المقالات

مصادرة المثال وانهيار المصداقية /

706 11:19:00 2010-12-16

حافظ آل بشارة

لا يمكن للادب الملتزم ان يلبي حاجة المتلقي للمعرفة والتفاعل ما لم يحافظ على صورة المثال لانه المعيار الذي يلجا اليه المبدع ليشكل موضوعه ، فيصف او يقارن او يحتج مستعينا بالمثال وكاشفا الهوة بينه وبين الواقع المدان ، ولكن عندما ينهار المثال وتختفي هالة التقديس التي تحيط به فهذا يعني فقدان المقياس الذي يضبط عملية الابداع ويوفر ذريعة لصيرورتها ، وتشهد الحياة بضجيجها اليومي دوال خالدة للمثال يتذوقها العالم والجاهل ، حتى المرأة التي تقف أمام المرآة لتزين نفسها انما تعيد صياغة مكوناتها الجمالية على اساس مثال افتراضي تعيه بعمق ، وكل من ينجز عملا يمارس لعبة الاقتراب من المثال . حياة العراقيين الحافلة بالقمع كان مثالها الاعلى الاكثر حيوية البطولة التي تستبطن التمرد ، وكان المعارضون من حملة السلاح والمقاومون بروحهم الفدائية هم مثال البطولة الراقي ، ومضادهم القيمي جلادو السلطة ، وكانت مجمل حركة الفن والادب في هذا البلد السجين تجسد هذا التضاد وتبلوره ، وهناك جيل من العراقيين اسهمت قصص البطولة والمقاومة في بناء ثقافته وتشكيل مثله ، وهو ينظر الى نظام الحكم السابق على انه مثال للانحطاط ، ويبقى هذا التضاد القيمي المثالي راسخا في اللاوعي الثقافي الوطني ، ويحاول استحضار نماذجه التأريخية من الاسلام ، والمثل المتجسدة في شهداء ومعارك المصير الكبرى ، كما تستحضر مثالها المعاصر من حركات تحرر انتصرت وسجلت فرزا واضحاعلى صعيد الادب والفن بين المجرمين الذين يجب ان يظلوا تعبيرا عن العار والجبن والرذيلة والشهداء والمضحين الذين هم رمز الرفعة والكرامة والايثار ، في الجزائر ، وفلسطين ، وفيتنام ، وامريكا اللاتينية واوربا وايران وغيرها من الدول تتشكل ثقافة وطنية تجعل من رموز الانقاذ مثالا لتشكيل وعي جيل او أكثر مستحضرة المضاد الحضاري لها وهو نظام الحكم الجائر بكل رموزه او الاستعمار ، في العراق ستصاب ثقافة الجيل الحالي الذي واكب التغيير بارباك شديد ، لان معطيات الواقع السياسي اخذت تسير باتجاه يتناقض مع مثل وفرضيات الحياة الثقافية اليومية وتجسيداتها الحية ، هنا جيل كامل يرى ان رموز الجهاد والمقاومة الوطنية الذين تتشكل صورهم الاسطورية النيرة في الذاكرة الشعبية ، استبعدوا وحرموا من الحضور الفاعل في الحياة السياسية ، تهميشهم يعد تجاوزا على كرامة الشعب وليس عليهم شخصيا لانهم كانوا دائما تعبيرا عن ارادة العطاء وليس الاستحواذ ، كانوا رموزا للمقاومة البطولية لكنهم لم يتحولوا الى رموز للحكم الوطني عقب التغيير لان التحول سار باتجاه مخالف وكما يقال فان الثورات يخطط لها العباقرة وينفذها الابطال ويستولي عليها الانتهازيون ، ويمكن تعميم هذه المقولة على ماجرى في العراق رغم ان التغيير جاء على ايدي قوى اجنبية استدعت فصائل معارضة معينة لاشراكها في الحل خوفا من فصائلها المسلحة التي قاتلت النظام في بغداد وانهكته ووضعته على حافة الانهيار ، اؤلئك الرجال تنكر لهم الجميع بعد التغيير مع انهم كانوا مثالا للتضحية والشجاعة ، فيما أخذت أحزابهم تحيط قادتها ومكاتبها بطوق من اعوان النظام السابق ومرتزقته وجلاديه القدامى ليحققوا حضورا يملا الواجهات السياسية والاعلامية ، ضمن حالة ردة واضحة ، وكل همهم اثبات براءتهم من المقاومين الذين يؤمنون بدور الشهادة والجهاد المسلح في التغيير ، ادى هذا التحول الى خلط الاوراق بين مفهوم المثل الاعلى في الذهن الشعبي الذي يجسده المقاومون وبقية السيف ، ومثل الانحطاط الذي يمثله نظام الطغيان وجلادوه وادواته خاصة عندما يتبادل النموذجان المواقع في الحياة السياسية لكي تتحول تجربة التحرير الى تجربة ردة ، وقد ترتب على هذا التحول موقف جماهيري واع اذ اصبح القائمون على العملية السياسية هم المدانين والمتهمين لانهم يعبرون سلوكيا عن عداءهم عن قصد او غير قصد لرموز الانقاذ والكرامة وانحيازهم لرموز الانحطاط الذين يبغضهم الشعب معتقدين توهما بانهم سيجنون أرباحا سريعة من هذه المناورة لكن مناورتهم الغبية لم تثمر سوى الفشل الاداري والفساد الشامل في قطاعات الدولة وفقدان التأييد الشعبي والهزائم السياسية ، يجب ان يعرف الجمهور بشكل اوضح ان أغلب المؤمنين من أهل الورع والشجاعة والنزاهة غائبون عن هذه التجربة الفاشلة ، والمسؤولون عن هذا الفشل هم الانتهازيون واطواقهم من بقايا النظام السابق ، معرفة كهذه تحمي المثل الوطني الاعلى من التزوير والتشويه وتبقي المعايير الصحيحة في الفرز والتمييز قائمة ومحترمة ، وتبقي ادب وفن التصحيح والاحتجاج في حالة تجدد .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك