيه الأتراك أي سياسة إيجابية، وسُمّيت هذه الحقبة بالفترة القلقة والمضطربة؛ لأنّها كانت تعني ضعف الدولة وظهور عشائر على شكل إمارات مستقلة تتمتع بنفوذ تام في ديارها، كإمارات المنتفك، والخزاعل، وزبيد، وطيء، وشمّر، وكانت العشائر في هذه المرحلة تشنّ حروباً فيما بينها، وضدّ الحكومة.
وأمّا زمن المماليك (1749 ـ 1831) فكان شغل الدولة الأساسي هو إخماد الثورات العشائرية أو قمعها، في وقت تنامى نفوذ قبائل الخزاعل والمنتفك في هذه المرحلة بسبب ضعف الدولة .
أمّا في المدّة المحصورة بين (1869 ـ 1914) فإنَّ الأتراك كانوا أمام واقع عشائري متمرّد، لم يستطيعوا مواجهته بالقوة، فعمدوا إلى محاولة توطين العشائربعد ان كانت عشائر متنقلة ( البدو ) بتشجيع النظام الزراعي، وكان هذا المقترح قد تقدّم به (مدحت باشا) والي بغداد. وبعد عام 1908م حيث مرحلة إعلان الدستورالعثماني من خلال التحالف مع البعض من العشائر للقضاء على العشائر الأقوى، وقد اختلفت هذه التدابير بالنتائج مما يعني أنَّ انشغال الدولة العثمانية عن العشائر جعل وضع البلاد متدهوراً( ) اجتماعياً وصحياً واقتصادياً فكم ضربت المجاعات والأوبئة الفتاكة العراق.
2 ـ ومنهم من يرجع أسباب نشأة التكتل القبلي سياسياً في مرحلة القرن السادس عشر الى ظهور الضعف والإنهيار في الدولة العثمانية، ودبّ في أعماقها الفساد والانقلابات والمؤامرات الداخلية؛ بسبب ضغط الحروب الخارجية وهذا يعني أنّ المجتمع العراقي بقي يعاني تحت نير التفسخ الحكومي والانحطاط الحضاري، وهذا السبب دفع المجتمع إلى تكوين قوى واتحادات عشائرية بديلة تحكم نفسها بنفسها، من هنا نشأ للقبيلة دورٌ سياسي رافقه نشوء فكر سياسي، مثل ظهور الشيخ أبوريشة في الغرب من العراق، وشيوخ شمر وعنزة في الفرات الأوسط، وظهور اتحادات أخرى سنية شيعية مثل اتحاد دليم مع البومحمد واتحادات أخرى في الجنوب، مثل تحالف المنتفك في الناصرية، وزبيد ودليم، وكعب بقيادة خزعل، وبني لام في العمارة بقيادة القامندر، وربيعة في واسط( ).
3 ـ خلال النزاع بين الدولتين العثمانية والصفوية استعانت كلتا الدولتين بالقبائل في حروبها، والجدير بالذكر: إنّ العشائر نسبتها آنذاك تزيد على أنْ تكون ثلاثة أرباع سكان العراق( )فحقق ذلك للقبائل والطوائف مزايا سياسية وإدارية ونفوذاً حكومياً، بل حاولت أنْ تحكم نفسها بنفسها، ووقعت مدن بكاملها تحت سيطرة عشائر محددة، وظهر في التاريخ أمراء قبائل وطوائف موزّعين على مساحات من البلاد العربية والعراقية، منها بنحو خاصّ في المناطق الغربية والجنوبية والفرات الأوسط، وقد استعان بهم الحكّام العثمانيون والصفويون لتثبيت حكمهم( ) وقد فصّل في ذلك الباحث الاجنبي ستيفن لونكريك وذكر المناطق والرؤساء القبليين الذين وقعت تحت تأثيرهم مدن، وكان لهم شأن ونفوذ، ونمت بهذا لهم كيانات سياسية.
هذا الواقع كان له الأثر في ظهور الوجود السياسي للقبائل الذي أجمعت عليه المصادر، ولا يقتصر ـ هذا الواقع ـ على مكوّن دون آخر، بل هذه الظاهرة عمّت الجنوب والفرات، والمناطق الغربية، والمنطقة الكردية، مع أنَّ كردستان قبل القرن العشرين كانت جزءاً من خارطة تركيا.
واستمر حال القبائل هذه إلى مرحلة القرن العشرين، فتأكّد دورها السياسي النضالي في مواجهة الاحتلال البريطاني سنة وشيعة، وتأكّد الدور السياسي الكردي من خلال نضال عشيرة البرزنجي بقيادة محمود الحفيد، وناصرتهم عشيرة الجاف، ثم انتقل الدور القبلي الكردي إلى عشيرة البرزانيين ثم إلى الطالبانيين( ). إذن للقبيلة العراقية حضورها في التحرك السياسي العراقي.
ثانيا / الدور السياسي الاسلامي للعشائر العراقية ( الشيعية )
الدور السياسي الإسلامي لقبائل الشيعة فقد برز خلال القرن العشرين من خلال:
1- جهاد العشائر ضدّ الاحتلال البريطاني، ولكن هذه المرحلة امتازت بوضوح في فاعلية العشائر في العمل السياسي لوجود القبيلة فاعلةً ومؤثرة في الواقع السياسي تحت تأثير المرجعية الشيعية في النجف الاشرف لان المرجعية كانت تعتمد على العشائر في مواجهة الاحتلال البريطاني العسكري والسياسي والدستوري ، ولكن نشير هنا إلى أنَّ أيَّ مؤرّخ يتحدث عن التاريخ السياسي للعراق خلال القرن العشرين فإنّه يتحدّث بوضوح ووضوح كبير عن دور المرجعية الشيعية ومساندة القبائل إياها، فلا يأتي حديث عن جهاد ومقاومة سياسية وعسكرية ضدّ الغزو البريطاني إلّا ومعه دور المرجعية والعشائر في آنٍ واحد، منذ عام (1914 ثم ثورة عام 1916 ثم ثورة العشرين)( ) ولهذا أسباب عديدة:
منها: أنّ القبائل نهاية القرن التاسع عشر تقريبا شهدت تشيع العديد منها في عموم العراق وفي الفرات الأوسط بنحو خاص.
ومنها: تحول الحياة البدوية إلى حياةٍ حضرية، وقد مكّن هذا التحوّل في المجتمع العراقي القبلي أنْ تنقاد هذه القبائل، وتتأثر بالفكر السياسي للمرجعية، وقد أعدّ العالم السني إبراهيم الحيدري عام 1869 قائمة بالعشائر العراقية التي تشيعت، وذكر أنّها تشيعت قبل القرن التاسع عشر.
ومنها : وقد يكون للتبليغ الذي قامت به المرجعية تأثير في ذلك، ويمكن أنْ يكون هناك سبب آخر هو أنَّ التشيع كان ذا طابع سياسي؛ لأنَّ تشيّعهم ذو صبغة احتجاجية على الفوراق المتسعة بينهم وبين العشائرالسنية التي منحتها السلطات العثمانية أراضيَ ومزايا واسعة، وبدوره شكل انتمائهم الى المرجعية احتجاجا على الحكومة التي أوجدت هذه الفروق، فإنَّ محاولات العثمانيين منذ 1831 لتوطين السكان الرحل من السنة وتوسيع الزراعة، وتوزيع صكوك ملكية الأرض على الأفراد وزيادة جباية الضرائب في العراق أدّت إلى ظهور الإحساس بالظلم والتباين القبلي، وقد نشأت أثر ذلك معارضة بين القبائل وأعمال عنف، نتج عنه انخراط بعض القبائل في الإسلام السياسي الشيعي لعدالته( ) .
لهذا وغيره من الأسباب كانت النتيجة والحقيقة التاريخية هي أنَّ موقف هذه العشائر يعني بالدرجة الأساسية أنّ تحوّلاً حدث في ثقافتها السياسية نحو التشيع، ونحو الإسلام السياسي، ولا يعني هذا إنّها غادرت كلّ ثقافاتها القبلية، وموروثاتها الاجتماعية، وعُقدها التاريخية، ولكن يعني أمراً واضحاً تجلّى لدى المؤرخين أنَّ ثقافتهم السياسية اتجهت إلى الإسلام السياسي في هذه المرحلة ، وتمحورت حركتها حول المرجعية، فدفعت عن الوطن أغلب التحديات، ودافعت عن دينها، وهذا هو التحول الأبرز والأهم.
وجدير بالإشارة أنّ العشائر الكردية هي الأخرى انقادت لتوجهات المرجعية بقيادة أكبر عشيرة تصدّت سياسياً في هذه المرحلة، وهم بيت محمود الحفيد البرزنجي الذين قاتلوا تحت ظل المرجعية في مطلع القرن العشرين ضدّ الاحتلال البريطاني، مع أنَّ للرجل آلاماً من الدولة العثمانية، ومن الأتراك الذين قتلوا أرحامه، لكنّه استجاب لنداء المرجعية بالجهاد، وهذا يعكس تأثير المرجعية في العقل الجماهيري العراقي عموماً، والشيعي خصوصاً، وليس أدل على ذلك من أنَّ الترك طلبوا من مراجعهم أنْ يفتوا بالجهاد ضدّ البريطانيين، وقد صدرت الفتاوى، لكنها لم تحرك المجتمعات الإسلامية، ولا القبائل العربية، مما ثبت لدى الدولة العثمانية أنّ القبائل تتأثر وتستجيب لفتاوى المراجع الشيعة؛ لأنَّ ثقافتها السياسية نحو المرجعية ثقافة ولاء وطاعة، مع أنَّ القبائل غير راغبة بالدفاع عن الأتراك بسبب الكره الذي كانت تضمره دوماً للأتراك( )، مع هذا تحرّكت وجاهدت ودافعت وأعطت الدماء، وحصلت معارك، مما يعني رسوخ الثقافة السياسية الإسلامية لديهم، وإلّا كيف نفسّر هذه التضحيات الجسام التي قدمها المكون القبلي آنذاك. ولا يغيب عن ذاكرة العراقيين شعلان أبو الجون احد ابرز القادة العشائريين ، وعبد الواحد سكر، ومن أراد المزيد فليرجع للياسري في كتابه ـ البطولة في ثورة العراق 1920 ص72 ـ النجف.
ثانياً: ومن خلال اتساع دائرة المقاومة فإنّ عدد القبائل التي شاركت في العملية السياسية ، وعدد السنوات التي أمضتها القبائل في الجهاد، وحجم التضحيات، ووقوفها إلى جانب المرجعية، وتحرّكها بحركتها، كلّ هذا يؤكّد أنّ الثقافة السياسية لم تكن عابرة في وجدان القبائل، بل تدلّ تلك المعطيات على رسوخها بنحو لايقبل الشكّ، ولا يحتمل التأويل إلى حدٍّ بلغ لدى المتابعين لتاريخ هذه المرحلة أنّهم لم يجدوا من خلال متابعتهم أيَّ فاصلة بين صدور الفتوى الجهاد في ثورة العشرين وبين استجابة القبائل، وإنّ الثقافة السياسية للقبائل هي ثقافة إسلامية وطنية.
ثالثاً: يتضح الدور السياسي الإسلامي للعشائر العراقية من دليل آخر هو أنَّ تلك القبائل لم تنقد يوماً- في تلك المرحلة - لأيِّ زعيم وطني علماني أو قومي أو يساري، كما انقادت لمرجعيتها، مما يكشف عن عمق الثقافة السياسية عاطفياً وعقائديا لديهم، ولكن ثمّة دلائل لاتكشف عن نضج هذه القبائل سياسياً، وربما السبب يعود إلى البرنامج الذي اتبعه الاستكبارالبريطاني والقومي في تفتيت هذه القوة ومصادرتها بمساعدة الخط العلماني القومي العراقي الداخلي لاحقاً وهذا ما سنتحدث عنه.
رابعاً: يتضح أيضاً من خلال الانفتاح في طاعتهم- المكونات الشيعية العربية – الى المراجع جميعا عرباً وفرساً وأتراكاً دون أنْ يتحسسوا من أيِّ مرجعية أو يؤيدوا أحداً لانتماءٍ قومي، بل كانوا يستجيبون للمرجع أيّاً كان، كالميرزا الشيرازي، أو عبد الكريم الجزائري، أو شيخ الشريعة الأصفهاني، أو كاشف الغطاء، دون النظر إلى قوميته وجنسيته وهويته، بل إنَّ الثقافة التي عليها القبائل في طاعتهم السياسية للمراجع آنذاك دلت على حالة الرقي الإسلامي التي يعكسها وعي القبائل، ولم يكن للبعد القومي من حضور هذا التوجّه، وهذه العقلية السياسية، حاول الخط البريطاني بمساعدة القوى العلمانية أنْ يغيّرها عبر مخطط رهيب امتد لقرون ليجعل منها في الغالب ذات عقلية منفصلة عن المرجعية وغير متأثرة بها.
ثالثا / الثقافة السياسية للقبائل بعد تكوين الدولة العراقية:
أولاً: المرحلة الملكية:
حاولت المؤسسات الحكومية والسياسية برئاسة وتدبير بريطانيا آنذاك أنْ توقف هذا التوجه وهذه الثقافة؛ لأنّها تتعارض مع مصالحها في العراق، وهي تتابع موقف القبائل وتأثير المرجعية فيها خلال ثورة عام 1914 وخلال عام 1916 وعام 1920 . وعليه الحديث هنا عن الطريقة التي تمكن بها الاحتلال البريطاني من تغيير الثقافة السياسية للقبائل والعشائر من التاييد للمرجعية الى الحياد او التاييد الى الحكومة الملكية .
وجميع المصادر تؤكّد: أنّ تحرّك علماء الشيعة بمساعدة القبائل العراقية الشيعية هو الذي عجّل منح العراق الاستقلال ـ وإنْ كان استقلالاً ناقصاً ـ قبل غيره من الدول التي انسلخت من الإمبراطورية العثمانية. وفي 30 تشرين الثاني 1920حينما حاولت بريطانيا اجراء استفتاء على نوع الحكم هل هو ملكي او جمهوري لغرض تخفيف الاحتقان السياسي الداخلي، وامتصاص غضب الثّوار، وبهدف ترسيخ الحكم البريطاني كأمر مفروغ منه، فكانت فتوى السيد الشيرازي التي حسمت الأمر بحرمة إعطاء الولاية لغير المسلم على المسلمين( ) وهكذا استمر الأمر حينما عارضت المرجعية وبمساندة رؤساء العشائر والوجهاء المعاهدة مع بريطانيا، وعارضت انتخابات المجلس التأسيسي الذي يراد منه أنْ يقر المعاهدة( )، من هنا أتت المخططات البريطانية لتفتيت وحدة المسلمين، وإضعاف المرجعية، وتدخلت بريطانيا لتغيير ثقافة العشائر السياسية من خلال فصلها عن المرجعية وربطها بفكر الدولة والأحزاب العلمانية، كي ينتج عنه تغيير لمواقفها العملية ففي أوائل حزيران ـ 1923 قرر عبد المحسن السعدون نفي علماء النجف الأشرف.
وفي 17 حزيران 1923( ) قرر مجلس الوزراء تنفيذ القرار، ولتهيئة الأجواء تمهيداً لتنفيذ نفي هؤلاء العلماء والمراجع البارزين سافر الملك فيصل في 18 حزيران 1923 إلى الجنوب العراقي وخطب بالبصرة والناصرية ثم في الديوانية والحلّة واستطاع خلال جولته إقناع عدد من رؤساء العشائر بتغيير موقفهم المعارض ضد الحكومة والمويد للمراجع ، مقابل تعهد الملك لهم بالمزايا المالية والمعنوية والحكومية( ) فقبلوا أمره واستجابوا لدعوته، ولقدْ مثل موقف رؤساء القبائل هذا تراجعاً كبيراً عن مواقفهم السياسية، وأضعف كثيراً من قوة المعارضة المرجعية الشيعية، التي كانت العشائر تمثل للمرجعية السند الميداني، والقوة الحقيقة، فإنّه بعد أنْ انسحبت بعض العشائر، وخرجت من دائرة المعارضة، فإنَّ قوة العلماء السياسية ضعفت أيضاً، ويعدّ تحوّل رؤساء العشائر من صف العلماء إلى صفّ الدولة القومية العربية والحكومة العلمانية والقبول بمغرياتها انعطافا كبيراً في الثقافة السياسية للقبائل العراقية، ترتب عليه تغيير في مواقفهم العملية، وموقفهم من الحوزة والمرجعية، فظهر في هذه المرحلة جانب نلفت النظر إليه هو أنّ تحوّل القبائل نحو ثقافة الدولة بما تحمله من علمانية وفكر قومي وتعارض مع الدين أضعف الموقف السياسي الإسلامي للمراجع، حينها أخذ الاعلام والخطاب الحكومي يسمي المراجع بتسميات توحي للفرد العراقي بأنَّ هؤلاء ليسوا عراقيين، وأنّهم بما يحملونه من ثقافة سياسية إسلامية دخلاء على المجتمع العراقي والقبائل العربية، فسمّتهم بـ(الأجانب) والدخلاء، وهذا نصّ ما تحدّث به مجلس الوزراء في العام المذكور نفسه قرر بمادته الثالثة: «تأديب المقاومة غير المشروعة بصورة قانونية وشديدة، وذلك بإخراج الأجانب منهم»( ).
وفي 25 حزيران 1923 أصدرت الحكومة البريطانية بياناً تذمّ فيه المراجع الذين يعرقلون الانتخابات وتصفهم «بأنهم دخلاء»، ولاتهمهم مصالح الشعب( ).
ونفس التعابير وردت في خطابات المس بيل إذ سمتهم (الأغيار) ومما يدلّ على تغير المواقف السياسية تماماً لدى القبائل أنّه بعد أنْ اتخذت السلطات آنذاك بتاريخ 1تموز 1923 قراراً بنفي أبرز علماء النجف (السيد أبي الحسن الأصفهاني، والميرزا حسين النائيني وغيرهم)، فإنّ زعماء القبائل الذين كانوا يستجيبون لأمرهم (المراجع) ويقاتلون تحت رأيهم ورايتهم لم نجد لهم أي تحرك أو اعتراضٍ قبلي شعبي صدر عن شيخ عشيرة على هذا القرار.
إذن إلى هنا تنطوي مرحلة وتبدأ مرحلة قومية جديدة، بل أخذت بعض وسائل الاعلام في العد البريطاني تهاجم المراجع الذين تمّ نفيهم، وتؤيّد القرار الحكومي بطرد المراجع، وتنعت المراجع بنعوت شائنة، فإنّ سلمان الشيخ داوود كتب تحت عنوان (الجبن الأدبي) مقالاً افتتاحياً قال فيه: مع أنّ هؤلاء (المراجع) المتذبذبين عاشوا متظللين بسماء العراق العربي(يقصد انهم ايرانيين ) ، واستنشقوا هواء هذه البلاد فإنّهم لم يفتأوا عن محاربتها تحت ستار الدين... فهم بذلك يخونون البلاد التي يتنعمون تحت ظلها الوارف بقصد خدمة شعب أجنبي (إيران)، كان من أكبر القضاء على دولة العرب... وأنا على يقين من أنّهم لم يقصدوا سوى الفتّ في ساعد الحركة العربية...»( ).
وفي 28 حزيران من العام نفسه جرى للملك فيصل في الديوانية احتفال عظيم حضره الكثير من رؤساء عشائر الفرات الأوسط ووصفهم الاعلام آنذاك بأنهم أبطال «ثورة العشرين» وقال الإعلام عنهم: إنّهم متفانون في إتباع سياسة الملك، وامتثال أمره، ومستعدون للدفاع عن القومية العربية (انظر القومية العربية)، وقال أيضاً في الاحتفال الشيخ شعلان أبو الجون بطل ثورة العشرين ضدّ الانكليز والذي قاتل تحت راية المراجع قال: (إنّنا يد جلالتك القوية في تحقيق استقلال الأمّة بالطرق التي ترجحونها، وطوع إرادتك غداً واليوم وأمس).
وأجابهم الملك فيصل جواباً يحثّهم على مغادرة الفكر والثقافة السياسية الإسلامية، وأنْ يتجهوا نحو فكر الدولة بكلّ توجهاتها وإيديولوجيتها القومية قائلا: (إنّ هذه البلاد التي حررت نفسها... لايمكن أنْ تستسلم لدعوة أجنبية( ) (يقصد علماء ومراجع الحوزة العلمية).
كلّ هذا التحوّل في الثقافة السياسية للقبائل العراقية من الفكر السياسي الإسلامي إلى فكر الدولة العلماني، ولم يعترضوا على نفي مراجع الطائفة التي ينتمون إليها، وابتداءً من هذه المرحلة يرى المؤرّخون أنّ ثمّة انقلابا في الوعي السياسي لدى القبائل قد حصل، وأنَّ القوة العشائرية التي كانت قوّة ضاربة بيد العلماء صارت قوة ضاربة بيد الملك فيصل والانكليز بكلّ توجّهاته، وإنَّ عبارات القبائل واضحة في الإشارة إلى قبولهم بنفي العلماء وإذعاناً منهم بتوجه الدولة السياسي العلماني، وأنّها في رأيهم وتأييدهم فوق المرجعية، وأنْ لاصوت يعلو على صوت الدولة العلمانية( ).
وامام هذا التغير الكبير عاد العلماء من إيران إلى العراق، بعد أنْ أعطوا تعهّداً بأنْ لا يتدخلوا في شؤون البلاد سياسيا، وحيث توقّف العلماء في هذه الفترة عن العمل السياسي، فإنَّ البريطانيين والأحزاب العلمانية كانت توحي للأمّة والقبائل بأنَّ العلماء لن يتدخّلوا في السياسة بعد اليوم، فما عليكم إلّا أنْ تنسجموا مع الدولة ومشاريعها، بعدها انتشرت ظاهرة العلمانية ثم الفكر القومي و الشيوعي اليساري فتأثر المجتمع وتأثرت معه القبائل منذ هذا العهد بالفكر السياسي العلماني، بعد هذه المرحلة اشترك رؤساء العشائر منذ بداية الحكم الملكي الفاسد في المجلس التأسيسي والمجالس النيابية المتعاقبة، بعدد كبير قد يزيد على الثلث من أعضاء المجالس المذكورة، وظهر الشيوخ على المسرح السياسي والبرلماني، وكان عدد كبير منهم يأتمر بأمر الإنكليز وأعوانهم من رجال السياسة، وكان اتصالهم بدار السفارة البريطانية، والبلاط واضحاً، وقد اعترفت الملكية بالتمثيل العشائري، واقتطعت لهم الأراضي الواسعة «نظام الإقطاع».
ـــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha