ولِتأمل أبعاد التفويض الإلهي مفهوماً على قدر كبير من الأهمية ، لا بد من بيان أن ارتباط مفهوم التفويض الإلهي بحياة الإنسان المؤمن ارتباطاً وثيقاً ، يكون عبر بعدين : البعد الأول المفهوم الذي يتعلق بتفويض الخالق جلَّ وعلا لأهل البيت (ع) إدارة أمور العالمين. والثاني يتضمن ملامح الإيمان الحقيقي و علائمه التي ينبغي أن تكون مبنية على أساس تفويض العبد أمره لمولاه والتسليم له بشكل كامل . ويتلازم هذان البعدان ويرتبطان فلا بد أن يتحققا معاً في حياة المؤمن وعقيدته.
يجب أن يتخذ تعامل القارئ مع دعاء المعصوم طابعاً خاصاً، فالنص الوارد عنه (ع) منهج للحياة ورؤية لها، وعقيدة تؤسس للوعي الإنساني الكامل، وكل ذلك يحتم على المتلقي المؤمن أن يتجاوز السطحية في قراءته، والانفعال المتسرع غير المتزن الناتج عنها.
البعد الأول في مفهوم التفويض:
وليس من شك في زوال اللبس الحاصل في فهم التفويض الإلهي (في بعده الأول) لدى البعض إذا ما عدنا إلى قراءة ما قاله المختصون بالعقيدة والكلام(2)من أن التفويض الذي تقول به الإمامية لا يتقاطع مع معنى العبودية لله، بل هو تجسيد لمعناها الحقيقي ،لأنفعل التفويض أصلًا لا يمكن أن يكون إلا لمن محّض العبودية لله محضاً، فيختارها لله تعالى، لأنه تكامل في طاعته له وتفانى في عبادته إياه بوصفه عبدًا مخلصاً لله، وكلّما فوض إليه فهو من فيض لطفه تعالى وكرمه على عباده المنتجبين. فلا مكان لمعنى الاستقلال عن سلطة الله تعالى في مفهوم التفويض، بل هو محض التسليم والطاعة والعبودية. وهو يعني هيمنته سبحانه على الأمر وقيمومته عليه و إمضاء مشيئته في أن يفوض بعض شؤون الخلق، إلى بعض أوليائه ولكن تحت رعايته وضمن عنايته تعالى.
و هو ما وضحه الإمام الكاظم (ع) في معرض تحديده لجوهر التوحيد ، ((عن محمد بن أبي عمير، قال: دخلت على سيدي موسى بن جعفر عليهما السلام، فقلت له: يا بن رسول الله علمني التوحيد فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى ذكره في كتابه فتهلك، واعلم أن الله تعالى واحد، أحد، صمد، لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا ولا شريكًا، وأنه الحي الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغني الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذل، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وأنه لا تقدره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وليس كمثله شيء وهو السميع البصير ((ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا )) وهو الأول الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث، تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً )).(3) فليس أن الشريك لله محال فحسب بل أن فرض وجود هذا الشريك في الخارج محال أيضاً ،لأننا إذا عرفنا الله بصفته واحداً ووجوداً مطلقاً فهو يستغرق كل شيء، وتشمل إحاطته الوجودية والعلمية كل مكان. وعندما يكون محيطاً بذهننا وفكرنا واستدلالنا وحضورنا وشهودنا وقلبنا وجسمنا وكل موجودات الكون لا مكان ليصير ذلك الغير شريكاً لله(4)
وقال (ع): ((لم يزل اللّه عالمًا بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء))(5). عن علي السائي عن أبي الحسن الأول موسى عليه السلام قال: قال(ع): ((مبلغ علمنا على ثلاثة وجوه: ماض وغابر وحادث؛ فأما الماضي فمفسر، وأما الغابر فمزبور. وأما الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الاسماع، وهو أفضل علمنا ولا نبي بعد نبينا)) . وقد روى الشيخ الكليني جملة من الأحاديث في باب التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله والى الأئمة عليهم السلام في أمر الدين منها ((كتبت في ظهر قرطاس : أنّ الدنيا ممثّلة للإمام كفلقة الجوزة، فدفعته إلى أبي الحسن (ع) وقلت : جعلت فداك !.. إنّ أصحابنا رووا حديثًا ما أنكرته غير أني أحببت أن أسمعه منك، فنظر فيه ثم طواه حتى ظننت أنه قد شقّ عليه، ثم قال : هو حقٌّ، فحوّله في أديم ( أي جلد))(6)وقبل ذلك كان الإمام أبو عبد الله (ع) قد بينه في حديثه الوارد عن محمد بن الحسن الميثمي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ((إن الله عز وجل أدب رسوله حتى قومه على ما أراد، ثم فوض إليه فقال عز ذكره: ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) فما فوض الله إلى رسوله صلى الله عليه وآله فقد فوضه إلينا))
وبالفعل ، حين نتأمل الدعاء نتساءل: هل يستطيع المؤمن أن يطمئن لعمله بوصفه سبب الرحمة الإلهية ومدعاة رضا الله تعالى عنه؟ بالتأكيد يكون الجواب بالنفي القطعي لذلك، لأن نتيجة كهذه ستكون متشكلة من اعتقاد زائف بحتمية قبول العمل الصالح من قبل الله تعالى قياساً على حالات خاصة حدثت، وتغيب الحقيقة الجوهرية التي أعطاها الإمام في دعائه الدور المركزي الفاعل في صلاح الأعمال وقبولها، وهي (الولاية) . وقد عدها الإمام هنا متممة ومكملة للأعمال بل هي سبب لثواب الأعمال الصالحة والزاكية.(7)
البعد الثاني في مفهوم التفويض :
إن مناط الإيمان وعماده التوكل والتسليم، وما يتضمنه معناهما من حالة التفويض الإلهي، هو ما أكدته الآية الكريمة (( فَلا وَرَبِكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهم ثُمَّ لا يَجدُوا في أنفُسِهِم حَرجَاً مِمَّا قَضَيتَ وَيُسلِّمُوا تَسليمَاً)) سورة النساء: الآية 65 .وهو التكامل في الإيمان الذي أراد الإمام الكاظم (ع) أن يشير إليه ويوضحه في قوله : ((ينبغي لمن عقل عن الله أن لا يستبطئه في رزقه، ولا يتهمه في قضائه))(8). وما ورد عن عليّ بن سويد عن الإمام الكاظم(ع) أنه قال: سألته عن قول الله عزّ وجل ((وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)) فقال عليه السلام:((التوكُّل على الله درجات، منها أن تتوكّل على الله في أمورك كلّها، فما فعل بك كنت عنه راضياً تعلم أنّه لا يألوك خيراً وفضلاً وتعلم أنّ الحكم في ذلك له، فتوكّل على الله بتفويض ذلك إليه و ثق به فيها وفي غيرها))(9).
وكل ذلك يندرج ضمن سعي الإنسان إلى تحقيق القرب من الله تعالى ، والبلوغ في السير إليه إلى استنفاد كل القدرة الممكنة لهذا، ذلك أن حب الكمال المطلق الذي من بين ما يتفرع منه القدرة المطلقة والحياة المطلقة والإرادة المطلقة وغير ذلك من أوصاف الجمال والجلال، موجود في فطرة جميع بني الإنسان، ولا تتميز أية أمة عن أمة أخرى في أصل هذه الفطرة، رغم وجود فروق في الدرجات والمراتب. لكن الناس افترقوا واختلفوا في تشخيص الكمال المطلق وذلك بواسطة الاحتجاب بالطبيعة وكثرة الحجب وقلتها وزيادة ونقصان الانشغال بالكثرة، والتعلق بالدنيا وهمومها الكثيرة. وإنما تركه اختلاف البيئات والعادات والمذاهب والمعتقدات وأمثالها من أثر في الجنس البشري، أثر بدوره في تشخيص ما يتعلق بالفطرة ومراتبها، وأدى إلى ظهور اختلافات عميقة وكثيرة، وليس في أصلها.(10)
وأخيراً ..
ولغرض أن تتجسد خاتمية الرسالة المحمدية وعالميتها عبر إظهارها على الدين كله، كما أخبر القرآن الكريم بذلك، يجب أن تستمر إلى آخر الزمان وتستعين بمن خبروا الغيب كله، وهم الأئمة الذين اصطفاهم الله تعالى للقيام بهذا الدور . ومن هنا يكون تأكيد الإمام (ع) على معنى التفويض مبنياً على استشعاره في أعماقه وارتباط مفردات حياته بأبعاده، ولذا يكرر بإلحاح الداعي وطلبه المتضرع لله على تجليات التفويض ومصاديقه، حتى نهاية نص الدعاء(11):((اللهم توسلي إليك بهم، وتقربي بمحبتهم، افتح علي رحمتك ومغفرتك وحببني إلى خلقك، وجنبني عداوتهم وبغضهم، إنك على كل شيء قدير. اللهم ولكل متوسل ثواب، ولكل ذي شفاعة حق، فأسألك بمن جعلته إليك سببي، وقدمته أمام طلبتي أن تعرفني بركة يومي هذا وعامي هذا وشهري هذا ( اللهم ) فهم معولي في شدتي ورخائي وعافيتي وبلائي ونومي ويقظتي وظعني وإقامتي وعسري ويسري وصباحي ومسائي ومنقلبي ومثواي ( اللهم ) فلا تخلني بهم من نعمتك ولا تخيبني بهم من نائلك ولا تقطع رجائي من رحمتك ولا تفتني بإغلاق أبواب الأرزاق وانسداد مسالكها وارتتاج مذاهبها وافتح لي من لدنك فتحًا يسيرًا واجعل لي من كل ظنك مخرجًا وإلى كل سعة منهجًا برحمتك يا أرحم الراحمين.)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
(1) بحار الأنوار : العلامة المجلسي – ج ٩١ – الصفحة/ 182 ـ 184
(2) ينظر: التفويض الإلهي: السيد محمد علي الحلو (نسخة إلكترونية)
(3) التوحيد : الشيخ الصدوق :96
(4) التوحيد في القرآن : سماحة آية الله الشيخ جواد ي آملي: 188
(5) الكافي: الشيخ الكليني: ١ : ٨٣ / ٤
(6) السابق نفسه : 145
(7) ينظر : الحياة العرفانية للإمام علي (ع)، العلامة الشيخ عبد الله الجوادي الطبري الآملي:95
(8) تحف العقول : 408
(9) الكافي:ج 2/ 65.
(10) شرح حديث جنود العقل والجهل: الإمام الخميني
(11) بحار الأنوار : العلامة المجلسي – ج ٩١ – الصفحة/ 182 ـ 184
(مجلة ينابيع / العدد 59 )
اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
https://telegram.me/buratha