د.جمال العتابي*
واقعة الطف تبقى على مر الأجيال رمزاً لعظمة الفداء والتضحية في مواجهة الجور والقهر . إنها ذكرى تنطوي على مغزى ثوري ملهم يتجسد في صمود الإنسان الثائر المؤمن إيمانا عميقاً بقضيته . هذه الذكرى ، بالنسبة لشعبنا ، مازالت تلهم النضال العادل له من اجل التحرير والخلاص من الظلم والظلام . باعتبار ثورة الحسين عليه السلام صرخة عارمة ضد من استبد بالسلطة ، طغى ، وأفسد وأمعن في الفساد ، فصارت التضحية رداً على الظلم وعلى الخنوع . حتى تنتصر المثل الإنسانية ، لذا خلد الشعراء مأثرة الحسين الشهيد ، والواقعة الكربلائية على وجه الخصوص . هذه الواقعة التي تمثل محركاً دينامياً رفد حركة التاريخ الإسلامي بمعطيات خلاقة ، جعلها تمثل الشطر الصحيح من التاريخ ، وتغدو مكوناً أساسيا من مكونات العقل العراقي إذا جاز التعبير . فأن العوامل الوجدانية التي تفاعلت وتأثرت بها تترافق مع مشاريع العقل التي حفلت بها هذه الحركة العملاقة . لقد كتب الكثير عن الثورة ، وما تزال هناك دعوات مستمرة لدراستها على المستويات كافة ، الفقهية والسياسية والحضارية . ولغة الوجدان في القضية الحسينية حفلت بالكثير من المعطيات المرافقة لهذا العطاء المقدام . فكانت تمثل جانب البيان الإعلامي التكميلي لإيضاح الحركة المزدوجة بالجوانب المضيئة عبر تاريخها الطويل . والشعر العربي قبل غيره من الآداب كان الأداة الناطقة الأهم والأبرز للواقعة وفي اغلب النصوص اهتم الشعراء بإثارة العواطف الإنسانية وتصعيد حالة الحزن عبر صور الرثاء . وأشكال التعبير الابتدائي إلا إن مضامين ( الشعر الحسيني ) ظلت تغتني عبر العصور بمضامين وصور جديدة على قدر كبير من السمو . وباتجاهات إنسانية مختلفة . فأصبح هناك مسرح للشعر الحسيني يجيد الحوارية الشعرية كباعث ومؤشر لاستجلاء معالم القضية وإضاءة جوانبها المشرقة . كما ورد في كتابات عبد الرحمن الشرقاوي ، ومحمد عفيفي مطر ، ومحمد علي الخفاجي وغيرهم . إن الخصوصية التي أخذها واكتسبها ( شعر المنبر الحسيني ) تختلف تماماً عن سابقته من (أدب الطف) ، كونه يحشد مجموعة من القيم في خطابه المركز سواءً كان نعياً ، أم استنهاضاً أم تحليلاً أم تقريراً أم وصفاً للمشاهد الباسلة في الواقعة الكربلائية ، أم إغراقاً حزيناً استشعر فداحة الخسران ، أم تعريضاً بالشراهة السلطوية . إسمحوا لي أن أتوقف فقط عند مقتل الإمام الحسين ( ع ) بصوت الخالد عبد الزهراء الكعبي كنموذج فريد يلخص لنا عالم الانتماء إلى الوطن والإنسانية .. وهو يسمو بالحدث عن التقليد والنمط المألوف ، ويصوغ التجربة التي قدر لها أن تعادل الهم الإنساني . هذا الصوت .. منذ الصبا يشدني ويسحرني ، ويأخذني إلى عالم مسكون بالفجيعة والدموع ، وسلامة المعتقد ، وصحة المسار وصلابة الإيمان . هذه المشاعر تسكن في أعماقي منذ ذلك التاريخ وتتجدد في كل عام .. وفي كل ساعة إنصات ربما تتكرر أكثر من مرة في اليوم الواحد ، من هذا الشهيق المتصاعد يستجلي عذابات الموت ، في إداء سماوي رشيق تردده الملائكة .. ما هذه الطاقة الجمالية ، القادرة على تفجير كل مكنونات الحزن الكوني ؟ ما سر هذه الحيوية النابضة في النشيد ألبكائي الناعي لإرث السماء في ارق المشاعر ، واصدق العواطف التعبيرية ؟إنها أسئلة لا تنقطع .. مذ كنت أصغي إلى أنين الأم .. وهي توسد أبنائها في المهد ، ومذ كنت أتسلق حواف الجدران الطينية لأسمع صوت ( الملاية ) في بيوت الجيران .. فأعود اللحظة متوسلاً الزمان والحياة ، هناك عند عتباتك الذهبية المعطرة ، متشبثاً بإخضرار ردائك ، أستعيد بهذا الصوت قوة الإيمان بالقضية. لقد حشد الكعبي كل أدوات الإبداع الكامنة في أعماقه وفجرها مرة واحدة في حنجرة اختصرت كل تقنيات العالم .. ليقدم لنا مشهداً ملحمياً متدفقاً هادراً تتداخل وتتزاحم فيه الصور والمشاعر . وتتجلى كل أشكال الإبداع الأدبي شعراً ونثراً (المقتل) . عمل فني يرقى إلى مستوى أهم الأعمال الملحمية التي سجلها التاريخ كالإلياذة ، والاوديسا ، أنه سر حيوية هذا العمل . لم يكن الكعبي بحاجة إلى الكاميرا ، والمؤثرات الموسيقية واختصر دور المخرج والمنتج وكاتب السيناريو ، فهو يمتلك مؤهلات كل هؤلاء .. وبقدرات فذة انتقل من الشعر إلى السرد ،ومن لحظة الدعاء والابتهال ، إلى الثورة والاحتجاج . من مشهد التأمل المتفرد والخلوة إلى الله ، إلى لحظة المواجهة الحاسمة . بلغة سليمة محكمة منتقاة ، وقدرة على الإيحاء بصور معبرة بكثافة عن أدق المشاعر ساعة الاحترام . فأي نوع من المفردات ابتكرتَ أيها الكعبي ؟ وأي نواح أزلي .. تصوغ منه رائحة العراق الطاعن في الأحزان ، كنت قد حفرت ؟إن الكعبي يمتلك أحساسا رائعاً بالقيمة التعبيرية للحدث ، ومقدرة على التحكم فيه . ونقل التجربة بكل عمقها وحرارة معانيها ، بسبب وعيه المدرك لحقيقة الموقف . فقدم تفسيره عبر هذه التراجيديا بطريقة يقتنص فيها أسرار العالم الذي لا سبيل إلى إدراك أبعاده ، إلا بفهم عناصر تلك التراجيديا . فأكاد اسمع أصداء طبول مسير السبايا ، تحت أضواء المشاعل ، خفقات البيارق الملونة . يتكرر ذلك عبر مقاطع تنصت فيها لصراخ رضيع اخترق الرمح جسده الطاهر ، وصليل سيوف ورماح ، واستشعر حرارة دم نازف من كف مقطوع . أو صوت خنجر يغرز في ظهر علي الأكبر .الكعبي لا يدعنا نقف ، موقف المشاهد أو المتفرج . إنما يدفعنا إلى الفعل ذاته . فنشاركه البكاء وهو يذرف الدموع على شواطئ الفرات . لنشهد امتداد ذواتنا عبر عروقه الطموية الباردة المنحدرة ، لترتفع نسغاً حاراً حتى قمة الاستشهاد . أبداً تزهر يا عبد الزهراء . تشع هنا وهناك يليق أن يقترن أسمك بثورة الحسين . وهذا ..هو المجد !
* كاتب عراقي
https://telegram.me/buratha