ولأن البعض يعتقد أن هذا التيار هو تيار ديني محض يُعنى بتمحيص الروايات الواردة عن رسولنا الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لذا وجب علينا أن نسلط الضوء على حقيقة هذه الفرقة التي تدعي أنها الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، خاصة وأن أحدًا لا يرغب في القيام بهذه المهمة إما خوفا أو عجزًا.
من هم السلفيون؟!. ينقسم المسلمون من الناحية المذهبية إلى قسمين، الشيعة الذين يؤمنون بإمامة أهل البيت عليهم السلام ويعتقدون أن الإمامة بمعناها الشامل هي اختيار إلهي ينحصر فيهم دون غيرهم والفريق الثاني هم (أهل السنة) الذين يعتقدون بإمكانية تجزئة الإمامة وتوزيع مهامها، فهناك أئمة السياسة وهم الخلفاء وهناك أئمة الفقه الأربعة أو التسعة وهناك أئمة العقيدة مثل الأشعري والماتريدي وغيرهم.
الأئمة نوعان: الأول هم من وصفهم سبحانه {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} وهم {لاَ يُخَالِفُونَ الْحَقَّ وَلاَ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ} والصنف الثاني قد أقام بناءه على الظنون والآراء الشخصية وهو (لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَإِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ)!!
(استقرت) الأمور في عالمنا الإسلامي على هذه التقسيمة بدءًا من العصر المملوكي، وتحديدًا في عصر الظاهر بيبرس الذي قرر المذاهب الأربعة في الفقه، والأشعري في الاعتقاد، ومنع كل ما عداها حتى جاء العصر الوهابي وجاء معه السلفيون الذين أعلنوا أولًا الاستغناء عن خدمة الأئمة بكافة أنواعهم وأشكالهم ،وقرروا العودة المباشرة إلى النص (بفهم السلف الصالح) حسب زعمهم.
يقول الشيخ صالح آل الشيخ:
المسلمون صنفان: سلفيون، وخلفيون. أما السلفيون: فهم أتباع السلف الصالح. والخلفيون: فهم أتباع الخلف، ويسمون بالمبتدعة إذ كل من لم يرتض طريقة السلف الصالح في العلم والعمل والفهم والفقه فهو خلفي مبتدع.
والسلف الصالح هم القرون المفضلة وفي مقدمتهم صحابة رسول الله الذين أثنى الله تعالى عليهم بقوله {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} الفتح: 29 الآية. وأثنى عليهم رسول الله بقوله: {خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم}.
وتتابعت أقوال الصحابة أنفسهم، والتابعين لهم بإحسانٍ على الثناء على مجموعهم، والاقتداء بمسالكهم.
قال ابن مسعود – رضي الله عنه -: (من كان منكم متأسياً فليتأس بأصحاب محمد فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم)، وهذا أمر مجمع عليه بين أهل السنة، لا يخالف في ذلك منهم مخالف، وإذا كانوا على مثل هذا الفضل العظيم فلا غرو أن يتشرف المسلم بالانتساب إلى طرائقهم في فهم الكتاب والسنة، وعملهم بالنصوص.
وكانت كل فرقة ضالة من فرق الأمة تستدل لمرادها بآياتٍ وأحاديث خلاف فهم السلف لها، وتوسعوا في ذلك حتى كفَّر بعضهم بعضاً وضربوا كتاب الله بعضه ببعض، كل ذلك بفهمهم للنصوص حَسبَ ما تدعيه كل فرقة، فأصبحت كل الفرق الزائغة تقول: نأخذ بالكتاب والسنة، فالتبس الأمر على ضعيفي النظر، قليلي العلم والمخرج من هذه الدعاوى والأقوال الزائغة هو اتباع نهج خير القرون فما فهموه من النصوص هو الحق، وما لم يفهموه ولم يعملوا به فليس من الحق. وهكذا تابعوهم بإحسانٍ ممن تلقوا عن الصحابة الكرام فصار من انتسب إلى منهج هؤلاء الصحابة في فهم الكتاب والسنة، ومن أخذ بما صحت روايته عنهم مرفوعاً إلى النبي(ص)، ومن ترك الآراء العقلية والفهم المحدث صار سلفياً وصار من لم يكن كذلك خلفياً مبتدعاً.
هذه هي الأطروحة السلفية في صورتها الأصلية التي تؤكد على التلقي المباشر من الصحابة والتابعين والأخذ بما (صحت) روايته عنهم ولو كان مرفوعًا (غير متصل السند) إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وآله و(ترك الآراء العقلية والفهم المحدث) ليصير المسلم بذلك سلفيًّا ويتحاشى أن يصبح (خلفيا مبتدعا).
عقبات وعراقيل
إنها نظرية جميلة وبراقة ولكن هناك بعض العراقيل التي لا يمكن تجاوزها مهما كانت براعة الخطيب أو بلاغة الكاتب.
أول هذه العراقيل: أن الصحابة أنفسهم لم يدَّعوا وجوب اتباع كل تصرفاتهم والدليل على ذلك أن أبا بكر لما حضرته الوفاة قال (إني لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله فأما الثلاث اللاتي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا أو خليته نجيحا، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين- يريد عمر وأبا عبيدة- فكان أحدهما أميرًا وكنت وزيرًا.. وأما اللاتي تركتهن…). وبالتالي فهو يرى أن بعض ما فعله يحتاج لمراجعة ومن ثم كيف يمكن القول بأن فهم الصحابي يعد نصًّا دينيًّا ملزمًا؟؟.
كما أن عمر بن الخطاب والعهدة على صحيح البخاري (رواية رقم 6442) أكد على هذا المعنى عندما قال: (بلغني أن قائلًا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلاناً، فلا يغترَّنَّ امرؤ أن يقول: إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمَّت ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن الله وقى شرَّها، وليس فيكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي تابعه، تغرَّة أن يقتلا).
فكيف يقال إذًا إن كل تصرفات الصحابة هي دين ينبغي على الإنسان أن يتعبد إلى الله باتباعه؟!.
المفارقة الأخرى تكمن في تقسيم المسلمين إلى “سلف صالح” و”خلف مبتدع” في حين أن المناهج العقائدية والفقهية التي يتبعها القوم كلها من صياغة هذا الخلف المبتدع؟!. وعلى سبيل المثال وليس الحصر فالعقيدة الواسطية التي يعتنقها القوم هي من وضع ابن تيميه الحراني وهو من أبناء القرن الثامن الهجري وكذا ما كتبه تلميذه ابن القيم، فكيف نقبل هذا التقسيم الذي يعتبره القوم أساسًا لمعتقدهم؟!.
النموذج الأبرز لخروج السلفيين عن منهجهم القائم على تفضيل السلف على الخلف المبتدعين هي قضية الذات والصفات.
فقد كان علماء السلف من أمثال مالك بن أنس (والعهدة على الشهرستاني في الملل والنحل) يثبتون لله تعالى صفات أزلية من العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والجلال والإكرام والجود والإنعام والعزة والعظمة، ولا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل، بل يسوقون الكلام سوقًا واحداً وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل: اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك إلا أنهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية ويقولون :عرفنا بمقتضى العقل أن الله تعالى ليس كمثله شيء فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها ،وقطعنا بذلك إلا أنّا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه، مثل قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى} ومثل قوله: {خلقت بيدي} ومثل قوله {وجاء ربك} ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات وتأويلها، بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بأنه لا شريك له وليس كمثله شيء ، وذلك قد أثبتناه يقينًا.
كان هذا هو رأي بعض علماء (السلف) – اتفقنا معه أم لم نتفق – وهو الرأي الذي لم يرق (للسلفيين) الذين فضلوا رأي (الخلفي) ابن تيمية الذي أثبت لله تبارك وتعالى تلك الصفات الخبرية على كيفية تجسيدية لا تترك مجالًا للمناورة، حيث يقول في عقيدته الواسطية في تفسير قوله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} : تضمَّنَتْ هاتان الآيات إثبات اليدين صفة حقيقية له سبحانه على ما يليق به، ولا يمكن حمل اليدين هنا على القدرة؛ فإن الأشياء جميعًا ـ حتى إبليس ـ خلقها الله بقدرته، فلا يبقى لآدم خصوصية يتميز بها. وفي حديث عبد الله بن عمرو: (إن الله عز وجل خلق ثلاثة أشياء بيده: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده). ورغم أن أحدًا من (السلف) قبل (الخلفي) ابن تيمية لم يلجأ إلى التمييز بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، إذ إن القرآن الكريم قد استخدم المصطلحين بمعنى واحد، فالله هو رب السماوات والأرض ، حتى جاء هو وادعى إمكانية أن يكون ثمة إيمان بتوحيد الألوهية وشرك في الربوبية ، ليفتح لنفسه المجال ولتلميذه محمد بن عبد الوهاب من بعده لتكفير الموحدين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله لأنهم بزعمه يوحدون الألوهية ويشركون في الربوبية!!.
السلفية إذًا لا تعدو كونها إطارًا فضفاضًا جرى من خلاله تمرير أفكار أغلبها من مبتدعات نجم أنجبه (وخلفه) لنا عصر المماليك، هو ابن تيمية وتابعه محمد بن عبد الوهاب لا أكثر ولا أقل. تحدثنا سابقًا عن أهم مرتكزات الأطروحة السلفية واعتمادها حجية فهم وعمل الصحابة (السلف الصالح) وتقديمه على فهم (الخلف المبتدع)، وكيف أنهم لم يلتزموا بهذا عند التطبيق، حيث إن بعض هذه التصورات هي من مبتدعات هذا الخلف المذموم من وجهة نظرهم.
من بين مبتدعات الخلف التي أصبحت دينًا وركنًا ركينًا من أركان الدين في التصور السلفي، هو اعتبارهم أن أضرحة الأنبياء وأئمة أهل البيت هي أوثان ينبغي هدمها وتسويتها بالأرض.
إنها فتوى (الخلفي) ابن تيمية (التي لم يقل بها أحد من السلف!) الذي قال في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم) ما نصه: “المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره، هذا مما لا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين وتكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب، لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولأحاديث أخر وليس في هذه المسألة خلاف”!!.
يزعم ابن تيمية أنه لا يعرف خلافًا بين (العلماء المعروفين) حول هذا الشأن من دون أن يحدد لنا من هم العلماء المعروفين، إلا أن إقامة هذه الأضرحة وبقاءها ثلاثة عشر قرنًا من دون أن يتعرض لها أحد بهدم حتى جاءت الحركة الوهابية ومعها معاولها لتنفذ هذه الفتوى في القرن العشرين هو دليل قاطع على عكس هذا، وهي نفس الحجة التي احتج بها الشيخ القرضاوي على أصدقائه الطالبان من أجل إقناعهم بعدم هدم تماثيل بوذا، لأن أحدًا من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ممن ساهموا في فتح هذه البلدان لم يقم بهدمها ولا دعا إلى ذلك!!.
ورغم الفارق الجوهري بين النموذجين إلا أن المنطق الاستدلالي واحد في الحالتين خاصة وأن الحديث يدور عن سلف صالح وخلف مبتدع!!.
ورغم أن دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مسجده جرى بأمر منه وشهد على ذلك جمهور الصحابة المتبعين الذين لم يكن لهم حق الرفض والاعتراض، إلا أن السلفيين يصرون على أن بقاء قبر النبي الأكرم محمدًا (صلى الله عليه وآله) في هذه البقعة الطاهرة هو بدعة ينبغي إزالتها، كما أفتى ابن تيمية من قبل، وكما أفتى شيوخ الوهابية أتباعهم من تنظيم القاعدة في العراق بنسف ضريحي الإمامين الهادي والعسكري(ع)، وهاهي فتوى الشيخ ابن جبرين الصادرة بتاريخ 7 فبراير 2007 حيث يقول: (فقد جاء الإسلام بتحريم البناء على القبور، وتحريم تجصيصها، والأمر بهدم البناء عليها والنهي عن البناء على القبور يقتضي تحريمها، وذلك لأنه ذريعة إلى عبادة الأموات، كما هو الواقع في كثير من البلاد الإسلامية التي وقع فيها الغلو في أصحاب القبور بسبب رفع تلك القبور والبناء عليها، وكثرة الكتابة عليها وزخرفتها فيعتقد الجاهل أن أولئك الأموات لهم فضل وشرف، مما يحمل الجهال على الطواف بتلك القبور والتمسح بتلك الأبنية واعتقاد أن أصحاب هذه الأضرحة من الأولياء والشهداء الذين لهم جاه عند الله والذين ينفعون من تعلق بهم، ويشفعون لمن دعاهم ، ويجيبونه ويعطونه سُؤلَه، وذلك بلا شك شرك في العبادة، وتعظيم لهؤلاء الأموات، فالواجب هدم تلك الأبنية حيث يقر أهلها بأن البناء محرم، ولا يسوغ بقاءها الناحية الفنية والجمالية في البناء، ولا أنها تراث إسلامي، وأما وصفها بأنها عمارة إسلامية فليس بصحيح، ولا تسمى تراثاً إسلامياً فإن الشرع لا يقرها، والإسلام يأمر بإزالتها . والله أعلم).
والطريف أن مسئولًا أمنيًّا سابقًا صرح أخيرًا بأن هذا الفكر لا يمثل خطرًا (ربما لأنه لم يسمع بما حدث مؤخرًا في سامراء) بما يقطع بأن عبقريته الدينية لا تقل عن تلك الأمنية التي جعلت منه ضيفًا ثابتًا في الفضائيات العربية!!.
استند القوم في دعواهم لإزالة أضرحة الأنبياء والأئمة إلى تلك الرواية المنسوبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي تقول (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وهي الرواية التي لم يفهمها بعض علماء السلف كما فهمها ابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الوهاب، حيث يقول صاحب (تحفة الأحوذي في شرح صحيح الترمذي) “وحديث لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد: كانوا يجعلونها قبلة يسجدون إليها في الصلاة كالوثن، وأما من اتخذ مسجدًا في جوار صالح أو صلى في مقبرة قاصدًا به الاستظهار بروحه أو وصول أثر من آثار عبادته إليه لا التوجه نحوه والتعظيم له فلا حرج فيه ألا يرى أن مرقد إسماعيل في الحجر في المسجد الحرام والصلاة فيه أفضل؟” أي إن المرقد الطاهر لإسماعيل عليه السلام موجود في المسجد الحرام الذي يفد إليه المسلمون من كل فج عميق من أجل الحج.
هذه واحدة، والثانية أن النصارى ليس لهم (أنبياء) بل نبي واحد هو عيسى بن مريم (عليه السلام( وهو (سلام الله عليه) ليس له قبر ولا ضريح يزار، فهو من وجهة النظر المسيحية قد قام بعد صلبه ورفع إلى السماء، أما من وجهة النظر الإسلامية فقد رفع منذ البدء {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً* بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} النساء (157-158) فأي قبر إذًا اتخذه النصارى مسجدًا؟!.
الثابت أيضًا أن بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن ثم قبره كان في مسجده حتى إنه أمر بسد كل أبواب بيوت الصحابة المفتوحة فيه ولم يبق إلا بابه وباب علي بن أبي طالب(ع)، وهذا ما ذكره القرطبي في تفسير قوله تعالى من سورة النساء آية 43 {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا}: عَنْ أَبِي سَعِيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ وَلَا يَصْلُح أَنْ يُجْنِب فِي الْمَسْجِد إِلَّا أَنَا وَعَلِيّ}. قَالَ عُلَمَاؤُنَا، هَذَا لِأَنَّ بَيْت عَلِيّ كَانَ فِي الْمَسْجِد كَمَا كَانَ بَيْت النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِد، وَاَلَّذِي يَدُلّ عَلَى أَنَّ بَيْته كَانَ فِي الْمَسْجِد مَا رَوَاهُ اِبْن شِهَاب عَنْ سَالِم بْن عَبْد اللَّه قَالَ سَأَلَ رَجُل أَبِي عَنْ عَلِيّ وَعُثْمَان رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَيّهمَا كَانَ خَيْرًا؟ فَقَالَ لَهُ ابْن عُمَر: هَذَا بَيْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! وَأَشَارَ إِلَى بَيْت عَلِيّ إِلَى جَنْبه، لَمْ يَكُنْ فِي الْمَسْجِد غَيْرهمَا; وَذَكَرَ الْحَدِيث.
ليس هناك إذن مجال للمحاورة والمداورة حول دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (بأمر منه) في مسجده بعد وفاته ،ولو كان هناك أدنى احتمال أن يؤدي الدفن في هذا المكان لأدنى شبهة تتعلق بعقيدة التوحيد لأمر رسولنا (صلى الله عليه وآله) بدفنه في مكان آخر، إذ لا مجال للادعاء بأن ابن تيمية الحراني وتلميذه ابن عبد الوهاب يمكن أن يكونا أحرص على عقيدة التوحيد ممن جاء من عند الله بعقيدة التوحيد وذاق الأمرَّين من أجل نشرها، وعادى الأقربين في ذات الله ومن أجل مرضاته.
القرآن والأضرحة
يقول سبحانه في سورة الكهف {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا}، والمعنى أن لو كان اتخاذ المساجد بجوار الأضرحة ممنوعًا لما وردت تلك الآية بصيغة الإقرار، ولجاءت بصيغة الاستنكار والنهي، قال الطبري في تفسيره قَوْله {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرهمْ} يَقُول جَلَّ ثَنَاؤُهُ: قَالَ الْقَوْم الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْر أَصْحَاب الْكَهْف (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا) قَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلْ نَحْنُ أَحَقّ بِهِمْ هُمْ مِنَّا نَبْنِي عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا نُصَلِّي فِيهِ وَنَعْبُد اللَّه فِيهِ.
ولا شك أن النص القرآني يبيح إقامة المساجد على قبور الصالحين ويجعل منه أمرًا مشروعًا وليس هناك دليل أقوى من الدليل القرآني.
لا يقل أهمية عن كل ما سبق أن الأمر يتعلق بقبر محفور في التراب وضع فيه جسد نبي أو إمام من أئمة أهل البيت(ع) بعد موته، وهو إقرار عملي ببشريته وموته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} (طه 55 ) ،ولا يتعلق من قريب ولا من بعيد بصنم يعبد من دون الله، تتجسد فيه (بعض ملامح الإله المعبود؟!) فالدفن في التراب إقرار بالبشرية والطبيعة الطينية الأصلية للنبي أو للوصي، فكيف يقال إن تعظيم هذه القبور وبناء القباب عليها يمثل مدخلًا للشرك أو للوثنية؟!.
ولأن هذه المسألة هي من أساسيات الفكر الوهابي أو السلفي- سَمِّه ما شئت- لذا يبدو واضحَا أن استدلالهم على وجوب إزالة المساجد التي تحتوي على قبور الأنبياء لا تعدو كونها فتوى للخلفي ابن تيمية خالف فيها صريح القرآن والسنة النبوية العملية، وليست القولية، ناهيك عن مخالفته لما استقر عليه جمهور الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فضلًا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحاب المذاهب الأخرى، فكيف يقال إذًا إن السلفية تعني العودة إلى الجذور أو إلى النص الأصلي؟!.
من خلال ما قدمناه من نماذج للفكر السلفي يمكننا أن نلاحظ أننا أمام مدرسة فكرية ليس لها حدود ولا معالم.
فهم يقسمون علماء الإسلام إلى “سلف صالح” و”خلف مبتدعط ثم يأخذون أغلب فتاواهم عن هذا الخلف المبتدع.
يزعمون أنهم مكلفون من السماء بحماية السنة والتمييز بين الصحيح والموضوع وأنهم وحدهم هم أهل هذا الفن!!.
ينتفضون غضبًا ويعلنون الحرب إذا انتقدت رواية واردة في البخاري أو طعن أحد في عدالة الراوي إذا كانت الرواية تشكل أساسًا لرؤيتهم العقدية أو الفقهية!!.
أما إذا كان الأمر متعلقًا برؤية غيرهم عندها يصبح التمحيص والطعن في عدالة الراوي بأوهى الأسباب واجبًا شرعيًّا، بل وجزءًا من التكليف الإلهي الذي حمله السلفيون وأهمله كل من عداهم من المسلمين الغافلين المتقاعسين عن حماية الشرع والدين!!.
يرفضون استخدام العقل كأداة لتمحيص الروايات التي تروق لهم من خلال مقارنتها بما جاء في القرآن الكريم وبغيرها من الروايات المنسوبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم يزعمون أنهم وحدهم أهل الدراية والرواية؟!.
أما أسلوبهم المفضل في الدراية فيقوم على (ربما ولعل) تمامًا كما حدث مع رواية رضاع الكبير (لعله أراد أن تحلبه في كوب!) و(ربما كانت حالة خاصة!!) ودعك من النص القرآني الواضح والمحكم {وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرا} والمهم هو إسكات المخالفين… والله أكبر وليخسأ الخاسئون!!.
أما عن الرواية التي يزعمون أنهم أحق بها وأهلها، فلو صحت النظرية السلفية القائلة بتقسيم الناس إلى سلف صالح وخلف طالح فما هي الحاجة لإعادة النظر فيما أنجزه السلف من كتب زعموا أنهم جمعوا فيها الصحيح وطرحوا منها ما ليس بصحيح؟!.
إنهم يرون أن من حقهم أن يقولوا، وليس لنا إلا الإذعان والتسليم، وإلا انهالت علينا تهم التبديع والتفسيق!!.
لنمض معهم في عملية إعادة النظر في أحوال الرواة من خلال ما يسمى (كتب الرجال) التي ألفها الذهبي والرازي وغيرهم لنرى بوضوح أن هذه الكتب لا تختلف شيئًا عن بيت العنكبوت، وأن جهابذة السلف لم يتبعوا قاعدة محددة في نقد الرجال، وأن الأهواء السياسية والعقائدية قد لعبت دورًا بارزًا في رفع أناس إلى مرتبة الأنبياء والصديقين، والغض من منزلة الكثير من أهل الصدق والفضل وغمط حقوقهم!!.
التوثيق والتضعيف!!
يزعم القوم أنهم أهل السنن وأهل السند وأهل الحديث، وتراهم يتأبطون كتبًا، لا أدري كيف يميزون من خلالها بين الغث والسمين والخطأ والصواب؟!.
خذ عندك كتاب (ميزان الاعتدال) للذهبي حيث يتصور البعض أنه قاموس للرجال وكل ما عليك هو فتحه لتميز بين الخطأ والصواب.
أبو الزناد نموذجًا!!
إنه أحد الرواة الذين وثقهم البخاري في (صحيحه) ودونك بعض ما قاله عنه الذهبي:
عبد الله بن ذكوان، أبو الزناد الإمام الثبت قال ابن معين وغيره: ثقة حجة وروي عن أحمد بن حنبل قال كان سفيان يسمي أبا الزناد أمير المؤمنين في الحديث قال البخاري أصح أحاديث أبي هريرة: أبو الزناد، عن الأعرج، عنه. قال يحيى بن معين قال مالك: كان أبو الزناد كاتب هؤلاء – يعنى بنى أمية – وكان لا يرضاه. حدثنا ابن القاسم قال: سألت مالكًا عمن يحدث بالحديث الذي قالوا إن الله خلق آدم على صورته، فأنكر ذلك مالك إنكارًا شديدًا ونهى أن يحدث به أحد. فقيل له إن أناسًا من أهل العلم يتحدثون به؟ قال: من هم؟ قيل: ابن عجلان، عن أبي الزناد فقال لم يكن يعرف ابن عجلان هذه الأشياء ولم يكن عالمًا ولم يزل أبو الزناد عاملًا لهؤلاء حتى مات.
وهكذا يدور الحديث حول راوية البخاري أبي الزناد ما بين توثيق سفيان واتهام مالك بن أنس له لأنه كان عاملًا لبني أمية وهو ما يكفي من وجهة نظره (ووجهة نظرنا) لإهدار وثاقته واتهامه في ذمته الدينية خاصة وأنه كان يزعم أن آدم قد خُلق على صورة الله (تعالى الله عما يقول أبو الزناد علوا كبيرا)!!.
لن نسترسل في سرد العجائب والمتناقضات التي أوردها الذهبي وغيره من أصحاب (قواميس الرجال) المتخمة بالأسماء (11 ألف اسم) فقط نريد أن نعرف كيف يمكن لهؤلاء الجهابذة أن يقوموا بإعادة تمحيص الأسانيد بمجرد الاطلاع على هذه الكتب من دون دراسة التاريخ ومن دون مرجعية الراسخين في العلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا؟!.
سنة العرباض بن سارية!!
أحد أهم المستندات السلفية هي رواية (العرباض بن سارية): القائلة (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقلنا يا رسول الله… عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).
ورغم أن العرباض بن سارية يقول “وعظنا.. قلنا.. عليكم” إلا أن أحدًا غيره لم يرو هذه الرواية، رغم أنه يتحدث بصيغة الجمع؟!.
السؤال الآخر لماذا أعرض السلفيون وغيرهم عن خبر الغدير وحديث الثقلين {من كنت مولاه فعلي مولاه..} رغم أنه منقول بالتواتر حيث جاوز عدد من رواه من أصحاب النبي محمد (صلى الله عليه وآله) مائة صحابي؟؟.
السلفية جسد بلا رأس!!
إن أردت أن تكون سلفيًّا فكل ما هو مطلوب منك أن تقصر ثوبك ما بين الكعبين والركبتين، وأن تطلق لحيتك على سجيتها، وأن تردد بعض المقولات، وأن تنتقي شيخًا من بينهم تروق لك فتاواه!!.
إن كنت من هواة الكر والفر وركوب الخيل المسومة أو السيارات المفخخة (سلفية جهادية) فهناك الجماعة الإسلامية سابقًا أو القاعدة حاليا، أما إن كنت من هواة السكون والدعة والأنعام والحرث أو فشلت مشاريعك الجهادية فهناك السلفية (العلمية) وكل ما هو مطلوب منك هو اقتناء بعض الكتب وتمضية ما تبقى من العمر في صحبتها والاكتفاء بسب ولعن (أصحاب البدع والأهواء)، فالقماش واسع وفضفاض ويلبي كل الرغبات والأذواق، وستجد في كتب ابن تيمية الفتاوى من كل صنف!!.
يقدم موقع (أنا السلفية) بعض النصائح للمريدين من بينها:
ابتعد عن السياسة واشتغل بطلب العلم واقرأ كتاب، مدارك النظر في السياسة بين التطبيقات الشرعية والانفعالات الحماسية للشيخ عبد المالك رمضاني وكتاب (القطبية هي الفتنة فاعرفوها) للعدناني أثابه الله .
اخلع (البيعة البدعية الحزبية) من عنقك وقل: في عنقي بيعة واحدة لحكام هذه البلاد حفظهم الله لا أرتضي غيرَها.
الحزبيون لا يعملون بالكتاب والسنة بفهم السلف الصالح- إلا فيما وافق أهوائهم- بل يحاولون أن يُنشئوا فهماً جديداً يناسب العصر باسم الوسطية وفقه التيسير وفقه الواقع، ونسوا أو تناسوا قولَ الإمامِ مالك رحمه الله: (لا يُصلح آخر هذا الأمر إلا ما أصلحَ أوله(.
تحريم التظاهرات: اعلم أن هناك أمورًا كثيرة قد حدثت في زمننا هذا ليست من شرع الله في شيء، وإنما يتعلق بها أناس يجهل الكثير منهم أو يتجاهل نصوص الشرع، وآثار السلف في النهي عن المحدثات في الدين، ويعظم الخطب حينما تنسب هذه الأمور المحدثة إلى دين الله كما يفعله بعض الناس ممن يفتي في القنوات الفضائية مخالفين بذلك هدي رسول الله ، صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأمور المستحدثة في دين الله المظاهرات حيث أصبحت ظاهرة مشهودة في كثير من بلاد المسلمين وقد صدرت الفتاوى بتحريمها من قبل كبار أهل العلم وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
أما جماعتا الإخوان والتبليغ حسب فتوى ابن باز فهما داخلتان ضمن الفرق الاثنتين والسبعين المبشرة بجهنم وبئس المصير!! كما أن الإخوان وفقًا لفتوى الشيخ الألباني ليسوا من أهل السنة لأنهم يحاربون السنة!! .
السلفية إذًا لا تعدو كونها (سلفيات) بعضها ينزع إلى التطرف والبعض الآخر نشأ في أحضان النظم الحاكمة التي كانت وما زالت ترى فيهم سلاحًا ناجعًا للوقوف في مواجهة دعوات الإصلاح الديني والسياسي بعد تصنيفها في خانة البدع ، (المظاهرات) والهدف هو تكريس الإقطاع السياسي والديني الذي يراه هؤلاء ضرورة للاستقرار والاستمرار. ورغم أن الأحداث والتجارب أثبتت أن السلفية سلاح ذو حدين إلا أن ميزتها الكبرى التي أمَّنت لها البقاء والاستمرار حتى الآن، تتمثل في أنها قلَّما استخدمت سلاحها ضد العدو الخارجي، ويكفي أن نذكر أن مؤسس السلفية في مصر وقف مع الإنجليز في خندق واحد ضد ثورة 1919 مطالبًا بالعمل على تصحيح العقيدة ومنع السفور بدلًا من مناهضة الاحتلال!!!.
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha