تحليل سياسي للكاتب والإعلامي قاسم العجرش
في خطابه الذي قدم حكومته فيه الى مجلس النواب لنيل الثقة، كان السيد نوري المالكي رئيس الوزراء منصفا مع نفسه ومع التاريخ حينما أعترف أن حكومته المنصرفة لم يكن أداؤها مرضيا، كما أنه غير مقتنع بالكابينة التي يقدمها لنيل الثقة، وهو إعتراف لو لم يبسط على الرأي العام لكان عدمه أفضل، فقد وضع هذا الأعتراف السيد المالكي أمام مسؤولية عن المرحلة المنقضية، كما وضعه أمام مسؤولية أخلاقية وأدبية عما سيحصل في المرحلة القادمة، لأن الأعتراف بالأخطاء أول الطريق الى تلمس الحلول..ولم يعد ضربا من العبث توصيف ماجرى في العراق من أزمات حادة في زمن حكومة السيد المالكي الأولى، بأنها بالأساس تعود من حيث المنشأ، الى الترتيب السياسي الأول ولتلك البداية القلقة لمرحلة ما بعد صدام والتي ولدت نظاما سياسيا عاجزا عن التكيف مع التغيرات وغير قادر على تخطي الأزمات بيسر وإقتدار ومسؤولية.ومعلوم أن قرابة ثماني سنوات قد مضت منذ أن سقط صدام، خمس منها كانت تحت قيادة السيد المالكي كرئيس للوزراء، فعلى صعيد بناء دولة ديمقراطية فأنه إذا كان من المؤمل أن نكون قد قطعنا شوطا مهما في هذا المجال، فأنه بعد كل هذا الزمن لم نستطع تشكيل الحكومة إلا باللجوء الى الديمقراطية التوافقية، وهي ديمقراطية أشبه ما تكون بأسلوب الدواوين العشائرية في حل الخلافات، غالبا ما يتعين على طرف قبول الحيف حتى يقال عنه أنه من الأخيار، وهذا بالضبط ما حصل مع المكون الأكبر للشعب العراقي، وبدت الصورة وكأن التجربة الديمقراطية قد إستنفذت كل أغراضها التي أختصرت في تشكيل حكومة تكاد تتقوض تحت ثقل متناقضاتها، وليس آجلا بل عاجلا سيحصل كم هائل من الخلافات التي ستعصف بالحكومة الجديدة، لأن التغيير الديمقراطي الحقيقي لم يُنجَز بعد، فلا تداول سلمي ولاسيادة ولاسعادة، سوى مزاد سياسي، يُمسك أطرافهُ بتلابيب القوى الإقليمية لتقاسم إمتيازات السلطة. وأنجزت حكومة المالكي إتفاقية الأطار الستراتيجي المشترك مع أمريكا، وهو الأسم الرسمي للأتفاقية التي ستنسحب بموجبها القوات الأمريكية في نهاية عام 2011، ومع إنجاز الأتفاقية أو فرضها، وبالتزامن مع مغادرة القوات الأمريكية، إزداد التكالب الإقليمي على ما توهم أنه تركة كما كان يحصل في كل الإستعمارات والإحتلالات المغادرة، و حصل أثناء ذلك أيضا خروج لبعض عربات القطار السياسي عن السكة الوطنية، مما أربك الأوضاع وتطلب الأمر جهدا وتضحيات كبيرة لإعادتها على السكة، خلف ذلك إحتباس سياسي خانق، ولم تدر كثير من الملفات السياسية بحكمة، بل كان الإرتجال طابع المرحلة، وأديرت بعض تلك الملفات بطريقة "شيلني وأشيلك" بالتوازي مع طريقة "دعه يعمل دعه يمر" التي يعبر عنها باللهجة العامية العراقية "مشي" ، مما ولد تراكما في كم المشكلات تحول الى جبل منها، فضلا عن العملية السياسية أديرت بما أدى الى إنتهاك الدستور من قبل الكتل السياسية مرارا وتكرارا..لقد تميزت المرحلة بلا مبالاة تكاد تكون مطلقة لعامل الزمن، حيث تم تجاهل معاناة العراقيين بشكل متعسف خصوصا على صعيد الخدمات وقطاعها الأبرز الكهرباء والبطاقة التموينية، وهي مفارقة تدعو الى الألم أن ينجح نظلم صدام تحت حصار دولي خانق ورقابة صارمة على الأموال في توفير أحد عشر مفردة من مفردات البطاقة التموينية ، فيما فشلت الحكومات التي جاءت على أنقاض نظامه بتوفير ربع تلك المفردات، حيث إبتلع حيتان وزارة التجارة التخصيصات المالية ولم ينل المواطن إلا الفتات..وأنفقت أموال طائلة على قطاع الكهرباء الذي لم يصل إنتاجه بعد سبع سنوات من سقوط نظام صدام الى مستوى الأنتاج آنذاك، حينما لم تكن هناك وزارة كهرباء بل كانت هيئة كهرباء يرأسها مدير.. ومع الوعود الكثيرة التي قدمها المسؤولين عن هذا القطاع، ومع فشلهم في إقناع الشعب بصدق تلك الوعود ، بات من الصعب التكهن بالفترة التي سيتم فيها حل الأزمة..ولسنا بحاجة لإقامة الدليل على تعثر حكومة المالكي الأولى ، في رسم علاقات سليمة مع الجيران، ليس بسبب أداؤها فقط، لكن بسبب الضغوطات الهائلة المسلطة عليها، ولم يتحقق يسر في إعادة دمج العراق مع محيطه الأقليمي، وواجهنا مشكلات ضخمة لم تعالج بصرامة خصوصا الدعم السوري والسعودي للإرهاب الذي جرى التعامل معه إعلاميا بصرامة، لكن الحكومة كانت مرتبكة الأداء ، ومع أنه جرى سعي لترميم الشخصية المعنوية للعراق في محيطه الإقليمي، لكنه كان سعيا غير منظما وربما كان في أطر تحركات شخصية في أغلب الأحيان.لقد نخر ملف الفساد الإداري والمالي جسد الدولة العراقية برمتها، وأجتاح نسبة تصل الى ما يزيد عن نصف الناتج الوطني، في الفترة السابقة، وليس هناك من حاجة لتقديم جردة بالحساب، أو طرح أمثلة على ذلك، فهذا الملف مكشوف المفردات وتعج وسائل الإعلام بالأمثلة، وتحتفظ ذاكرة أي مواطن عراقي عن واقعة واحدة على الأقل يرويها بكثير من الخيبة والهم..وفي ظل الحكومة المنقضية كان هناك قدر كبير من السكوت عن المسكوت عنه من الفساد، ولعل الأكثر إيلاما هو موضوع الشهادات المزورة ومحاولة شرعنة السكوت عنها بأصدار عفو عن مرتكبي تلك الجريمة التي لا تعني إلا سرقة مستقبل العراق والعراقيين.. لذلك فإن المالكي سيحتاج إلى قرارات حاسمة تؤدي إلى أخراج الفاسدين من دوائر الدولة، ومثل هذه القرارات إذا فعلها المالكي من دون دليل ملموس بيده ضد الفاسدين سيستعملها خصومه كورقة ضغط عليه باعتبار أن هذه القرارات تأتي في مجال التصفيات السياسية . يضاف إلى ذلك أن المالكي بحاجة ماسة جداً لإيجاد علاج جذري لملف مهم في البلد وهو ملف العاطلين، لأن أعداد العاطلين تتزايد أعدادهم بأضطراد في البلد.ومع أن هناك رغبات لدى كثير من المسؤولين المحليين في المحافظات لبناء وإعادة إعمار مدنهم، لكن تلك الرغبات كانت تصطدم دوما بثقل الأجراءات الحكومية التي كانت تدار بمركزية بعقلية ما قبل التغيير النيساني عام 2003، وجرى الإلتفاف على صلاحيات مجالس المحافظات وأفرغ عنوان العراق الإتحادي (الفيدرالية ) من معناها الميداني، الأمر الذي أنعكس على موضوع تنمية الأقاليم الذي كان من المؤمل أن ينهض بإعمار المحافظات التي مازالت عبارة عن خرائب تفتقر الى بنى تحتية ملائمة.ومثلما هناك علاقة بين الفكر الاقتصادي الذي تتبناه الدولة وبين التشريعات الإدارية المؤثرة في عملية البناء الإقتصادي. ومثلما هناك علاقة بين البيئة السياسية المتمثلة بالسلطة صاحبة القرار وبين قراءة نتائج المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية، فهناك علاقة بين القرار السياسي ومشاريع التكتلات الإقليمية والعالمية والاسواق المشتركة وانعكاساتها على الاقتصاد. كما أن هناك علاقة بين البيئة السياسية وحركة الاستثمارات وتدفق رؤوس الأموال.وبين التخطيط والبحث العلمي للدولة وبين التنمية الاقتصادية. وبين سيادة الثقافات غير الاقتصادية وتخلف البنيان الاجتماعي والانفاق البذخي وبين التخلف الاقتصادي وصعوبات التنمية الاقتصادية.غير أن العلاقة الأكبر هي تلك التي بين الأمن السياسي والوطني وعملية التنمية الاقتصادية.والخطأ فيها يؤدي الى علاقة سلبية بين أسلوب الحكم وتبعية للقرار وعدم الاستقرار السياسي وبين التنمية الاقتصادية..هذه العلاقات كانت تحتاج الى ضبط يقوم به رجال من نمط خاص يفهمون متطلبات المرحلة، بعضهم كان موجود في الدولة والحكومة، غير أن بعضهم الآخر ليس في الدولة والحكومة، وهو ليس ضدهما بل معهما بالتأكيد،غير أنه لم يجد الفرصة لأن رجال في الدولة والحكومة ممن ليسوا من هذا النمط يقفون أحجارعثرة أمام فسح المجال للقادرين على النهوض بالمهمة، وهذه الأحجار كثيرة مع الأسف ، ومالم نفتت الأحجار سوف تبقى العلاقات الآنفة مختلة، وسنبقى (محلك سر) وفيما العالم يتقدم نحو عصر البلازما، نحن مازلنا متخلفين سيما وقد أعدنا الى أوائل العصور الوسطى على يد البعث الصدامي الذي يطل بقرنه مجددا.
https://telegram.me/buratha