(الم) .. الحروف المقطّعة في القرآن الكريم
بقلم: الشيخ حسين الخشيمي
القرآن الكريم كلام الله, وكلام الله ليس كباقي الكلمات التي يتداولها البشر, فهو كما يبدع في خلق السموات والأرض وسائر الكائنات الأخرى؛ كذلك يبدع في صياغة هذه الكلمات التي نعرفها ونتداولها في حياتنا اليومية, فحير بذلك العرب الجاهليين وتحدى أولئك الذين اعترضوا على هذا الكتاب بان يأتوا ولو بآية شبيه بآياته, وقد نفى الله تبارك وتعالى حدوث مثل هذا الأمر بقوله {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (88) الإسراء.
وبالرغم من أن التاريخ يذكر لنا أن المجتمع الجاهلي كان في ذروة الفصاحة والبلاغة إلا انه لم يبلغ روعة صياغة كلمات القرآن الكريم الذي امتاز فضلاً عن البلاغة والفصاحة بالشمول, خروجه عن إطاري الزمان والمكان.
ومن الكلمات التي حيرت العرب وغيرهم من المسلمين, هي تلك الحروف المقطعة التي تأتي في بداية بعض السور القرآنية حيث يقف أمامها المفسرون حائرون لا يعرفون مقصدها, فنجد لهم أقوال متعدد، وآراء مختلفة, فمنهم من يرى أن هذه الأحرف هي رموز بين الخالق وأنبيائه, ولا يعرفها إلا النبي الذي خصه الله بها, وهناك من قال أن لكل حرف من هذه الحروف دلالة خاصة, وهذا ما ذهبت إليه أكثر كتب التفسير من علماء أهل السنة, ولكن لنعود معاً إلى حديث رسول الله (ص) والذي يعتبر من الأحاديث المتواترة والمسلم بها من قبل اغلب الفرق الإسلامية, وهو حديث الثقلين "إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تظلوا بعدي أبداً, كتاب الله وعترتي أهل بيتي".
وأهل البيت عليهم السلام هم المفسر والمترجم لكتاب الله، وهم البيان لأحكامه, وفي مثل هذه الحالات التي يتعذر علينا فيها فهم آيات القرآن الكريم لابد لنا من الامتثال إلى أمر النبي (ص) وتنفيذ وصيته، بأن نعود إلى كلماتهم المفسرة لتلك الآيات المباركة, فهم الراسخون في العلم.. فنجد أن الإمام السجاد عليه السلام قد فسر هذه الحروف المقطعة بطريقة لا تقبل أدنى تشكيك, حيث يقول عليه السلام : "كَذَّبَ قُرَيْشُ وَالْيَهُودُ بِالْقُرْآنِ وَقَالُوا هذَا سِحْرٌ مُبِينٌ، تَقَوَّلَهُ، فَقَالَ الله: (آلم، ذَلِكَ الْكِتَابُ...): أيّ يَا محمّد، هذا الْكِتَابُ الَّذِي اَنْزَلْتُهُ إلَيْكَ هُوَ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعةُ الَّتي مُنْهَا ألِفٌ وَلامٌ وَميمٌ، وَهُوَ بِلُغَتِكُمْ وَحُرُوفِ هِجَائِكُمْ فَأتوا بِمِثْلِهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ...» تفسير البرهان.
وأيضاً قول الإمام الرضا عليه السلام: "إن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى اَنْزَلَ هذَا الْقُرْآنَ بِهذِهِ الْحُرُوفِ الَّتِي يَتَدَاوَلُهَا جَمِيعُ الْعَرَبِ، ثُمَّ قَالَ: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ...)"..
وهذا ما ذهب إليه سماحة المرجع المجدد المدرسي دام ظله الشريف في تفسيره (من هدى القرآن) والذي اعتمد فيه على منهج التدبر في الآيات، والانطلاق من كلمات وتفسير أهل البيت عليهم السلام إلى معرفة ما وراء تلك الآيات، وذكر ذلك أيضاً في كتابه بينات من فقه القرآن في تفسير سورة لقمان في بيان فلسفة الحروف المقطعة, حيث يقول سماحته "إن الكتاب المعجز الذي تحدى به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كل العالم وجميع العصور، إنما يتألف من حروف، وان الآيات ظاهرها الأحرف (الم) والقرآن كله حروف".
ويذكر سماحته أيضاً "إن القرآن الكريم أراد إلفات نظر الإنسان إلى أهمية الحروف والإشارة إليها, وهي ثمانية وعشرون حرفاً، والتي تتكون منها اللغة العربية ولا تحتمل غيرها بينما اللغات الأخرى قد تحوي أقل أو أكثر عدداً، مما يعني أن سبحانه وتعالى قد علم الإنسان علوم الكون بهذه الحروف, القصيرة المعدودة, ومكن مخلوقه من أن يركبها فتتحول إلى ملايين الكلمات". (بينات من فقه القرآن سورة لقمان ص 17-18).
وهذا القول الأقرب إلى واقع هذه الأحرف كما يبدو. فهذه الحروف عادة عندما تأتي في بداية السور, تأتي بعدها الإشارة إلى آيات القرآن الكريم كما في قوله تعالى في سورة البقرة {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)} أي أن هذه الأحرف هي أصل القرآن الكريم. وهي الأحرف المتاحة والمستخدمة من قبل الجميع, ولكن بلاغة الخالق ليس كبلاغة المخلوق, ويبقى الإنسان عاجزاً على أن يحيط كلمات القرآن مهما بلغ من درجات العلم والرقي, بل وعاجزاً حتى أمام حروفه التي لم تُنزل إلا لغاية وهدف, ويبقى علينا أيضاً التسليم والتصديق لآيات القرآن الكريم في مثل هذه الحالات والرجوع إلى الراسخين في العلم الذين خصهم الله بمنزلة العلم والمعرفة والذين يسلمون هم أيضاً بأن كل ما جاء في القرآن الكريم هو منزل من عند الله ولديه علمه يقول ربنا {مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} آل عمران 7.
https://telegram.me/buratha