حافظ آل بشارة
كلما تراجعت اخلاقيات الحوار تضاعفت شحنة المثالية في دروسنا السياسية والفكرية ، مثاليات مسكرة في قاعة الدرس ، تعريف الحكومة نظريا يبعث على الجنون ، مدرس بنظارة سميكة يحمل كتابا مصفر الاوراق تقافزت على شفتيه اسماء تأريخية مثل : ابن خلدون ، الفارابي ، الغزالي ، وآخرون ، ينظر في فراغ ويتحدث مثل شاعر ، المبادئ النظرية حول الحكم والحاكمية تلامس قلوب الشبان الحالمين وتجعل الاستاذ المتحفي يهيم في عوالمها ، قال ان الحكومة من أقدم المؤسسات في حياة البشرية ،
وقال كلمات أخرى خطيرة ملخصها أن شكل الحكم يؤثر في المحكومين وينعكس على أمزجة وأخلاق البشر ، فالناس على دين ملوكهم ، اذا كان حكام أي بلد فاسدين سوف يقلدهم المجتمع ويكون مثلهم ، فاذا هلك الحاكم الفاسد وحل محله حاكم عادل سيكون أول اعداءه رعيته التي بين يديه ، يذيقونه الأمرين ويملأون قلبه قيحا ، الطلاب في القاعة يحلمون بمثاليات السياسة والمدينة الفاضلة الهادئة الثرية التي تغفو في سلام ووئام ، فاذا انتهى الدوام وخرجوا من القاعة الى الشارع عاجلتهم الصدمة وابتلعهم الازدحام والضجيج ونقاط السيطرة واكوام النفايات وأفواج المتسولين والمتسولات ، والباعة المتجولون والمعارك الصغيرة والسباب والشتائم ، والعواصف الترابية والحدائق التي تلفظ ازهارها الأخيرة عطشا واهمالا ، والأرصفة التي تتهدم فورا تحت أقدام المارة بسبب عقد اعمار مغشوش . المشهد الثاني ليس في الشارع بل على الشاشة حيث تحدث الصدمة الثانية بسبب اتساع الهوة بين المفهوم والمصداق ، فمن خرج من محاضرة ذلك الاستاذ الحالم يبقى لساعات سكرانا بالمعاني السامية لوصف الاكاديميين والمدرسين الاوائل وتعريفهم للحكومة بأنها هيئة للخدمة العامة تكتسب شرعيتها من تأييد الشعب ،
هكذا بكل بساطة ، الشاشة المحلية ساحة لمعارك صادمة بين قوم يصطرعون على موقع الخدمة العامة ، ولشدة الحرب ينسون اصل القضية وهو المواطن ، فلمن تقدم الخدمة العامة ؟ مثلهم كمثل رجال يتنافسون على ايصال الماء الى شخص يكاد يموت عطشا ، فيتنازعون قدح الماء حتى ينسكب على الأرض وان سألتهم قالوا صحيح ان الماء قد تبدد والعطشان مات لكن نوايانا كانت خيرا في خير ونحن لنا أجر والميت له أجران ونرجو اغلاق الموضوع لانه يثير الفتنة والفتنة أشد من القتل ، كثير من ارباب السياسة يواصلون صراعهم الجماعي لأجل السلطة وليس لتقديم الخدمة لأحد ، الملف الاكثر حيوية الآن في بلادنا هو ملف تشكيل الحكومة وما يحيط به من نزاعات ومماحكات ، وغيبة وبهتان وافك اعلامي ، بعضهم يفهم التعددية السياسية بأنها عبارة عن الظهور بعدة وجوه والتحدث بعدة السنة ، من يريد ان ينجو من الصدمات المدمرة ما بين نظرية الاستاذ وفوضى الشارع أو معارك الشاشة ، فعليه ان لا يخرج من قاعة الدرس ، وينام بين الكراسي بعيدا عن الواقع بانتظار المحاضرة القادمة التي يلقيها ذلك الاستاذ المتآمر .
https://telegram.me/buratha