* - « مجلة الفقاهة- العدد17 » - 6 / 2 / 2011م -
بطاقة حياة
ولد السيد أبو الحسن بن السيد محمَّد بن السيد عبد الحميد بن السيد محمَّد الموسوي الأصفهاني، في قرية (( مديس )) وهي تبعد قليلاً عن مدينة أصفهان سنة 1284هـ.
تلقى دروسه الأولى في مسقط رأسه، ثُمَّ رحل عنها وهو في أوائل العقد الثاني من عمره إلى أصفهان، فدرس عند أبرز علمائها أمثال الشيخ محمَّد الكاشاني، حتّى أتـمّ رحلة السطوح، وبدأ بحضور درس البحث الخارج
هاجر بعدها إلى النجف الأشرف سنة 1308هـ، فحضر درس الميرزا حبيب اللّه الرشتي في الفقه، حتى وفاته، ثُمَّ لازم الآخوند الخراساني، فحضر دروسه في الفقه والأصول، حتى وفاته سنة 1329هـ.
استقل بالتدريس بعد وفاة أستاذه الآخوند الخراساني، وبدأ يشتهر في الأوساط العلمية شيئاً فشيئاً، وأخذت الأنظار تتجه إليه كمجتهد كبير، ومرشح بارز للمرجعية الدينية.
انحصرت المرجعية الدينية في النجف الأشرف فيه بعد وفاة آية اللّه الميرزا حسين النائيني سنة 1355هـ، فقلّده النّاس في العراق والبلدان الأخرى، وطبقت شهرته الآفاق، وأصبح مرجع الشيعة ومفتيها في كل أنحاء العالم.
كانت له مواقف سياسية بارزة ومؤثرة في مسيرة الأحداث والتطورات في إيران والعراق، فقد شارك في الهيئة التي شكلت لتولي مهام الإعداد والتخطيط للعمل الجهادي ضدّ الجيوش الروسية أثناء احتلالها لشمال إيران سنة 1329هـ، حيث كان أحد أعضاء هذه الهيئة.
حمل السلاح في ثورة العشرين في العراق، وذهب مع المجاهدين إلى ساحة المعركة، ثُمَّ عاد إلى النجف الأشرف بإلحاح من زعماء الثوار، كي يقوم بدوره العلمي في الحوزة.
عارض بشدة الانتداب البريطاني، ودعا – مع سائر كبار الفقهاء- إلى إزالة أية سلطة أجنبية عن الحكومة العراقية، وإلى مقاطعة انتخابات المجلس التأسيسي بعد تشكيل الحكومة في 30 أيلول سنة 1922م، وقرارها السابق على توقيع المعاهدة مع بريطانيا.
أفتى بحرمة محاربة الأتراك إذا هاجموا العراق في قضية النـزاع على مدينة الموصل التي لـم تُحسم حتّى ذلك الوقت بين العراق وتركيا، حيث كان الإنكليز وراء تحريك المسألة سنة 1923م.
خرج على رأس مجموعة من علماء النجف في تظاهرات بعد سقوط الحكومة آنذاك، وقيام عبد المحسن السعدون بتشكيل حكومة جديدة، احتجاجاً على الوضع الذي كانت تعيشه العراق في ذلك الوقت، فقررت السلطات اعتقال المشاركين، فاعتقل أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا النائيني، وجرى تسفيرهما إلى إيران سنة 1341هـ. وبقيا في إيران نحو السنة، ثُمَّ عادا إلى العراق.
ابتدأ بعد عودته إلى العراق فترة جديدة من حياته اتسمت بالعمل الثقافي والاجتماعي، والتأكيد على الجانب التعليمي، حيث قام بتأسيس العديد من المدارس الدينية في بغداد والنجف والبصرة وكربلاء، وكان يرعى ويساند مدارس ومؤسسات جمعية(( منتدى النشر)) التي تأسست سنة 1353هـ ـ1935م.
توفي في الكاظمية بالعراق في التاسع من ذي الحجة سنة 1365هـ، ونقل جثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف ودفن هناك[1] .
وله مؤلفات عديدة وكتب مفيدة في الفقه وفي أصول الفقه بالعربية والفارسية، ومنها ما هو مترجم للغة الهندية واللغة التركية، ومنها ما هو مطبوع ومنها ما هو غير مطبوع، وأهم ما عرفناه منها:
أولاً: شرح على كفاية الأصول للمولى محمد كاظم الخراساني في مجلدين.
ثانياً: رسالة وسيلة النجاة الكبرى وهي كتاب فقهي جليل ألّفه على العروة الوثقى من تأليف العلامة السيد كاظم اليزدي.
ثالثاً: رسالة وسيلة النجاة الصغرى وهي رسالة فقهية تتضمن الأمور التي يحتاجها الناس.
رابعاً: رسالة ذخيرة العباد طبعت في النجف وطهران سبعين مرة.
خامساً: رسالة ذخيرة الصالحين طبعت 42 مرة.
سادساً: رسالة منتخب الرسائل طبعت 37 مرة.
سابعاً: أنيس المقلدين طبعت 34 مرة
ثامناً: صراط النجاة فارسية طبع فارس، والهند 5 آلاف طبعة.
تاسعاً: عروة الوثقى طبعات متعددة 30 ألف نسخة.
عاشراً: حاشية العبادات والمناسك 30 طبعة
وهناك كتب أخرى غير مطبوعة [2] .
مدخل
يعد السيد أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد بن محمد الموسوي الأصفهاني (1284-1365هـ - 1866- 1945م) من أشهر مراجع التقليد في النصف الأول للقرن العشرين الميلادي، حيث انحصرت المرجعية الدينية فيه بعد وفاة الشيخ الميرزا حسين النائيني سنة 1355هـ، ومنذ ذلك الوقت أصبح مرجع المسلمين الشيعة في كل أنحاء العالم بلا منازع.
يعد السيد أبو الحسن بن محمد بن عبد الحميد بن محمد الموسوي الأصفهاني (1284-1365هـ - 1866- 1945م) من أشهر مراجع التقليد في النصف الأول للقرن العشرين الميلادي، حيث انحصرت المرجعية الدينية فيه بعد وفاة الشيخ الميرزا حسين النائيني سنة 1355هـ، ومنذ ذلك الوقت أصبح مرجع المسلمين الشيعة في كل أنحاء العالم بلا منازع.
وقد تميز السيد الأصفهاني بقوة الشخصية، وعبقرية نادرة، ومؤهلات قيادية عالية، وكان كما وصفه معاصره السيد محسن الأمين((رجلاً كبير العقل، واسع العلم والفقه، بعيد النظر دقيقه، صائب الرأي، عميق الفكر، حسن التدبير، واسع التفكير، عارفاً بمواقع الأمور، جاهداً في إصلاح المجتمع - لو استطاع - شفيقاً على عموم الناس، عالي الهمة، سخي النفس، جليل المقدرة، عظيم السياسة؛ مضافاً إلى مكانته العلمية في الفقه والاجتهاد، وإن ما حازه من الرياسة العامة كان عن جدارة واستحقاق)) [3]ويكفي للباحث أن يلقي نظرة فاحصة على سيرته الذاتية، ومسيرته الحياتية، ليكتشف أبعاد هذه الشخصية العظيمة، وقدراتها الكبيرة، و مؤهلاتها المتميزة في عدة جوانب مهمة كالاجتهاد في الفقه وأصوله، والقدرة على إدارة المجتمع، وقيادة الأمة، والتأثير على مسار الأحداث السياسية، والتركيز على قيم العلم والعقل والفكر والتعاون... وغيرها من القيم الإسلامية الأصيلة. وكل بعد من أبعاد شخصية السيد أبو الحسن الأصفهاني بحاجة إلى دراسة وبحث، لذلك رأيت من الأفضل أن أركز على بعد واحد ومهم من أبعاد شخصيته المباركة، ومسيرته العلمية الرائدة، وهو بعد مهم جداً في حياة كل الأجيال، ومسيرة الأمم والمجتمعات، وهو العمل على تعزيز قيمة العلم واحترام كافة العلماء، لأن ذلك يؤدي إلى النهوض الحضاري بالأمة، ويرفع من مكانتها العلمية، ويدفع إلى مضاعفة إنجازاتها في شتي حقول المعارف والعلوم المختلفة.
فقد ترك السيد الأصفهاني ( قدس سره ) بصمات واضحة وقوية ومؤثرة في تعزيز قيمة العلم ومكانة العلماء، وهذا ما سأتناوله في هذه الدراسة المختصرة بشيء من التفصيل والتوسع، ثم نختم هذه الدراسة بمجموعة من الاستنتاجات والملاحظات والتوصيات المستوحاة من السيرة الشريفة لهذا العالم المشهور بعلمه وعمله، وإخلاصه وتقواه.
العلم والعلماء
كل مرجع من المراجع الكبار يترك بصماته الواضحة والمؤثرة على عموم أتباعه ومقلديه، بل وعموم المسلمين، لكن المرجع الذي تجمع عليه الأمة في التقليد كما هو حال المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني بعد وفاة النائيني يتضاعف تأثيره في كل شيء، ويصبح القائد الحقيقي لقلوب الناس وعقولهم، لذلك فإن الأبعاد المتعددة لشخصية المرجع تنعكس بصورة إيجابية على الأمة جميعاً، وخصوصاً إذا كانت الأرضية صالحة لنمو التوجيه والإرشاد المرجعي، ولأن شخصية السيد الأصفهاني لم تكن شخصية عادية، بل تتميز بشخصية قوية ومؤثرة وفذة، فقد ترك كل قول أو فعل مارسه أثره ألفاعل في حياة الناس .
كل مرجع من المراجع الكبار يترك بصماته الواضحة والمؤثرة على عموم أتباعه ومقلديه، بل وعموم المسلمين، لكن المرجع الذي تجمع عليه الأمة في التقليد كما هو حال المرجع السيد أبو الحسن الأصفهاني بعد وفاة النائيني يتضاعف تأثيره في كل شيء، ويصبح القائد الحقيقي لقلوب الناس وعقولهم، لذلك فإن الأبعاد المتعددة لشخصية المرجع تنعكس بصورة إيجابية على الأمة جميعاً، وخصوصاً إذا كانت الأرضية صالحة لنمو التوجيه والإرشاد المرجعي، ولأن شخصية السيد الأصفهاني لم تكن شخصية عادية، بل تتميز بشخصية قوية ومؤثرة وفذة، فقد ترك كل قول أو فعل مارسه أثره ألفاعل في حياة الناس .
ولأنه لا يمكن لأي أمة أن تنهض حضارياً، أو تتقدم معرفياً، أو تنافس المجتمعات المتقدمة إلا بالعلم والعلماء، فقد ركز الإمام الأصفهاني (قدس سره) على تعزيز قيمة العلم عند الناس، وضرورة احترام وتقدير العلماء كجزء من تعزيز قيمة العلم.
ولنستعرض بعضاً مما قام به السيد الأصفهاني في هذا الجانب المهم من مسيرته العلمية والعملية في النقاط التالية:
أولاً: تعزيز قيمة العلم ونشره:
يعتبر تعزيز قيمة العلم ونشره بين الناس من أفضل الأعمال وأكثرها أهمية وفائدة؛ لأنه بالعلم نعمر الدنيا، وبالعلم أيضا تعمر الآخرة، ولذلك لم يوصِ الإسلام بشيء كما أوصى بالعلم، ففي القرآن الكريم عشرات الآيات الشريفة التي تحث على طلب العلم واكتسابه، كما أشاد بالعلم والعلماء كما في قوله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ [4] وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ [5] . أما ما ورد من روايات وأحاديث حول فضل العلم ومكانته وأهميته وثوابه فهي من الكثرة بحيث يصعب تعدادها، ونكتفي بقول الرسول الأعظم : (( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة )) [6] وقوله : (( طلب العلم أفضل من العبادة )) [7] وقوله : (( اطلبوا العلم ولو بالصين )) [8] وغيرها من الأحاديث الحاثة على طلب العلم واكتسابه.
ويبدو أهمية تعزيز قيمة العلم أكثر عندما يكون أغلب الناس أميين، والجهل منتشر بينهم، وحينما تسلم السيد أبو الحسن الأصفهاني مقاليد المرجعية العليا في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي، رأي الجهل سائداً بين الناس، وأغلبهم لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، ولا توجد مدارس إلا ما ندر، والحاجة ماسة جداً لتعليم الناس القراءة والكتابة، ونشر العلم بينهم، ومحاربة الجهل.
ومن أجل تحقيق تلك الأهداف الكبيرة قام السيد أبو الحسن الأصفهاني بمجموعة من الخطوات العملية لتعزيز قيمة العلم في المجتمع، ونشره على أوسع نطاق اجتماعي، وكان من أبرزها الأمور التالية:
1- تأسيس المدارس و الحوزات العلمية:
إن تأسيس أي مدرسة نظامية أو حوزة علمية أو مكتبة للمطالعة تعد من الوسائل المهمة للارتقاء بالمستوى العلمي لدى الناس، وانتشالهم من مستنقع الجهل والتخلف إلى رحاب العلم والوعي والتقدم.
وقد كان ديدن المراجع والعلماء طوال التاريخ هو نشر العلم بمختلف الوسائل والأساليب الممكنة، والارتقاء بمستوى المجتمع نحو الأفضل والأحسن، يقول السيد موسى الصدر : ( إن المرحوم شرف الدين بعد أن ألف كل تلك الكتب القيمة في تعريف الشيعة وأهل البيت، التفت إلى حال الشيعة في لبنان، فرأى أنهم من أفقر الناس، ومن أجهلهم، وأحطهم شأناً، ليس فيهم طبيب أو مهندس، وإذا وجد فبأعداد ضئيلة، بل أكثرهم من الحمالين والعمال والكناسين، فقال في نفسه، إذا كان هذه هي حالنا فما فائدة كتبي؟ سيقول الناس لو كان التشيع حسناً ومنجياً، لكان للشيعة حال أفضل، وكان هذا سبب انصرافه إلى النشاطات العلمية فعمد إلى تأسيس المدارس، ومعاهد التعليم، والجمعيات الخيرية، حتى استطاع أخيراً إيجاد نهضة وحركة مقدسة رفعت المجتمع الشيعي في لبنان إلى حال أفضل )) [9]
وكذلك كان السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره)، فعندما رأى الجهل هو السائد بين الناس، والأمية متفشية في كل مكان، عمل على بناء المساجد والحسينيات ، وتأسيس المكتبات والمدارس والحوزات العلمية في كل مكان. (( فقد أولى السيد الأصفهاني اهتماماً خاصاً لبناء المساجد والحسينيات والمكتبات في جميع أرجاء العالم الإسلامي من أمريكا إلى أقصى الهند، وكان يبني في كان مكان مسجداً، وحسينية، و مكتبة، ومدرسة، ويجعل له هناك وكيلاً عاماً مهما كانت الظروف صعبة)) [10] وعندما رأى السيد الأصفهاني النقص البين في المؤسسات الإسلامية، بدأ بتأسيس المدارس الإسلامية الأهلية الحديثة كمدرسة الإمام الجواد في بغداد والكاظمية ومدارس منتدى النشر في النجف الأشرف، وبعض المدارس الأخرى في البصرة وكربلاء وغيرها من المدن العراقية. كما قوى حوزة النجف ذاتها، وأكثر من بناء المدارس وإعداد الخطباء والعلماء، وأخذ يبني المساجد والحسينيات في كافة انحاء العراق.
وقد كان السيد ( قدس سره) يتوخى في مؤسساته أن تكون عصرية مواكبة لروح التطور والنهضة العلمية التي تغزو العالم، وكان يحرص على أن يكون المسلمون عصريين؛ ليس في الدين ولكن في الوسائل، حتى لا يغلبهم الغربيون، ولهذا فقد أسس في تلك الأيام جملة مؤسسات في النجف الأشرف وفي غيرها كانت تجمع بين التراث والتجديد، وبين القديم والحديث، وبين الأصالة والمعاصرة.
ومن جملة نشاطاته تلك. كان تأسيس منتدى النشر والذي قامت على أساسه فيما بعد كلية الفقه الموجودة حتى الآن.
وبدعم كبير من السيد (قدس سره) وبإدارة الشيخ محمد رضا المظفر، تقدم في الرابع من شوال عام 1353هـ الموافق10/1/1935م، ثلة من طلبة العلوم الدينية الشباب ومن ضمنهم الشيخ المظفر ببيان إلى وزارة الداخلية يطلبون فيه تأسيس جمعية دينية بالنجف الاشرف باسم (( منتدى النشر)) مصحوباً بالنظام الأساسي، وبعد اللتيا والتي أجازت الوزارة فتح المنتدى.
وقد تمكن الشيخ المظفر بعد ذلك وبعد محاولات عديدة وتجارب طويلة من تأسيس( كلية الفقه) في النجف الأشرف واعترفت بها وزارة المعارف العراقية سنة 1377هـ.
ومنتدى النشر كانت عبارة عن مدرسة تخلط بين العلوم القديمة والحديثة، وقد احتضن جماعة كبيرة من الطلبة. [11]
وهكذا قام السيد أبو الحسن الأصفهاني بدور مهم وحيوي في نشر العلم وتعزيزه في العراق وغيره من البلدان، وقد تخرج من تلك المدارس والحوزات العلمية الآلاف من محبي العلم والمعرفة.
2- إرسال المبلغين والمرشدين:
كانت الساحة الإسلامية في العراق تعاني من قلة الكوادر، وانتشار الجهل بين الناس، إذ لم يكن العلماء يسدون حاجة المدن الثلاث المقدسة التي كانوا فيها، وكانت معظم المدن والقرى و الأرياف الشيعية الأخرى تشكو من غياب العلماء وافتقادهم، ولم يكونوا يعرفون ألف باء الإسلام، أو الأحكام الأولية منه، ماعدا بعض القصص التاريخية المتعلقة ببطولة الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين الشهيد فحسب.
وقد سبب هذا الفراغ الديني وقلة العلماء إلى أن تفقد الجماهير الشيعية صلتها الوثيقة بالمرجع وتوثق علاقتها في المقابل (( برئيس العشيرة )) أو شيخ القبيلة، وبالتالي تخضع لعلاقاته واتجاهاته السياسية.
وقد أدرك السيد أبو الحسن الأصفهاني هذه الحقيقة المؤلمة، ولما عاد من إيران توصل إلى قناعة ثابتة بعمالة النظام، وبضعف القاعدة الدينية فاجتنب الخوض في الألاعيب السياسية اليومية، وراح يعمل بجد وقوة على إرسال العلماء والمشايخ إلى القرى والأرياف وخصوصاً إلى القرى النائية يعرفها الإسلام. [12]
ولما ظهر أن في كركوك ونواحيها عدد كثير يبلغ الألوف من المنتمين إلى ولاء أهل البيت وذلك بعد تقلص حكم العثمانيين عن تلك الديار، وقد استولى عليهم الجهل وانتشر فيهم التصوف غير المحمود والغلو، وجهلوا أحكام الدين الإسلامي وأعماله، أرسل إليهم الدعاة والمرشدين، وعين لهم المشاهرات الوافية فكان يصل إلى بعضهم خمسمائة روبية في الشهر عدا ما يرسل إليه من الخلع والعباءات الفاخرة ليهدوها إلى الرؤساء استمالة لهم. وألف لهم رسالة في أحكام العبادات بالتركية الشائعة بينهم وطبعها ووزعها عليهم. وبنى لهم المساجد والحسينيات. [13]
وبذلك استطاع السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره) أن يقوم بدور مهم في نشر العلم، وتعريف الناس بالدين وأحكامه، ومحاربة الجهل والتخلف، فقد كان الخطباء والمرشدون والمبلغون، من أهم الوسائل في ذلك العصر – ولا يزال – في نشر أحكام الإسلام ومفاهيمه وقيمه بين الناس، ومحاربة الأمية والجهل الذي هو أصل التخلف والتقهقر الحضاري .
3- نشر الوكلاء في كل البلدان :
يعتبر جهاز الوكلاء من أهم المؤسسات التي تقوم عليها مؤسسة المرجعية الدينية، فلكل مرجع من المراجع الكبار آلاف الوكلاء المنتشرون في كل أنحاء العالم. ولكن قد تختلف إدارة الوكلاء من مرجع إلى آخر، وعندما يكون المرجع يتمتع بقدرة إدارية -بالإضافة إلى أعلميته- يستطيع أن ينجز الكثير من الأعمال، ويحقق الكثير من الأهداف الكبيرة.
يعتبر جهاز الوكلاء من أهم المؤسسات التي تقوم عليها مؤسسة المرجعية الدينية، فلكل مرجع من المراجع الكبار آلاف الوكلاء المنتشرون في كل أنحاء العالم. ولكن قد تختلف إدارة الوكلاء من مرجع إلى آخر، وعندما يكون المرجع يتمتع بقدرة إدارية -بالإضافة إلى أعلميته- يستطيع أن ينجز الكثير من الأعمال، ويحقق الكثير من الأهداف الكبيرة.
وقد كان يتمتع السيد أبو الحسن الأصفهاني بمؤهلات قيادية وإدارية، وهو ما انعكس على جهاز الوكلاء لديه.
وقد أشار لهذه الحقيقة معاصره السيد محسن الأمين (قدس سره)، إذ عندما سُئل عن سبب اختياره للسيد أبو الحسن مع العلم بوجود علماء آخرين وكبار . فقال: في الحقيقة إنني رأيتهم جميعاّ علماء عدولاً، لكن رأيت في السيد أبو الحسن شيئاّ آخر وهو حُسن الإدارة مما دفعني إلى اعتباره لائقاّ لإدارة شؤون المسلمين. [14]
ولأن الوكيل يمثل المرجع في كل شيء، لذلك تتأكد ضرورة الاختيار الجيد والمناسب لهؤلاء الوكلاء وفق معايير دقيقة ومناسبة، ودون ترك الأمر بصورة عفوية أو جعل الاختيار عشوائياً. وهذا ما كان يحرص عليه السيد أبو الحسن (قدس سره) فقد كان يحسن اختيار وكلائه ولا يتسرع بل يتورع في تعيين من يعين للناس، ولا يقوم بعملية الاختيار إلا بعد أن يختبر الشخص المرشح للوكالة، ويقيس فيه دينه وعلمه وهداه وتقواه وعقله وغير ذلك مما يناسب البلد الذي يراد أن يرسل إليه. وقلما كان السيد (قدس سره) يرجع عن وكيل. وذلك آية في جودة اختياره في أول الأمر وحسن معرفته للناس وللبلاد وللأمور.
وقد وصل عدد وكلاء السيد( قدس سره) الذي يعتمد عليهم من غير تلاميذه إلى زهاء أربعة آلاف وكيل في شتى أصقاع الأرض. وهذا يكشف قوة السيد وانتشاره الواسع وقدرته على إيصال صوته وإرشاداته إلى أماكن كثيرة من الوطن الإسلامي. [15]
فقوة أي مرجع من ناحية الانتشار، وامتلاك مفاتيح الأمور، تعتمد على قوة وكلائه، ونفوذ شخصياتهم في مجتمعاتهم، وسماع كلمتهم لدى الناس.
والوكلاء يقومون بمهام عديدة، منها: استلام الحقوق الشرعية، وبناء المؤسسات المختلفة، وتعليم الناس عبر إقامة الدروس الدينية في المساجد والحسينيات والمنازل و.... وغيرها، وهذا الدور من أهم الأدوار التي ينبغي للوكلاء القيام بها.
وقد كان السيد أبو الحسن الأصفهاني يحث وكلاءه على تعليم الناس مفاهيم الإسلام وأحكامه، ونشر العلم بينهم، والقضاء على الجهل والأمية.
4- الإجابة على تساؤلات الناس:
من الأمور المتبعة لمعرفة الأحكام الشرعية، وفهم معاني ومفاهيم الإسلام، هو الاستفتاء والاستفسار والتساؤل من المرجع كي يجيب على ما لدى الناس من تساؤلات في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية.
و يعمد الكثير من مراجعنا العظام إلى تشكيل لجنة للإجابة على تساؤلات الناس؛ إلا أن ما ينقل عن أحوال السيد أبو الحسن الأصفهاني أنه كان يرفض أن يجيب أحد عنه، وكان بنفسه يجيب على تساؤلات الناس الكثيرة.
و (( فضلاً عن قيامه بالتدريس والبحث اليومي وحضوره صلاة الجماعة في أوقاتها و الفسح في المجال لزائريه بزيارته ومقابلته في مختلف الأوقات فإنه مكلف بقراءة البريد في كل يوم والإجابة على الفتاوى والرسائل بقلمه دون أن يساعده أحد في ذلك، وكم ستكون دهشة القارئ عظيمة إذا علم بأن نصف ما يستورد بريد النجف – والرسل الآخرون إن لم يكن أكثر – من الرسائل اليومية إنما هو معنون باسمه، ونصف ما يستصدر البريد ورسله الخاصة، إنما يستصدره من مكتبه وبقلمه، والرد على أغلب هذه الرسائل لا يخلو من تعب وكلفة ومشقة. فالكثير من هذه الرسائل يتضمن فتاوى ليس من السهل الإجابة عليها قبل تأمل طويل لعدم حصول نظائرها من قبل أو تداخل مشاكلها بعضها في بعض)). [16]
وللأسف الشديد، فقد كان يصل إلى السيد الكثير من الرسائل، التي تكيل له السباب والشتائم محاولة لتثبيطه أو إسقاطه نفسياً، وهنا كان يبرز في السيد (قدس سره) خلق الأنبياء، فكان يقابل هذه الإساءة بالحسنة، فمما ينقل عنه (قدس سره) أنه كان يقرأ الرسائل التي تصله جميعاً بنفسه لا بواسطة أحد إطلاقاً، وكان يضع أمامه في الغرفة وهو يقرأ الرسائل، إناء كبيراً مليئاً بالماء، فإذا رأى في الرسالة الشتم والسب والإهانة أخذها ووضعها في إناء الماء ليمحو آثارها وحتى لا يطلع عليها أحد، وأحياناّ كان يجمع هذه الرسائل وفي طريق ذهابه إلى الكوفة كان يرميها في نهر الفرات أو ((نهر الكوفة)) وهو يريد أن يدفن سر الناس وأن ينهي المشكلة بالتي هي أحسن !! [17]
فالسيد أبو الحسن الأصفهاني كان همه هو نشر العلم، وتعليم الناس أحكام الدين ومفاهيمه، ودفن الجهل بمختلف أشكاله، بما فيه رسائل السباب والشتائم التي كانت ترسل إليه، فهذه الرسائل تعبر عن جهل مركب، وما يهم المراجع والعلماء الكبار هو نشر العلم، ومحاربة الجهل مهما كان شكله ونوعه.
5- دفع الأموال من أجل نشر العلم:
نشر العلم وتعزيز قيمته، و الارتقاء العلمي بالمجتمع كان الشغل الشاغل للمرجع الأعلى في زمانه، السيد أبو الحسن الأصفهاني، وكان لتحقيق ذلك يدفع الأموال الكبيرة، من أجل المساهمة في تحقيق النهوض العلمي.
وقد ((كان السيد( قدس سره ) يزود بعض المجلات والمطابع في النجف الأشرف بالمال حتى تنمو النجف علمياً، بالإضافة إلى نموها حسب الحضارة الحديثة)) . [18]
وينقل عن السيد الأصفهاني أنه قام بإرسال ممثل عنه لغرض التبليغ في إحدى قرى شمال العراق، وعندما وصل هذا المندوب إلى تلك القرية، اعترضه رئيس القبيلة ومنعه من أداء وظيفته، مما اضطر المبلغ إلى الذهاب إلى مركز الشرطة القريب من تلك القرية، لحل هذه المشكلة.
فقال له مدير المركز: إن الحل الوحيد لهذه المشكلة هو أن تعود إلى النجف الأشرف وتبلغ آية الله الأصفهاني أن يتصل بوزير الداخلية، لكي يعطينا الوزير بدوره الأوامر للوقوف بوجه رئيس القبيلة، فعاد ممثل السيد أبي الحسن إلى النجف الأشرف وأبلغه بما جرى.
فقال له السيد، لا بأس سأكتب رسالة إلى رئيس القبيلة مع مبلغ خمسمائة دينار.
فأخذ ممثل السيد الرسالة مع المبلغ وذهب بها إلى شيخ العشيرة، فلما استلمها وفتحها ووجد فيها المبلغ المذكور دخل السرور والفرح على قلبه وصافح حامل الرسالة ورحب به أشد الترحيب، وأشار لأفراده بحضور مجلسه والصلاة خلفه.
ومنذ هذه الحادثة أصبحت هذه العشيرة ورئيسها من أنصار السيد ومحبيه، ثم بعد ذلك عاد المندوب إلى النجف الأشرف ونقل للسيد النتائج الإيجابية التي ترتبت على أثر الرسالة. فقال السيد أبو الحسن: هذه الطريقة أفضل من أن نتصل بوزير الداخلية لحل المشكلة، ولعل اتصالنا به يخلق لنا مشاكل نحن في غنى عنها [19]
وهدف السيد الأصفهاني بالطبع لم يكن استمالة هؤلاء الناس فقط، وإنما السماح لمبلغيه أن يقوموا بدور التبليغ ونشر العلم بين الناس وإن تطلب ذلك دفع الأموال، إذ أن الأموال يجب أن توظف في نشر العلم والفضيلة والخير. ولهذا الهدف أيضاً كان السيد الأصفهاني يرسل العباءات الفاخرة لوكلائه كي يهدوها إلى الرؤساء استمالة لهم، بما يسمح بممارسة أدوارهم وأعمالهم بكل حرية وترحاب.
ثانياً: تقدير العلماء والاحتفاء بهم
إن تكريم العلماء واحترامهم، والاحتفاء بجهودهم،إنما هو تكريم للعلم نفسه وتعزيز لقيمته ودوره في المجتمع، وإذا كان من الطبيعي لأي مرجع القيام بهذا الدور، إلا أن هذا الدور يكون أكثر من مهم إذا كان العلماء يواجهون صعوبات ومشاكل من قبل قوة مسيطرة على مقاليد الأمور.
ففي عهد السيد أبو الحسن الأصفهاني كان العراق محتلاً من قبل الاستعمار البريطاني، وقد سعى بكل مكر وخداع أن يضعف الدور التاريخي للعلماء، ويقلل من ثقة الناس بهم، ويعمل على إبعادهم عن الارتباط العاطفي والوحداني بالعلماء. من هنا، فإن السيد أبو الحسن الأصفهاني (رضوان الله عليه) قد عمل كل ما بوسعه من أجل استعادة ثقة الناس بالعلماء، والعمل على تعزيز مكانتهم بين الجماهير، وقد قام السيد أبو الحسن الأصفهاني بمجموعة من الخطوات الإيجابية والمؤثرة في هذا المجال ... نذكر أهمها في النقاط التالية:
1- تربية العلماء:
حاول أعداء الدين في كل من إيران والعراق وأفغانستان وتركيا وغيرها من بلاد المسلمين صناعة علماء وشخصيات مرتبطة مباشرة بالاستعمار وأذنابه، وكان العلماء الربانيون يتعرضون لأعنف معاملة، ومضايقات في كل شيء كي يتخلوا عن زيهم الديني.
فبعد أن وصل رضا خان إلى الحكم في إيران أصدر في سنة 1929م قانون اللباس الموحد الشكل بحيث فرض على الرجال ارتداء القبعة على الرأس والسروال (البنطلون) والسترة (الجاكيت) على الطراز الأوروبي، كما وحد زي رجال الدين، ومنعهم من ارتدائه إلا بإذن خاص.
وخلال خمس عشرة سنة من حكمه اضطر مئة ألف من رجال الدين إلى ترك الزي الديني، وعامل رجال الدين بقسوة بالغة.
وينقل أحد العلماء مثالاً لتقليص عدد العلماء في إيران، فيقول إنني ذهبت إلى إيران في زمن رضا خان لزيارة الإمام الرضا (عليه السلام) فذهبت إلى مشهد وفي كل طريقي ذهاباً وإياباً لم أًرً إلا معممين فقط أحدهما رأيته في طهران والآخر في خراسان!! [20]
والهجمة على العلماء، كان موجوداً كذلك في أفغانستان وتركيا، وإلى حد أقل في العراق. وأمام كل ذلك، كان السيد واعياً لمؤامرات الاستعمار، ولما كان يمثل المرجعية العليا لذلك فقد كانت المسؤولية العظمى لردع هذه المؤامرات تقع على عاتقه. من هنا فقد اخذ السيد بمحاربة كل من هؤلاء حرباً ثقافية، أي أنه قاد ((ثورة ثقافية)) في البلاد الإسلامية التي كان له فيها نفوذ. وقد تركزت منجزات السيد في العراق وإيران وأفغانستان، أما في تركيا حيث لم تكن هناك يد للمرجعية فإنه لم يوفق لعمل شيء، لذلك فتركيا ظلت حتى اليوم تعيش غربة حقيقية عن الإسلام. ولا زال اعتمار العمائم ممنوعاً. فالحال لم يتغير عما كان عليه في عهد أتاتورك.
من هنا، أخذ السيد أبو الحسن يركز جهوده على تربية العلماء والخطباء والمبلغين والمرشدين والمدرسين والمؤلفين ويجمع كلمتهم. وبينما كانت العمائم محرمة في إيران وأفغانستان وتركيا ونوعاً ما في العراق أيضاً، أكثر السيد من نشر اعتمارها وكان كالأب الرؤوف بالنسبة لطلبة العلوم الدينية، يربيهم ويدير أمورهم، ويوجههم، ويرشدهم، ويحترمهم، ويوجب احترام الناس لهم. [21]
ومن هنا، ندرك عظمة الدور القيادي الذي قام به السيد الأصفهاني في تربية العلماء والخطباء، وتكثير أعدادهم، والعمل على دعمهم، ليبقوا الحصن الحصين للدفاع عن الإسلام ومقدساته، وأحكامه وفلسفته الشاملة للحياة.
2- إعادة الهيبة للعلماء:
عمل الاستعمار البريطاني، وكذلك أتباعه على التقليل من مكانة وهيبة العلماء، بهدف سلب أي تأثير لهم على الناس، ومن ثم يستطيعون السيطرة على العراق وإيران وغيرها من بلاد المسلمين.
وقد أدرك السيد الأصفهاني ذلك فعمل بكل جد واجتهاد من أجل إرجاع مكانة العلماء إلى وضعها الطبيعي، وإضفاء الهيبة عليهم كي يتمكنوا من التأثير المعنوي على الناس.
وقد تمكن –السيد الأصفهاني- من إزالة النظرة السلبية التي علقت بأذهان الناس تجاه رجال الدين والعلماء، وكان من أسالبيه (قدس سره) في ذلك : إنه كان يعطي المال لأساتيذ الحوزة في النجف ال
https://telegram.me/buratha