المقالات

بمناسبة حلول عاشوراء سنة 1432هـ رؤى حسينية دامية من وحي كربلاء

1341 12:14:00 2010-12-07

* طالب عباس الظاهر

[ لا يقاس الحسين (ع) بالثوار، بل بالأنبياء، ولا تقاس كربلاء بالمدن، بل بالسماوات،ولا تقاس عاشوراء بحوادث الدهر، بل بمنعطفات الكون ]"هادي المدرسي"

أدرك جيداً بأني لم أخرج إلى سِفري هذا،رادماً هذي الهُوة من البعد،المستطيلة - رغماً عني- مابين إستذكارين...راحت تتمدد ما بينهما سنوات الأحزان كحقب من مأساة أو دهور من الفراغ في كهف مسحور،وقاطعاً دابر مسافات الشوق الشاسعة،ووهاد الحنين الفسيحة ،الممتدة دون إرادة مني مابين النبضة والنبضة في اختلاجات دمي،والشهقة والشهقة باهتياجات دمعي،أقول ما جئت لمجرد زيارة مرقد إمام معصوم،بل سبط رسول الله تعالى الأكرم فحسب- وإن يكن هذا وحده لا ريب مدعاة شرف- لاسيما مع إدراكي يقيناً بأنه قد أستشهد منذ أربعة عشر قرناً تقريباً من عمر هذه الحياة،بيد إني قصدت القراءة ومحاولة الإستقراء لما بين سطور نهضته الإلهية،بالسمع والبصر والفؤاد، بعدما علمت بأني غداً عنهم أمام ربي مسؤولا،وهي بلا شك الغاية الأسمى من وراء زيارة ضريحه المبارك،لكل عاشق ومحب ومريد،أو حتى لمن جاء يستحثه الفضول لمعرفته أكثر،وكي أعيشه بكل حواسي،ومن ثم أحيا وقائع ملحمته (واقعة ألطف الخالدة)،وأتعايش مع أجوائها الدامية،وبعزم وإصرار لم أجربهما من قبل،وبلحظة صفاء ذهني قل نظيره،رغم توكئي عكازة حزن قديم، قدم ترسب الألم، وتصاعد تلول بيادره في كياني عبر تعاقب مواسم الجدب والحرمان،وباستمرار هذا السريان المستطيل للوجع بي دونما نهاية..دونما بداية،ومُـذ أدركت تعرجات خطوط القبح،وقسماته النشاز في وجوه الظلم،ببشاعته ودمويته المتفشي في هذا العالم،ومع استمرار تفتح مداركي أكثر فأكثر،وهو يكشّر عن وحشية أنيابه السوداء الشرسة،وبدأت أرزح تحت ضغط أحمال تعب متزايد، وتخمة جسد مازلت أنوء تحت ثقل وطأته،وألمٍ لذيذ مازلت أحمله حيناً،ويحملني في أحيان أخرى،أتعثر،أسقط،أنهض،لكنّي مازلت أغذّ السير على عجلٍ،لإدراك الوسيلة..وسيلة التقرب إلى الله تعالى، بجاه الحسين ووجاهته،وكذا من أجل التطهر من أدران الآثام، وغسل الذنوب،والتخلص من عظيم خطايا، قبل تكلسها بي بالتطبع..بعدما تعودت النظر إلى الذنب ذاته،بعيداً عن إدراك لمن أتحدى فيه،سبيلاً إلى إزاحة رين سنيّ الاغتراب بذاتي، وتراكم صقيع الوحشة فيها،فأهيئ نفس للحضور البهي من أزمنة الغياب،ببريق الصبح المشرق من عتمة ظلم النفس للنفس، ناهيك عن ظلم الآخرين، والبزوغ من ظلام الغفلة والنسيان؛من أجل الكينونة بروحي،لا في رداء جسدي الخلق هذا..العابر خطفاً قنطرة السنين،أجل..لكي أكون بكلّي،عند حضرة الطهر لقضية عظمى،مافتئت تسطع،فألمس عن كثب جسامة تضحيات الحسين عليه السلام ،وأهل بيته وصحبه،باستحضارها الذهني،وتمثلها في ذاكرتي،ولكي أرزق توفيق المسّ لتداعيات تلك النهضة الإلهية المباركة،وأدرك سرّ سيرها عكس نواميس الزمن الجارية في الأشياء والأحداث،وأفك شفرة استمرارية سطوعها على مرّ الحقب والأجيال، ولا سيما وقد راحت تجليها العصور،بينما أفل وسيظل يأفل سواها من الوقائع، مهما كانت ضخامته وماهيته،ثم تجرجره أيادي العفى سريعاً صوب النسيان، ورغم إن الدهر لم يقدّر تلك النهضة حق قدرها حين وقوعها..بل مازال لم يدرك بعد، ولن يدرك كل مديات عظمتها،كفاجعةٍ لا نظير لها في التاريخ الإنساني على هذه الأرض، رغم كونها مجرد ساعات أو دقائق كونية فريدة،عدّت أثقل من مسيرة أجيال،وتعاقب قرون، فغدت بحق فوق حسابات الزمن التقليدي،ولكنها بقيت تحت مستوى الإعجاز الإلهي،منذ هبوط أبانا آدم،ولحد آخر ولد من نسله،إذ لم تحدثنا الصحائف،منذ فجر التاريخ البشري عن واقعة إلاّها،أبكت وقائعها الأليمة ملائكة السماوات،وسكان الأرضين،وما فوقهن وما تحتهن، بدل الدمع دما،ورغم مضي تلك الألف والأربعة مائة من السنين تقريباً على وقوعها،في طرف صحراء أرض،يقال لها كرب وبلاء، ورغم توجيه ماكنة إعلامية ضخمة،ومأجورة ضدها،للتعتيم عليها،وتشويه معالمها، كانت وحدها - لا ريب - كافية لتطمس تاريخ أمة بكامله،وليس مجرد شخص أو معركة قلة قليلة مع كثرة متكاثرة،بيد إنها ما زالت،رغم قسوة تلك الظروف القاهرة وسلطتها،وسلطان هذه الفاصلة الزمنية الشاسعة؛ تتفاعل في عمق ضمير الأمكنة والأزمنة،لكأنها تحدث للتو في كل سنة..مجددة الآلام في الضمائر والأفئدة مع تجدد الأيام،في فصل خامس مضافاً للأربعة فصول المعروفة من السنة الهجرية،سميّ من دون اتفاق سابق أو لاحق(عاشوراء) موسم الأحزان،ولعل وهج إشعاعات هذا الفصل بطقسه ومناخه الخاصين،قد غطى على الفصول جميعاً،فضلاً عن تحرره من قيد الجغرافية أو أسر المكانية، حتى قيل: (كل أرض كربلاء وكل الزمن عاشوراء)،وهاهي أدق تفاصيل الواقعة ولم تزل،حيـّة في النفوس بحوادثها،تنبض بدفق التبرعم، ونضرة الاخضّرار، فلا يعيقها عائق،وإن جاءت في أوج صقيع الشتاء القارس،أو قمة لضى هجير الصيف اللاهب،فتحيا أبداً كربيع حزن دائم، يمتد..ويتنامى..ويعشوشب غابات شجونٍ متشابكة في عمق ضمائر ملايين العشاق،الذين كانوا ولازالوا يزدادون يوماً إثر الآخر،فراحت تسمو كربلاء، وتفترش بظلالها الوارفة أرجاء الكون من أدناه إلى أقصاه،كون نقاء معانيها وصدقها وإخلاصها، تتعايش في مكنونات النفس الإنسانية،بغض النظر عن جنسها ولونها وقوميتها وديانتها و...و...و،عبر تتناغمها مع فطرة الإنسان السليمة التي فطره الله تعالى عليها،من حيث إنه إنسان،لا يمكن له،إلا التعايش وجدانياً مع تراجيديتها يومياً وتفصيلياً،وقد لا أبالغ إن قلت،لحظة بلحظة،وأنّة بأنّة،ودفقة بدفقة في أدق أحداث وجوده،وصراعاته، واستمراره في هذه الحياة.أجل،فإن كربلاء في حقيقة أمرها ليست مجرد أسم لعلم بارز...بقدر كونها ديناميكية حركة فعلٍ،وحرارة قضية حاسمة،مازالت تتفاعل لحيويتها مع الأزمات،ولعلها تختصر جميع قضايا الحياة الدنيا برمتها،وتنبئ عن منهج إلهي متكامل، يختزل المناهج جميعا..لا بل وتختزل مختصرة ما بعد الحياة أيضاً،وربما تستطيل التعاريف وتمتدّ،وتتشعب مع توسع المفهوم من دون بلوغ الغاية...وبكلمة واحدة فإنها الفاصلة مابين الحقيقة والزيف،والحياة والموت،والخلود والعدم،لاسيما وهو القائل سلام الله عليه في عاشوراء قولته الشهيرة:(إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما) التي قلبت موازين معرفةٍ مألوفة في أذهاننا...حينما ربط الموت بالسعادة!، والحياة مع الظالمين بالبرم، أي بالضجر والملل، بل ووحشتها وتفاهتها حينما لا يؤمر فيها بمعروف ولا يتناهى عن منكر،سعادة حقيقية بمنطقٍ إلهي ينبئ عن رؤيته المتكاملة للأشياء والأحداث،لكنه - أي هذا المنطق- بالضرورة سيظل غريباً على افهامنا القاصرة،خاصة حينما يأخذ الإنسان فينا الشطط، ويغيب عنه هدف خلقه ووجوده المنشود،وبالتالي تفقد الحياة لغايتها المرسومة،وجدواها،وأسباب استمرارها،وتسقط في فخ العبثية،والعدمية، واللاجدوى،وتظل أسيرة النظرة الضيقة المحدودة الأفق،التي لا ترى أبعد من ناظرها شيئا،ويالها من مفارقة حياتية مبكية مضحكة، حينما يصيّر الباطل حقا والحق باطلا، لا بل ويؤمن النواصب بها تمام الإيمان، ومازال بعض المغرر به يسير على ذات النهج للآن،وعندما تقتنع مثل هذه الحياة ولو للحظة واحدة،بأن الحسين عليه السلام إنما هو الخارج على حكم إمام زمانه وطاعته، الطاغية يزيد الفاجر..شارب الخمور، وقاتل النفس المحرمة،نتيجة تركيب الجهل في الأمة، وخلط الأوراق في أذهان العامة من الناس،ليتسنى تسويق الجريمة وتمريرها عليهم،ومن ثم يحين أوان الأدهى والأمرّ والأقسى،حينما ينطلي عليهما،أعني الحياة والإنسان،زيف مثل ذلك الشعار القائل:إن الحسين،إنما قتل بسيف جده رسول الله صلى الله عليه وآله..!! ولكي لا يستمر مثل هذا الانحراف،ويتأصل في النفوس تلك،ويمدّ جذوره عميقاً في الأرض؛قام الحسين منتفضاً لاقتلاعه،والقضاء المبرم عليه،بروي شجرة الحق الآيلة إلى اليباس بفيض دمه، لتحيا وتنمو من جديد،فكانت واقعة الطف على رمضاء كربلاء،ولم يزل دمه الزاكي سائر في ذات النهج وسيبقى؛فلولاه لما كان هناك في أذهان الناس رب يعبد،ودين يحكم بينهم،أو يرفع أذاناً فوق منائرهم إذاناً لإقامة صلاة،وقيام شعيرة من شعائر الله تعالى،وكيلا يكون الشاهد على مثل هذا العوج الفكري المفضوح؛فضّل أن يكون شهيده من أجل الإصلاح في امة جده،وإن يكن بعد حين ولسوف يؤجل قطف ثمار تضحيته بدمه الطاهر ودماء أهل بيته وأصحابه،حيث تجسدت في متون ملحمته الخالدة تلك كل أصول الدين وفروعه، بما مثلته وتمثله من صراع أزلي مابين الحق والباطل،الممتد بسلسلة الأحداث،الآخذ بعضها بأعناق البعض الآخر،منذ وقوع جريمة التاريخ الأولى على الأرض إلى يومنا الحاضر، بل وإلى قيام الساعة،فإن كان للباطل بهذه الحياة الدنيا جولته وصولته؛ فللحق لابد هنالك صولات وجولات.ففي النهاية فإن(القابيليون) مافتئوا يقتلون شر قتلة (الهابيليين) منا،و(اليزيديون) مابرحوا يذبحون(الحسينيين) فينا أيضاً،إلى أن يأذن الله في آخر الزمان للمهديين أن يمحقونهما معاً في ختام منازلات التاريخ الإنساني،وحسم قضية صراع الأضداد الأزلي فينا مابين الحق والباطل،وختم تناوب الأدوار بينهما..بنصر هنا،وانكسار وانتكاسة وخسارة هناك..ثم تتلوها هزائم، حين إستطالة آماد الجور والطغيان، لكي يأزف أوان النهضة الكبرى..نهضة قائم آل محمد،وصاحب الزمان (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بالانتصار المبرم على الباطل وجنوده،ليعود السلام جديداً،ويعمّ ربوع الأرض، بجولة الحق وصولته.بيد إن حق الحسين وحقيقته - مع الأسف الشديد- مازالتا في غربة بيننا،رغم كل ما نسمع من زعيق أجوف،يصكّ بتبجحه الأذان...أي مازالا يقبعا في واقع الحياة هذه مابين إجحاف الأحباب،ومناصبة الأعداء وظلمهما،وهي حقيقة لابد من الاعتراف بها،تمهيداً لتجاوزها،كما وإن شمر العصور مازال أيضاً يذبحهما فينا من الوريد إلى الوريد،على مرأى ومسمع منا جميعا من دون أن نحرّك ساكنا في القيام بجدية لنصرتهما،أو على أقل التقادير،الإيفاء باستحقاقات ما ألزمنا به أنفسنا بـ(يا لتنا كنا معك ) رغم إنّـا كثيراً ما نجري- على حين غفلة - حروف أمنيته،أعني هذا الشعار عبر لقلقة ألسنتنا،بينما نظل هنا أبداً قاعدون..!

*** *** ***إذن وبعد طول سفر،ورحيل واغتراب عبر وعثاء طريق الشوق الآسر،هأنـذا أصل قرب ضريح الحسين الخالد في آخر مطاف الرحلة الشاقة،فيواجهني مشهده الشامخ، وإذا بي إزاء صرح عظيم شاخص ما بين الأرض والسماء كرواسي الجبال،قابع على الأديم بكل ثقله وعظمته التي تفوق التصور والخيال، وقبالة أثر كوني مهيب، وهو يشير بالسبابة والوسطى نحو نقاء الطهر والعفة،وفضاءات الإخلاص المطلق لجلال الخالق،وعظيم رحمته بعباده،ويومئ إلى سمو قدر الحق وأهله في السماء،فضلاً عن رفعتهما على الأرض،فأقف عند أعتابه وجلاً،لأروّي ظمأ عشقي الصوفي من فيض سلسبيل مائه،وألتهم من أكسير زاده وزوّاده مؤونة لسفري الطويل المضني القادم لا محالة إن لم يكن اليوم فغداً أو بعده،برحيلي الآتي صوب الآخرة،ولكي أشبع جوعي الروحي ذاك الآكل أبداً بخوائي،المتأصل بذاتي في الحياة،والضارب بجذوره في عمق كياني،والمتوحد مع تاريخ الأسى على هذي الأرض،فيرفرف بين ضلوعي طائر حنيني الأخضر،ولم أشعر؛ إلا وخطاي تسحبني برفق وهدوء ووقار،وأجدني جوار السور الخارجي للصحن المطهر، المطرز بالنقوش والزخارف البنائية البديعة،المستقية من العمارة الإسلامية معانيها، متهيئاً للدخول إليه،وتجرّني إلى أقرب باب من أبوابه مما صادفني،ورويدا..رويدا أحاول الدنو بحذر من باب القبلة الواسع جداً،وقبل الولوج إلى الداخل عبر العديد من العتبات العريضة،المفروشة بالنفائس من السجاد،والمفضية إلى أرضية الصحن المطهر،والنازلة إلى الرواق الداخلي،المؤدي إلى الضريح المقدس،الرابض هناك كالقلب وسط احتضان الأضلاع،وتشابكها حوله كالأصابع،أتوقف للحظات برهبة، أتسمّر في مكاني مشدوهاً عند أول العتبات الخارجية.. بمحاذاة الباب الخشبي الواسع جداً،أتتبع لبرهة الانسياب الحيوي في نحت نقوشه، والتخريم المتقن في تشكيلات زخارفه البديعة،ألوذ به كلوذ الحمام إلى أمان العش في هياج الريح العاصف،كي يمسح عن وجهي الكابي كل هذه العتمة بتعب السنين،وينفض عن جسمي المتعب وروحي اللائبة،تراكمات غبار الرحلة..رحلة الحياة الشاقة،الملطخة بالأهواء والشهوات،فكم..كم يا ترى مرّت وجله جحافل الزمن على هذا الباب،وانحنت جواره قامات وقامات لم تألف الخضوع إلا لله،وكم لثمت أعتابه من ملايين الملايين من شفاه الناس عبر تاريخه،والآلاف والمئات والعشرات من أفواه أعاظم الرجال،رؤساء وملوك وسلاطين..علماء وأدباء وفنانين..قادة وثوار ومجاهدين..و..و..!! بل وكم مرّت عليه شفتا صاحب الزمان المقدسة..وهي ترتعش شوقاً وحنيناً؟بيد إني أحسّ إن متون الملحمة الدامية وسفرها الخالد،ها قد بدأت ترسل صوبي،بألف ألف شظية مدماة من مأساة الحسين وعيالاته وصحبه وجراحات أتباعه، ومظلوميتهم الممتدة على مرّ الحقب والأجيال إلى يومنا الحاضر،بتعاقب عهود الجور وأزمان الطغيان،ومعها تبدأ تنثال في ذاكرتي كل ذكريات السنين العجاف، وشواظ استصراخ الحسين طلباً للنصرة،إذن في حدود هذه البقعة المقدسة من الأرض،وما حولها عبر مئات الأقدام،قامت أحداث الواقعة،بكل شراستها ودمويتها،وهنا أو هناك جالت وصالت الجيوش المجيشة للباطل من أجل القضاء المبرم على قلة قليلة،هي خلاصة الحق في الزمن،وثمالة الخير على الأرض،ولعل سؤالاً يتبادر إلى الأذهان هنا ومفاده:هل كانت بالفعل هذه الثلة بحاجة لقتالها إلى استنفار مثل ذلك العدد الهائل من الجيوش المجيشة وعدتها؟أم كان التحشيد لغاية أخرى؟ أجلْ..من أجلِ الزجّ في الإثم لأكبر عدد منهم لاغير،وتلطيخ أياديهم بسابق علم ومعرفة،بجريمة الإسهام بقتل تلك النخبة من الربانيين ولو بالكلمة، ومن ثم ضمان ولائهم فيما بعد،كشركاء في الحرب من بعد حلول السلم الموهوم،حينما يتقاسمون في الحاضر غنمها، ليكون عليهم في الآجل غرمها..! أجل،فهنا وقف الزمن وجلاً من تلك الفعلة النكراء،وقامت قيامة جرح السماء في ذات واقعةٍ أليمةٍ فوق رمضاء كربلاء، لا نظير لها في تاريخ الإنسان،بالجرأة على قتل ابن بنت حبيب الله الخاتم،سيد الرسل والأنبياء جميعا،وهو ما مثل لحظتئذ انقلاباً عملياً للأمة على دين الله وشريعته المقدسة،بعد انقلابها نظرياً قبل ذلك بنكث عهد نبيها في السقيفة المشؤومة،ومنذ الساعة الأولى لتلبيته نداء ربه والتحاقه بالرفيق الأعلى (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل،أفئن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم!) نكاية بأبيه الوصي أمير المؤمنين أيضاً،بالرغم من إقرارهم بأنه أولهم إسلاما وأحوطهم بدين الله،وسبي أهل بيته وعياله،وسوقهم كأسارى الكفار من وثنيين وملحدين ومجوس، مصفدين بالحديد إلى الشام،ويحهم أكانوا يطلبون الحسين بقتيل منهم قتله،أو مال لهم استهلكه،أو بقصاص جراحة؟ أم إن الأمر في حقيقته كما قالوا له وبصريح العبارة: إنما نحاربك ونقتلك ونسبي عيالك بغضاً بأبيك..!!بيد أني أطبع بقبلاتي الحارة على باب الضريح خشوعاً،ألثمه كأني ألثم فم جراحي النازفة ألماً،وأزداد مع كل خطوة أتحركها رهبة،قبل أن أمدّ ببصري عميقاً إلى الداخل،فأرنو إلى توهج الألق..بقبس ضوء أخضر باهر،ينبعث من خلل مشبك الذهب المحيط بصندوق الضريح المقدس،تضطرب مشاعري بقوة،وترتبك خطواتي،حينما أبصر حزم النور الباهر،وهو يعرج إلى عنان السماء كنسور فضية جامحة تنطلق نحو الأعلى،وأسمع تعالي وجيب فؤادي كأنه طنين مدوّي،ويكاد يقفز من صدري مخترقاً حاجز الأضلاع،فأنتقل إلى عالم آخر قد مليء سحراً وجمالا..لا أثر لأيّ قبح من هذا العالم فيه،وأحسّ بخفق أجنحة الملائكة،وهي تغدو وتروح،وتهبّ على وجهي المشتعل لضى،أنسام المكان العبقة، بروائح تفوح ذكاء،ورذاذ المياه المعطرة،أحسّ بأني ألج إلى قدسية أجواء الجنة،بسحر أجوائها الضبابية الحالمة..حيث الظل بعيداً عن الحرور،بيد إني ألمح أسراب خيول كغبار أسود في تشكّلها وهي تتراكم، وتتجمع،وتتناسل كالدخان،وتسدّ وجه الأفق،وتجذبني إليها بعنف،وهي تطوف بأرجاء المكان،ويتناهى إلى سمعي صوت صهيل خيول،وصليل سيوف راح يلمع بريقها تحت وهج ظهيرة عطش لاهبة،وتتعالى جلبة اصطكاك الحديد،ويعمّ صخب هائل لوقع خطى ثقيلة لجموع محتشدة تتقدم متدافعة وهي تلهث خلف حطام الدنيا،وتتكالب من أجل فتاته التافه،بالحظوة بدينار أو درهم من أعطيات السلطان الجائر،ثم أبصر صحراء تمتد نحو البعيد،تتخللها أجساد ممزقة،وأعضاء مقطعة،وأشلاء متناثرة، وبرك دم تتوزع الميدان،وتنتشر هنا وهناك على مساحتها،وسهام نابتة في الأجسام، ورماح وسيوف مثلومة،وسيروج،ودروع،وواقيات،وأقواس مكسرة،وقلنسوات فولاذية محطمة و.. و..! ثم أرى على مرمى البصر باتجاه الغرب بقايا خيام وأعمدة محترقة،وأسمع صوت أنين يتعالى،ونحيب ثكلى يقطّع نياط القلب،تنعى فقد الأحبة والأبناء،وبكاء أطفال وصرخاتهم المرعوبة،وهم ينظرون إلى فاجعة سحق بعضهم وهو يقع في هروبه مابين أقدام جموع الخيول المندفعة، فتأخذه بقوائمها وأرجلها ،أثناء مداهمة الجيش لمخيمهم،وحرق الخيام عليهم،وعبر الأفق جهة الغرب،ألمح رؤوس مشالات فوق أسنة الرماح،وهي ترحل في غروب واجم،ينزل حزيناً على وجه الوجود،ويجثم ثقيلاً على الأنفاس،فأجثو على الركبتين محني الظهر حتى تلامس جبهتي تراب الأرض، وأتهاوى كرداء مهلهل عند جسم مهشم الأعضاء،وجنب جسد ممزق الأوصال إلى مجرد أشلاء...أشلاء،بعدما دارت عليه سنابك خيول القوم ودارت،وهي تطأ صدره وبطنه وظهره،فيتقلب ما بين حوافرها يميناً وشمالاً تحت ضغط الرضّ المتعمد، ويتلقى طعن سيوف الحقد ورماحه،فلا أتمالك نفسي فأصرخ من أعماقي:يا ألله، رحمتك بنا...فما هذا الحقد الأعمى،وما هذه الضغينة السوداء؟النابتة في سبخاء هذي الوحوش الكاسرة،الكامنة خلف قناع الوجه لهذا الإنسان،والمتسترة وراء آدميته؟! ولكن أيمكن التصور بأنهم بشر مثلنا مجبولون من ذات الطينة،ومخلوقون من لحم ودم،وفعلاً جاءوا من أرحام وبيوت،وتربوا على حجور وبين أحضان،أو رضعوا لبن الأمومة الطاهر؟ فأتمتم مع نفسي،لا...لا يمكن أن يكونوا كذلك..!!

وفي خضم احتدام مشاعري اتجاه الموقف، أحاول أن أغطي وجهي بأصابع يديّ العشرة، أو لعلني أرتها أن تحميه من بشاعة مثل هذي الرؤى الدامية ،وهي تنثال بقسوتها في ذاكرتي،وتمطرني بوابل مرارتها، فأرحل نحو البعيد...البعيد - ربما دون وعي كامل مني- وأنأى عني،على متن موجة ذهول تجرفني مع هياجها العاتي،فتجتاح كياني شبه غيبوبة واعية،كانت حافلة بالإحتدامات الحسيّة الصاخبة،والرؤى الضاجة بالمشاهد الدموية،بإرادتي أو من دونها، لا فرق..غير إني لا أعلم للآن كم امتدت فسحتها على مساحة الزمن، بيد إنها كانت كأنها دهور مرّت وحقب زحفت زحفها البطيء المتثاقل من الفراغ ..بعيداً عن تأثيرات المكان.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
ابو حسنين النجفي
2010-12-08
لله درك على كل ما وصفت به ملحمة كربلاء الخالده في وجدان كل حر ومؤمن وطاهرويحمل معاني الانسانية مسلما كان ام غير ذلك حشرك الله مع الحسين واهل الحسين واصحاب الحسين عند مليك مقتدر وابعد عنك ظلمة الاحزان وظلمة القبر وظلامة الظالمين وانار الله قلبك وبصيرتك بحب محمد واله الطاهرين وانشاء رب العلى جل وعلى *اننا على العهد باقون وعلى هذا الطريق سائرون امام اهدى اثنين اما النصر باذن الله واما الشهادة في سبيله على ما مضى الماضون والحمد لله رب العالمين لبلوغنا محبة محمد واله الطاهرين *تم
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك