إن أئمة أهل البيت(ع) كانوا نموذجاً يقتدى بين الناس.. كل الناس المؤمنين , وقد شهد لهم المسلمون والمنصفون من غير المسلمين بالفضل والعلم والعبادة , والزهد والكرم والشجاعة , وتفرّدَ شيعتهم باعتقادهم اليقيني بإمامتهم وعصمتهم .
كانوا أصحاب رسالة وتكليف إلهي لهداية البشرية إلى الإيمان بالتوحيد والعدل والاستقامة , كلٌ حسب وقته , ووفق الطريقة التي يحقق بها مهمته ويترك آثارًا إيجابية تديم الصلة بالله وبالمجتمع , وكانت مهمة الحفيد الأول المعصوم لأمير المؤمنين(ع) وسميّه الإمام علي بن الحسين السجاد(ع) نفس مهمة أبيه وجدّه(ع) .
ولد الإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليه السلام) في السنة الثامنة والثلاثين من الهجرة النبوية , فحظي برؤية جدّه سيد الوصيين أمير المؤمنين(ع) , وترعرع في كنف والده سيد الشهداء (ع), ووعى فترة إمامة عمه الحسن(ع) وأحس ببعض معاناته ومعاناة أهل بيت النبوة وشيعتهم , وكان القدر قد حكم عليه بأن يعيش فاجعة كربلاء بكل تفاصيلها , وامتد به العمر إلى سنة خمس وتسعين فكانت إمامته أربعاً وثلاثين سنة عاصر فيها عتاة بني أُميّة : يزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك .
لقد كانت كربلاء أهم محطة في حياة الإمام السجاد(عليه السلام) , وكان في أثناء المنازلة عليلاً ضعيفاً فلم يشارك في القتال . هكذا قضت حكمة الله تبارك وتعالى للإبقاء على مسيرة الإمامة بحفظ شخص الإمام .
والحديث عن معاناة الإمام السجاد(عليه السلام) في كربلاء ولقائه قادة الجريمة وأجلاف المحاربين حديث ذو شجون وهو المأساة بكل معانيها , وقد أثر في نفسه(ع) وأطّرها بالحزن , ومع ذلك كان القوي المحتسب , المهيأ لتحمل الأعباء , لا يتراجع أمام الظروف الصعبة ولم يحفل بتتابع الملمات , وهو الامتداد الطبيعي لآبائه ولجدّه رسول الله(ص) فهو صاحب رسالة وعليه أن يختار الطريقة التي يوصل بها تلك الرسالة إلى الناس . وكان قدره أن يستعيض عن الجهاد بالسيف لعدم توفر مستلزماته – وهو ما يسمى بالجهاد الأصغر – بالجهاد الأكبر , جهاد النفس ؛ وهو فارس ميدانه والمثل الأعلى لتكامل أركانه , فقد تكاملت في روحه الطاهرة كل صفات الكمال الانساني , وعصَمتْه الإرادة العليا من كل نقص , ووجد في نقل كمالات الدين والخلق الرصين المستند إلى الحكمة والتقوى والأمانة , التي تشكل جانباً فاعلاً في سيرته ونشاطاته اليومية , إلى المجتمع لتحقيق ما يمكن من الرسالة التي صدع بها جدّه سيد المرسلين(ص) وآمن بها وجاهد من أجل حمايتها جدّه أمير المؤمنين(ع) واستشهد من أجلها عمه المجتبى(ع) ثم أبوه سيد الشهداء(ع) ومن معه في كربلاء .
لقد وجد فيها الوسيلة الأنجع لتحقيق الأهداف في ظل حكم جائر مستبد , وضع كل الموانع وجنّد زبانيته للرقابة وإحصاء الأنفاس على كل من تعرّض لسلطان آل أبي سفيان , فكان كلام الإمام سيفاً والدعاء درساً وتقويم السيرة والسلوك جزءاً من المهمة الإصلاحية .
وقبل الولوج إلى أدوات الجهاد التي استعان بها الإمام السجاد(ع) يجدر بنا الإشارة إلى كيفية وثوق المجتمع – المتدين بدين ملوكه , والمتردد بين طاعة مغريات الدنيا والاعتقاد بحساب الآخرة – بصواب دعوة الإمام إلى الصلاح والسير على نهج الشريعة المقدسة , فتلقّى كثير من الناس أفكاره بالقبول , واستمعوا إلى توصياته باهتمام , ووجدوا فيه المثال الأمثل للمسلم المؤمن الورع التقي الحليم (( يقابل السباب بالإغضاء , والاعتداء بالتسامح والجرأة بالتغافل والعنف بالتفاهم حتى قيل له : الله أعلم حيث يجعل رسالته , وحتى استمع إلى من يقول : إنّك من أولاد الأنبياء )) .
واختار الإمام السجاد(ع) لغة الوعظ والإرشاد , والبث بطريقة (( إياك أعني واسمعي يا جارة )) فصاغ ما يريد إيصاله إلى العامة بالدعاء الذاتي مخاطباً ربّه بقوله(ع) : ((اللهم أنت المدعو وأنت المرجو , رازق الخير وكاشف السوء , الغفار … يا كاشف الكرب ومذلل كل صعب ومبتدئ النعم قبل استحقاقها , ويا من مَفزَع الخلق إليه , وتوكلهم عليه , أمرت بالدعاء وضمنت الإجابة , فصلّ على محمد وآل محمد , وابدأ بهم في كل خير , وأفرج همي , وارزقني بردَ عفوك وحلاوة ذكرك وشكرك وانتظار أمرك … ))
وحين تَعْرضُ له مهمة أو تنزلُ به ملمة يقول : (( يا من تُحل به عُقد المكاره , ويا من يُفثأ به حد الشدائد , ويا من يُلتمس منه المخرج إلى روح الفرج , ذلّت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب .. فصلّ على محمد وآله , وافتح لي يا رب باب الفرج بطَولك واكسر عني سلطان الهم بحولك , وأنلني حسن النظر فيما شكوت , وأذقني حلاوة الصنع فيما سألت , وهب لي من لدنك رحمةً وفرجاً هنيئاً , واجعل لي من عندك مخرجاً … )) .
لقد عاش الإمام علي بن الحسين السجاد(ع) في فترة تتقاطع تماماً مع ما نزل به القرآن المجيد وصرّح به الرسول الكريم(ص) , فقد جاء في الذكر الحكيم : (( لا ينال عهدي الظالمين)) فهل هناك أظلم من أحفاد أبي سفيان ومروان وأولاده الذين عاثوا في الأرض فسادًا , فحرّفوا السنّة واستباحوا الحرمات وأذلوا المؤمنين وسفكوا الدماء بدون وجه حق . وقال فيهم رسول الله(ص) كما حدّث بذلك الإمام الحسين(ع) : (( لقد سمعت جدّي رسول الله(ص) يقول : الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان )) ولكنهم أخذوها بالغدر والقهر وشراء الذمم , وإيهام البسطاء وتضليل العامة وتفريق الصفوف , واستغلال مقتل الخليفة الأموي عثمان بن عفّان والدعوة للثأر من قاتليه , ثم كان حكم يزيد بن معاوية الذي شكّل وصمة عار في جبين الدولة الأموية , ولم يكن حكم مروان بن الحكم وأولاده أقل إساءة للعرب والمسلمين …
في مثل هذه البيئة المريضة وغياب العدل كانت فترة إمامة علي بن الحسين(ع) , ولم يُعدم الوسيلة التي تحقق له ما يمكن تحقيقه من الإرشاد إلى الصراط المستقيم , وكشف سلبيات المستبدين وتحفيز الأحرار للتمرد على السلطة الجائرة وتهيئة عوامل الانهيار, فيتوجه بالدعاء إلى الله تعالى قائلاً : ( … اللّهم قد قصدت إليك بطلبتي , وقرَعتْ بابَ فضلك يدُ مسألتي , وناداك بالخشوع والاستكانة قلبي … اللهم وقد شملنا زيغ الفتن , واستولت علينا عشوة الحيرة , وقارعَنا الذل والصَغار , وحكم في عبادك غير المأمونين على دينك , فابتزَّ أمورَ آل محمد من نقض حكمك وسعى في تلف عبادك المؤمنين , فجعل فيئنا مغنماً , وأمانتنا ميراثاً , واشتُريتْ الملاهي والمعازف والكبارات بسهم الأرملة واليتيم والمسكين , فرتع في مالك مَن لا يرعى لك حرمة , وحكم في أبشار المسلمين أهل الذمة … اللهم فأتِحْ له من الحق يداً حاصدة … )
وكان الملحظ السياسي عصيباً على الإمام , وكانت وطأته بعيدة الأثر إذ عطّلت دوره القيادي .. فكان في رقابة منعته توجيه الحياة الإسلامية كما أراد لها الله تبارك وتعالى . فالإمام معطّل في ظل إرهاب دموي طائش وحكم عشائري متسلط , فلجأ الإمام إلى أساليب جديدة في الدعوة والدعاء , والتزم الصمت السياسي ظاهراً ودأب إلى الإصلاح الاجتماعي … فابتكر من الظواهر الفكرية أبعاداً جديدة أدّى بإزائها واجباته .
وسنحت للإمام فرصة عندما انشغل الحزب المرواني بالحزب الزبيري واتسعت رقعة الأزمات السياسية , فاستغل الإمام الظرف وتفرغ لمسؤوليته العلمية , فأفتى وفسّر ودعا وشرّع وبيّن وأعرب , وحدب على مجموعة من تلامذته ييسر الأحكام ويفسر القرآن ويفقّه المتعلمين, وكان مجموع تلامذته في شتى الفنون والعلوم :مائة وأربعة وستين تلميذاً .
لقد تمكن الإمام(ع) من تثبيت الأُسس للإصلاح الاجتماعي والالتزام العقيدي , فترك إلى جانب الكنز الثمين من الدعاء , سيرته الذاتية التي حمته من سطوة الجبارين . كما ترك الوثيقة الأخلاقية والتربوية الرائدة والتي سميت برسالة الحقوق , وقد اشتملت على خمسين حقاً , رسالة رسم الإمام فيها معالم الشخصية الصالحة التي ينشدها الإسلام ويتبناها .
ولا نريد هنا تكرار ما كتبه السابقون عن أخلاق الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد(ع) وعبادته وتقواه , فهو من أئمة أهل البيت(ع) الذين أجمعت الدنيا على تميّزهم بالكمالات , وقال العارفون فيهم ما لم يُقل في غيرهم من الانفرادات والسمو في عالم القداسة , ويكفي أن نستشهد بقول الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري : (( والله ما رؤي في أولاد الأنبياء بمثل علي بن الحسين .. )) وقال الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز : (( سراج الدنيا وجمال الإسلام زين العابدين )) وقال الفرزدق الشاعر عندما أثار احترامُ الناس في الحج للإمام زين العابدين(ع) وانفراجهم له عن الحجر الأسود , اهتمام شامي في الوقت الذي لم يفعل الناس مثل ذلك لهشام بن عبد الملك– قبل أن يستخلف – فسأل هشاماً عنه , فأجابه : لا أعرفه . فقال الفرزدق : أنا أعرفه , وأنشد قصيدته الخالدة , ومنها :
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأتَه
هذا ابن خير عباد الله كلِهم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها
والبيت يعرفه والحل والحرمُ
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم والقصيدة معلّقة ذهبيّة ونادرة أدبية , وشهادة لا تقبل النقض لصدق محتوياتها وإحاطتها بأعلى مراتب الكمال والسؤدد الذي عُرف به الإمام زين العابدين(ع) . ((وتقع في واحد وأربعين بيتاً)) .
نعود إلى رسالة الحقوق لنقف عند بعض فقراتها التي تمثل الدروس الواجب الالتزام بها لكل مسلم صادق الإيمان . وأولها : حق الله : فإنك تعبده ولا تشرك به شيئاً .. ثم حق النفس : وعليك أن تستوفيها في طاعة الله .. وحق اللسان بإكرامه عن الخنى وتعويده على الخير وحمله على الأدب . وحق السمع بتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك إلا لكريمة أو كسب خُلق كريم . وحق البصر , فغضه عما لا يحل لك . وحق اليدين بأن لا تبسطهما إلى ما لا يحل لك , ولا تقبضهما مما افترض الله عليهما . وحق الرجلين بأن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك . وحق البطن بأن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام ولا لكثير وأن تقتصد له في الحلال .. وحق الفرْج بحفظه مما لا يحل لك والاستعانة عليه بغض النظر . وحق الصلاة بأن تعلم أنها وفادة إلى الله وأنك قائم بها بين يدي الله .. وحق الصوم بأن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النار .. وحق الهدي والحج : فريضة عبادية على من استطاع , ولها طابعها السياسي والمالي والبدني . وحق الصدقة بأن تعلم أنها ذخرك عند ربك , وحق الزوجة بأن الله جعلها سكناً ومستراحاً وأنساً وواقية .. وحق الأُم وحق الأب وحق الولد وحق الأخ .. وإلى مختلف الحقوق المتصلة بالمجتمع .
وتحت عنوان (( مبادئ الإمام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان )) يقول الأستاذ الدكتور محمد حسين الصغير ما هذا مختصره : ( الإعلان العالمي يتكون من ثلاثين مادة .. ويتضمن حقوقاً عديدة – مدنية , سياسية , اقتصادية , اجتماعية وثقافية . وقد حفلت المواد الثلاثون بحقوق الجانب المادي من الإنسان وأغفلت بشكل متعمد لا يليق , الجانب الروحي من الإنسان , وبذلك اعتبر الإنسان آلة جامدة .. بينما نجد رسالة الحقوق عند الإمام تعالج الجانب المادي إلى جنب الجانب الروحي , وتجعل من الإنسان ذاتاً متكاملة في معيار الوعي والتفكير وشؤون الحياة . كما أن الإعلان العالمي يفرّط بمبادئ كثيرة في الصميم من حياة الإنسان العامة كالعلاقة بين الآباء والأبناء والزوج والزوجة وحقوق الجار والرحم والصديق , وفي البر والإحسان والصدقات والتجارة والمعاملات والحب والمودة وحقوق الجوارح وأداء الطقوس الدينية والشعائر المقدسة , فهي وإنْ أشارت إلى شيء من بعض هذه المبادئ فإشارتها عابرة ..
توفي الإمام السجاد علي بن الحسين زين العابدين(ع) في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام سنة 95 هجرية , مسموماً بإيعاز من الحاكم الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان , ودفن في بقيع الغرقد مع عمه الإمام الحسن بن علي(ع) , وقد هدم الوهابيون قبره وقبور بقية أئمة أهل البيت(ع) . _________________________________
1/الشيخ المفيد / الإرشاد ص317 .
2/الدكتور محمد حسين علي الصغير / موسوعة أهل البيت الحضارية – الإمام زين العابدين ص30 عن صفوة الصفوة 2 : 54 والبداية والنهاية لابن كثير 9 : 105 .
3/ السيد محسن الأمين العاملي / الصحيفة السجادية– الدعاء 49 ص 128-129 .
4 /علي محمد علي دخيّل / السلسلة الشهرية في الأئمة الاثني عشر – الإمام علي بن الحسين ص93 .
5/سورة البقرة الآية 124 .
6 /إبن طاووس / اللهوف في قتلى الطفوف ص11 .
7 /السيد محسن الامين العاملي / الصحيفة السجادية الخامسة / الدعاء 31 ص 90-92 .
8 /الدكتور الصغير / المصدر السابق ص18-19 .
9/المصدر السابق ص20 عن الشيخ باقر شريف القرشي / حياة الامام زين العابدين 2 : 329 .
10/السيد عباس علي الموسوي / رسالة الحقوق ص13 .
11/علي محمد علي دخيل / المصدر السابق ص107 عن البحار 11 : 19 .
12 /المصدر السابق ص108-109 .
13المصدر السابق ص118-123 عن الأغاني والحلية والحماسة .
14/ السيد عباس علي الموسوي / رسالة الحقوق – ط 9 2010م .
15/الدكتور محمد حسين الصغير / المصدر السابق ص327-329 .
https://telegram.me/buratha