حميد الشاكر
منذ بدايات معرفتي بعالم القراءة والكتابة ، وانا لم ازل اشعر ان هناك في الكتب التي بين يدي شيئا ما اخر يقف خلف السطور ويشير لي بمعاني مختلفة جدا عن ماهو مكتوب وظاهر !!.تساءلت : ما اسم هذا الشعور الذي في داخلي ؟.ولماذا كلما اقرأ قصاصة من ورق اشعر ان فيها روحا تختلف عن ظاهرها المكتوب والمسطر للعيان ؟.
بعد فترة طويلة من الحياة مع القراءة والكتابة والتأمل والتفكير اكتشفت بان الوجه الاخرللتاريخ المكتوب هو مايسمونه بالعبرة والوجه الاخر لنص القرآن هو مايسمونه بالتبيين والتأويل والمعنى والوجه الاخر من الادب هو مايسمونه بالابداع .... وهكذا الفقه باعتباره الخلفية التي تقبع خلف سطور السنة النبوية المطهرة ، فتيقنت عندئذ ان شعوري الذي كان في القدم عندما اقرأ نصا قرآنيا ثم ابحث في تفسيره فلايقنعني ما اقرأه من تفاسير واشعر ان هناك وجها اخر لم يذكر بعد ، هو من الاشياء الفكرية الصحية جدا والتي هي من المميزات التي تفرق بين القارئ الذي يكتفي بالقراءة على اساس انها تراكم كمي لاغيرفحسب وبين القارء والباحث والمفكر الذي يرى في القراءة انها تراكم كمي مضافا اليه نقلة كيفية ونوعية في فهم القراءة !!.ومنذ ذالك الحين وانا انتمي لمدرسة في القراءة والبحث والكتابة ترى : ان فهم المقروء اخطر من المقروء والمكتوب نفسه والشعور بما خلف السطور اخطر من السطور نفسها !!.او بصيغة اخرى ان فهم التفسير اخطر من قراءة النص القراني نفسه ، وان استخلاص العبرة من التاريخ اخطر من كتابة التاريخ وقراءته نفسه ، وان تذوق الابداع اعظم من ماهو مكتوب باسم الابداع والادب ، وان تلمس روح القانون اشرف بكثير من تدوينه وتطبيقه وحفظه !!.أقول ذالك وانا ازعم ان هذه هي منهجية ربما لاتصلح للكثيرين لعدم ادراكهم او فقدانهم لموهبة قراءة واكتشاف ما هو قابع خلف السطور من المكتوب والمقروء البشري وبكل الوانه !!.عندما يكتب بعض كتابنا الذين قضوا جلّ اعمارهم في قراءة ، وحفظ التاريخ والكتابة حوله ينتابني شعور بالاسى لما ال اليه مصير هؤلاء العباقرة من حفّاظ التاريخ ، كما ينتابني شعور بالملل عندما أقرأ مطولات التفاسير الاسلامية وهي تكتب النص القراني بكثافة لكنها ومع الاسف عندما تريد ان تفهم معاني هذه النصوص تنفصل تلقائيا بين ماهو نص ومايشير اليه وبين ماهو حشو قارئ لمعاني ليس لها علاقة لا بالنص ولا باهدافه ولا بتوجهاته ولا بما اراد ايصاله من معنى ابدا !!.قرأت لاحدهم وهو يتحدث عن واقعة حرب الجمل وموقف الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب في التهامل مع هذه الواقعة فوجدته بالنهاية يستنتج الاتي :(( ونظرة واحدة على احداث الجمل نجد ان الامام قد طوى تلك الصفحة باحسن مايكون ولم يدع المجال لاحد مهما كان ان يعيد محاكمة اصحاب الجمل والنيل منهم باي صورة كانت ...)) !!.
هنا انا امام نص تاريخي معروف ومتوافق عليه ولاخلاف حوله وليس فيه اي جديد خطر بامكانه ان يجعل من النص ثورة او نفاق ، لكن عندما اتحول الى فهم النص لهذا الكاتب استشعر الكارثة التي ربما اعذر الكاتب لها نفسه لانه اخذ هذا الفهم تقليديا وبدون ان يفكر بداخل النص بشكل مستقل واخر ومختلف ولذالك هو ناقل لفهم النص وليس مجتهد فيه ، مع انني لااعذر اسقاط الكاتب لهذا المعني والفهم واخضاعه ايدلوجيا لمصالح سياسية قائمة يريد الترويج لها لادرك :اولا : ان الكاتب يريد من هذا النص ان يتخذه حجة لرايه السياسي القائم الذي يرى عدم وجوب محاكمة المجرمين السابقين في النظم السياسية التي ترتكب جرائم بحق مواطنيهم ( مثل حزب البعث في العراق ) ولهذا راى الكاتب في عمل علي بن ابي طالب ع مع قادة الجمل انه قمة بالتجاوزوعدم الرجوع للماضي وما اقترفه هؤلاء القادة من اجرام بحق الاخرين والمعنى الصريح للكاتب:انه تاسوا بعلي بن ابي طالب وتجاوزه ياعراقيون واتركوامحاكمة البعثيين القتلة وعفى الله عما سلف ولنبني لحياة سلمية ( كما تروج له قناة الفيحاء هذه الايام ) مع القدماء البعثيين وينتهي الامر !!.ثانيا : لماذا نحن نقول فهم التاريخ ونصوصه اخطرمن كتابته وقراءته لأن عظمة التاريخ واخذه لصفة الابوة للعلوم البشرية كلها ليس لسرده للاحداث ،وانما بالوصول للعبرة من هذه الاحداث والقوانين التي تسيرها في كل زمان ومكان ، ولهذا عندما يطرح اي كاتب العبرة والمعنى من التاريخ فانه يطرح روح التاريخ التي تحرك المجتمع وتسيطر على ذهنه وفكره بالحقيقة ومن هناك كان الجرم عظيما في تحريف الكلم عن مواضعه في النصوص القرانية ، وتحريف التاريخ عن اهدافه وغاياته في هذا الحيز ايضا !.الان نعود لكاتبنا ذاك الذي اقتنص مشهدا من التاريخ ((لنجعله فأر تجاربنا)) وليحرف مضمونه تماما لنسأل : هل فعلا نظرة واحدة تكفي لكل متأمل في التاريخ واحداثه لادراك وفهم ان عليًّ بن ابي طالب قد طوى صفحة اصحاب الجمل باحسن مايكون ليضرب لنا العبرة بكيفية العفو عن المجرمين وليذهب الفقراء والمظلومين الى الجحيم ؟.أم ان عليَّ بن ابي طالب او نص الحادثة التاريخية برمتها اصلا لم تكن في وارد ايصال عبرة وفهم تنازل علي بن ابي طالب عن حق المظلومين في محاسبة الظلمة والفاسدين ؟.طبعا وللرؤية الاولى من تناول النص التاريخي لحرب الجمل الذي قادها الامام علي ضد الناكثين والمنافقين بما فيهم عائشة زوج الرسول وطلحة والزبير ندرك ان اهداف النص التاريخي ذاهبة الى التنكيل باعداء الامام من قادة الجمل وليس بالعفو عنهم !!.وما مقولة طوي الصفحة باحسن مايكون بعد انتهاء الحرب الا حول فكري لكاتب هذه السطور ، والا اي حسن في طوي الصفحة بعد ابادة معسكر وقادة انصار حرب الجمل كلهم !!.المفروض ان يكون طوي الصفاح قبل رفع السيوف وهويها على الرقاب ، ولو كان الامام يريد طوي الصفاح بهذا الاسلوب النفعي لما قام اصلا بحرب تريد ان تعيد مشروعا اسلاميا قد انقلب عليه اصحاب محمد بعد ساعة من وفاته ، ولما عزل معاوية بالشام وهو يدرك انه سوف يتمرد ويعلن العصيان ولما قطع الهبات التي كانت تدرها السلطة على اتباعها للتحصل على ولائهم وتشتري قبولهم للامر الواقع !!.لو كان الامام في وارد طوي الصفاح باحسن مايكون لكان علي لم يدخل حربا طاحنة حتى استسلام اخر امراة في المعسكر وهي تولول وتنوح وتطلب العفو والصفح والبقاء على الحياة !!.ذاك هو طوي الصفاح الحسن وليس بعد الطحن ودفن العظام !!.نعم علي بن ابي طالب ع لم يصفح ابدا عن من بارزوه بمعركة الجمل بل لم يترك لهم باقية تذكرالا من هرب منهم واستلسلم الاخرين منهم !.ثالثا :هذا الكاتب ومايرّوج له من فهم معوج لمسيرة علي بن ابي طالب الثورية بغض النظر عن دوافعه السياسية الايدلوجية القائمة اليوم والتي تريد الاخذ من رقبة علي مطية لعودة البعثيين القتلة وغيرهم ، وبغض النظر هل هو مهيئ للحديث فكريا عن عبر التاريخ وسننه وقوانينه اولا نقول بغض النظر عن ذالك ولكن الا يعلم هذا النمط من الكتّاب ان قراءة التاريخ وفهمه اذا كانت بهذا الشكل المشوه هي ليس فقط تعد جريمة فكرية وادبية ، وانما هي اعتداء سافر على مشروع علي بن ابي طالب الذي ضحى بكل شيئ من اجله وتزييف لاهداف هذا الامل الوحيد للاسلام !!.بمعنى اخرعندما ياتيني كاتب مسيس ليتحدث عن الثورة الحسينية على اساس انها اختلاف سياسي وليس عقدي ديني مرتبط بمشروع الاهي بين الحسين بن علي بن ابي طالب وبين يزيد بن معاوية بن صخر قلعة الكفر والنفاق في الاسلام فهل ينبغي عليّ معاملة هذا الكاتب على اساس انه مغيّب فكريا او جاهل تاريخيا او مجرم محترف اخلاقيا ؟؟؟!.لاريب انني ساتعامل معه بكل هذه المواصفات قطعا ، لانه لايعذر من جهل قراءة التاريخ ان يكتب حول عبره ، ولايعذر من حظه تافه في العلم ان يكون مجرما ومجترئا على الحسين واهداف ثورته وما قدمته للاسلام من تضحية ؟..
كذالك هنا الاخ فأر تجاربنا الفكرية لكتّاب التاريخ وعبره وفهمه على الصورة الصحيحة ، عندما يحاول تمييع الثورة العلوية التي قادها علي بن ابي طالب بحرب الجمل وغيرها من حروبه الثورية الشريفة ضد كل الوضع القائم انذاك سلطانيا من زمن وفاة الرسول محمد ص ...حتى انتخاب الشعب له عليه السلام ، فمن حقنا ان نصفه بكل مواصفات الجهل والخيانة والتزوير والاجرام الاخلاقي عندما يقتل ثورة علي بن ابي طالب مع اعدائه ليقول انها حرب كانت على اختلاف وجهات نظر سياسية فحسب وليس للدين والعقيدة بها اي دخل وخلفية مونتها بالحركة والاستمرار !!.
لابل مثل هؤلاء المعاتيه في قراءة التاريخ يجب ان يحاسبوا لتحريفهم وتزويرهم لكل تراث علي بن ابي طالب والغائهم كل تضحيات هذا الامام المعصوم عندما يصوروا لنا اليوم علي بن ابي طالب انه رجل سلطة ومنافع وسياسة اباد مئات الالاف من البشر في سبيل بقاءه بالسلطة او تسلطه على رقاب الناس لاغير ؟.كيف يمكن لانسان يرتبط بعلي عقائديا ولايرفع سيفا الا عندما يتيقن انه رفع في سبيل مرضاة الله سبحانه ، يقبل من كاتب غرّ ان يقول ان حروب علي كانت مجرد لعب سياسي وان من قتلهم في حروبه ذهبت دمائهم ودماء اعدائهم ادراج الرياح والمنافع السياسية لاغير ؟؟.هذه هي الكارثة في فهم التاريخ وليس بنقله او كتابته او قراءته !!.وهذه هي الكارثة التي لم تجن فقط على التاريخ كعلم يجب اخذ العبرة منه كما يريده لنا التاريخ نفسه وليس كما حرفناه عن غاياته واهدافه وحتى سننه وقوانينه فحسب بل هو تجنى على مشروع علي ع عندما اراد ان يترك لنا وثيقة تاريخية صاغها لنا بدمائه ودماء اهل بيته الاطهار ، وخاطر بخلافته .... الخ ،لتبلغنا رسالة الانحراف الكبير عن الاسلام الذي حاول معالجته علي بقطع رؤوس المنافقين والكافرين والمارقين والقتلة ليكونوا لعنة للاعنين الى يوم الدين ، ويأتي الاخ الكاتب ليقول لنا : احذروا حتى ذكر المنافقين بسوء ، وتأسوا بعلي الذي قطع رؤوسهم من جانب ولم يذكرهم ابدا بسوء بعد نهايتهم من جانب اخر متناقض ؟.عجيب كيف يكون من طحنهم علي بن ابي طالب بسفه طحنا في حياتهم يريد منا ان نقدسهم بعد وفاتهم ؟.هل هذا معقول بالفكر والفهم الصحيح ؟.أم انه ضلالة مابعدها ضلالة والعياذ بالله !!!.فهمنا من النموذج الذي ناقشناه انفا : ان فهمنا لما خلف سطور نصوص التاريخ وعبره واستيعاب اهدافه ومضامينه بالشكل الذي ارادته هذه النصوص وليس بالشكل الذي نريده نحن بتوجيه النص ايدلوجيا سياسيا نفعيا اوكما نشاء فهذا اخطر بكثير من قراءتنا لهذا التاريخ او الكتابة بداخله ، بل اننا يجب علينا اذا لم نكن مهيئين لوعي التاريخ ، وعبره الحقيقية ان لانكتب بالتاريخ ، ولاحتى نحاول نقله للاخرين اصلا ، فعملية النقل عندئذ وبوجهة النظر الفاسدة والقاصرة هذه ستكون كارثة فكرية وثقافية اعظم اثرا من تزوير نصوص التاريخ نفسها !!.
https://telegram.me/buratha