كتبه: صاحب الموسوي
بعد واقعة الطف الفجيعة، عاش الإمام زين العابدين عليه السلام، وضعاً سياسياً واجتماعياً صعباً، نظراً لما سببته قضية الخذلان والهزيمة النفسية التي مُني بها أهل الكوفة أمام نداءات الاستغاثة لنصرة الدين التي أطلقها الإمام الحسين عليه السلام. وهذا ما جعل دور الإمام يتخذ صبغة جديدة، تواكب المرحلة الاجتماعية والسياسية للأمة، فبرز دوره الريادي في إعادة بناء النفوس التي لوثتها جريمة الطف، وإعادة المسلمين الى فطرتهم السليمة، ثم الى إيمانهم ودينهم كما أراد لهم الله تبارك وتعالى.
وفي ظل الإرهاب الدموي، واستمرار انتهاك القيم الدينية من قبل الحكم الأموي، متمثلاً بيزيد ومن جاء بعده، لجأ الإمام السجّاد عليه السلام الى أساليب جديدة في الدعوة الى الله تعالى، ومجابهة المنكر، وصون رسالة جده من الانحراف، على خُطى والده الشهيد.. وكان سلاحه الجديد على الساحة هو «الدعاء» من خلال السفر العظيم الذي خلفه لنا عليه السلام، وهو «الصحيفة السجادية»، الذي قيل بحقه في حديث شريف انه «زبور آل محمد».
من هنا نعرف، أن قيادة الإمام زين العابدين عليه السلام، لم تكن بالمعنى المتعارف للقيادة الظاهرية، إنما بالمنظور الفكري المتوثب الذي يراقب الأحداث وهو في صميمها ويصاحب التطورات عن كثب.
القيادة في بعدها الفكري والعقائدي
وضع الإمام زين العابدين عليه السلام، أسساً لخطته الإصلاحية المترامية الأطراف البعيدة الغايات، واختار السبل التي تبعد أعين السلطة عنه.
فكان منهج «الدعاء»، الذي تجاوز فيه الصعيد الوجداني، الى مطلق الصُعد التي تصاغ فيها الخطب والرسائل في طرح القضايا المختلفة، ومنها الصعيد الفكري والعقائدي.
لقد استغل الأمويون جهل العامة وبعدهم عن المعارف الدينية، فاخذوا المعنى الحرفي لكلمة «اليد» و «العين» و «الوجه» وغيرها مما لا يصح إطلاقها على الله تبارك وتعالى.
وعمدوا الى نشر هذه الأفكار في المجالس العامة ومساجد المسلمين، فسرت الى مسامع الإمام زين العابدين عليه السلام، أقوال قوم يشبهون الله جلّ وعلا بخلقه، وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففزع لذلك ولجأ مستجيراً بالله مما سمع وهو يقول:
«الهي بدت قدرتك، ولم تبد هيبة جلالك فجهلوك، وقدروك بالتقدير على غير ما أنت به شبهوك، وأنا بريء يا الهي من الذين بالتشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء يا الهي ولم يدركوك.... واتخذوا بعض آياتك رباً – فبذلك وصفوك..»
من هنا؛ رفع الإمام عليه السلام صوته الرافض لمروجي الأفكار الدخيلة على الإسلام، وأعلن براءته أمام الله من العقائد المنافية لمعنى التوحيد، حتى يكون حجة بالغة على الناس أجمعين، ولذا توجه عليه السلام الى تمجيد ربّه وتقديسه من خلال أدعيته ومناجاته، لتكون خير جواب وردّ على التوجه الخاطئ من بعض المسلمين لمعرفة الدين.
الانقطاع الى الله وليس الى السلطة
لقد كان صوت الإمام السجّاد عليه السلام مدوياً في الآفاق، وهو يوطد أسس عقيدة التوحيد في لفتات بارعة تهدم بنيان الصنمية الجديدة.
فبين أولاً وجوب الاعتماد والتوكل والطاعة والانقطاع لله وحده تعالى، لا لأحد من المخلوقين لان الكل محتاج الى الغني، القادر، المُعطي وحده، لذا يقول عليه السلام في دعائه كاشفاً عن تلك المفاهيم:
«اللهم إني أخلصت بانقطاعي إليك وأقبلت بكلّي عليك، وصرفت وجهي عمن يحتاج الى رفدك، وقلبت مسألتي عمن لم يستغن عن فضلك، و رأيت أن طلب المحتاج الى المحتاج سفه في رأيه و ضلّة في عقله. فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، و راموا الثروة من سواك فافتقروا... فأنت يا مولاي دون كل مسؤول، موضع مسألتي، ودون كل مطلوب إليه وليّ حاجتي، أنت المخصوص قبل كل مدعو بدعوتي، لا يشترك أحد في رجائي. ولا يتفق احد معك في دعائي، لك يا الهي وحدانية العدد، وملكة القدرة الصمد، وفضيلة الحول والقوة، ودرجة العلو والرفعة، ومن سواك مرحوم في عمره، مغلوب على أمره.... فتعاليت عن الأشباه والاحتداد وتكبرت عن الأمثال والأنداد فسبحانك لا اله إلا أنت.
هذا الدعاء، دعوة مفتوحة لمن أراد الانقطاع الى الله تعالى، والاعتماد عليه، وفي هذه العبارة: «مرحوم في عمره، مغلوب في أمره»، ينعى الإمام السجاد عليه السلام، الذين يطلبون العزة والكرامة والارتفاع من غير طريق الله جل وعلا، لأنه تعالى وحده بيده ملكوت كل شيء، وأما غيره فمغلوب على أمره مقهور على شأنه .. وقد احتوى هذا الدعاء خالص الإيمان وجوهر التوحيد.
المصادر:
1- الصحيفة السجادية الكاملة
2- الجلالي – جهاد الامام السجاد
3- الأربلي – كشف الغمة
4- مريم القزويني – القيم الأخلاقية في سيرة ودعاء الإمام زين العابدين "عليه السلام"
25/5/140603
https://telegram.me/buratha