كريم الوائلي
مقاربة عراقية مع الانتفاضة التونسيةكريم الوائليبالعودة الى سنوات التطرف والتشدد التي عصفت بمنطقة الخليج ابان حكم حزب البعث في العراق ابتداء بضرب الاكراد وابادة الشيعة واشعال الحرب العراقية الايرانية وغزو الكويت وانتهاء بالانتفاضة العراقية التي اعقبت الغزو ومن ثم احتلال العراق وما ترتب على ذلك من قيام نظام حكم نيابي وفق دستور دائم وانشاء مؤسسات دستورية - اقول ، بالعودة الى ذلك العهد القريب نتذكر جيدا ردود الافعال العربية التي كانت في الغالب معادية لنظام الحكم الجديد بتوصيفة قائمة على ان الاحتلال باطل وما نتج عنه باطل ، وعلى تلك التركيبة حكم على الدستور العراقي الدائم والانتخابات ومجلس النواب والحكومة المنتخبة بالبطلان ، وقي المقابل لم تحكم دولة واحدة من الدول العربية بالبطلان على المذابح والتجويع والتهجير والتغييب في السجون والاقبية المؤثثة بوسائل التعذيب واحواض المذيبات من الحوامض الشديدة التركيز وبمكائن ثرم اجساد النزلال ودفن مئاة الالوف احياء في مقابر جماعية جلهم من الاطفال والنساء والشيوخ الذين يقتادون من مدنهم وقراهم وحقولهم دون اي ذنب يذكر سوى انهم مشكوك في ولاءهم للحكم ويمثلون مكون مغضوب عليه ، لكن ما حدث كان - بحق - زلزالا مرعبا قض مضاجع الحكومات المطلقة ودفع بها الى تنازلات كبيرة للقوى التي احتلت العراق وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الامريكية حيث تراجع العرب عن دعم قضيتهم المركزية وتراخت القبضة العربية عن ما كان يوصف بالحق المقدس وازداد انقسام العرب على انفسهم وتقطعت اوصال عدد من الدول العربية مثل السودان واليمن وتضائل الامل بعودة الاراض العربية المحتلة في اكثر من مكان وانتهى الكلام عن الوحدة العربية وخفتت اصوات كانت تعلو على الفارغ وكان اول هذه الاصوات هو الصوت الليبي ، وحاول الجناح السياسي القومي العربي المحافظ والسلفي على العراق بديلا تعلق عليه مبررات التراجع والهزائم ووتر تعزف عليه انغام لم تعد مقبولة عند المتلقي العربي الذي اتخم بالخطاب القومي والسلفي الحماسي على حساب حاجاته الانسانية ومصالحه الوطنية ، غير ان الامر اختلف كثيرا عند الشعوب العربية ، ولم يمر وقت طويل حتى بدء الشارع العربي يرى الى المشهد العراقي بعين مختلفة ، ولان الكذبة عادة ما تكون قصيرة العمر وتستنفد بريقها مع مرور الوقت في عصر لم تعد المعلومة محجورة في دكاكين السلطة المطلقة ، عندها اميط اللثام عن الحقائق والوجوه وبات واضحا ان قتل العراقيين تحت اي عنوان ومسمى لم يعد مقبولا ولا مستساغا عند الشعب العربي وان التغيير في العراق يمضي بوتائر ديمقراطية متصاعدة وقانونية على الرغم من العوائق الامنية وحداثة المؤسسات الدستورية ، وكل ما شاب التجربة من عثرات غالبا ما تصاحب التجارب الديمقراطية الفتية مع ان العراق يعان من عوز في التقاليد البرلمانية . ومن الطبيعي ان يستيقظ الشعب العربي بعد سبات طويل مر عليه لعدة عقود تمثل عمر الحكام العرب الراقدين الآن عى اسرّة الحكم والسلطة في زمن التحول التاريخي من حقبة التمحور على الذات الى الانفتاح على العالم في عهد نظام دولي يمقت التلسط وغمط حقوق الانسان ، وقد تجلى ذلك وتجسد بالارهاصات والاهتزازات التي تحدث على شكل طلقات ومخاضات في بلدان عربية متعددة جاءت على اثر الزلزال العراقي وانكشاف حقائق مرعبة عن سلوكية النظام العراقي البائد الذي كان يعد نفسه مناصرا للشعوب العربية ومعبرا عن تطلعاتها ، وكذلك اعترافات رموزه في المحاكم التي تجري الان بحقهم في العراق او اعتراف قادتهم في المؤتمرات الحزبية التي يعقدوها في الخارج وانشقاقاتهم او بفعل العمليات التفجيرية التي تستهدف المواطنيين العراقيين العزّل الامر الذي امد الشارع العربي بضخ انتفاضي تغييري دون الحاجة الى حزب ((طليعي)) او منظمات ثورية تقتل الابرياء بدلا من الدفاع عن مظلوميتهم ، وبمعنى ادق ان الجماهير اخذت قضية التغيير على عاتقها بعد ان يأست من تحرك الجثمان السلطوي الممدد من الخليج الى المحيط ، وهذا ما حدث في تونس وما يحدث الان في مصر والسودان والجزائر واليمن والمغرب ومروتانيا والاردن وما يختزن في بلدان اخرى على شكل تورمات وبؤر بركانية متأججة تحت غشاوة الواقع كما هو الحال في سوريا والسعودية وليبيا .ويتعين التأكيد على ان الفارق كبير بين التجربة العراقية وبين شقيقتها التونسية فالسلطة الحاكمة في العراق قبل التغيير الذي حصل عام 2003 كانت سلطة مبيدة للجنس البشري ولاتتورع عن ابادة ملايين البشر مرة واحدة ، وقد تعاملت مع مواطنيها بقسوة مفرطة للغاية ولا توجد اية وسيلة غير الموت الفوري والمجاني في مواجهة النظام الذي استخدم اسلحة الدمار الشامل كالمبيدات الكيميائية والغازات القاتلة وصواريخ الارض- ارض وراجمات الصواريخ وقاذفات النار لحرق المدن والقرى والمزارع والبساتين وهدم الجوامع والحسينيات والمراقد المقدسة والدور السكنية ، وحرم النظام العراقي مواطنيه من التقنيات الحديثة كالهاتف المحمول ، وكانت الاتصالات الارضية المحلية تكاد تكون معدومة ولايتمتع بها سوى السلطة و5% من السكان ويعاقب كل من يتصل بالعالم الخارجي ، والمواصلات بين المدن كانت رديئة ولا توجد سوى سكة قطار انشأها المحتلون الانكليز عام 1917 ووسائل النقل قديمة ويستغرق الوصول الى اقرب المدن عدة ساعات يتخللها نقاط تفتيش لا حصر لها تقوم بتدقيق الاسماء والهويات ولا يوجد اي اثر لاستلام بث تلفزيوني خارجي ويعاقب من ينصب مستلمة (ستلايت) في مسكنه وتراقب سطوح المنازل والابنية من خلال طائرات عمودية تحلق بالتناوب فوق المدن ، ولا يعرف العراقيون معنى الانترنت ولا توجد احزاب معارضة للحكم بأي قدر كان وهذا كله بخلاف الحال في تونس الامر الذي يتيح للتوانسه (وهي التسمية المحببة للتونسيين) حرية الحركة والاتصال مع العالم الخارجي ومع الداخل وكان من نتاج ذلك انتقال الحريق الذي نشب في جسد محمد آلبوعزيز الى بقية المدن التونسية بوقت مناسب . ان بطولة الشعب التونسي تجسدت بقيادته للانتفاضة كما فعل اشقاءه في العراق ومن دون احزاب تقليدية عاملة بالداخل العراقي ، لكن التوانسه اسقطوا ابن على دون مساعدة دولية وبوجود احزاب موالية للنظام التونسي في الداخل لم تستجب للمنتفضين ، والحزب الوحيد الذي استجاب نظريا للانتفاضة من خارج تونس هو حركة النهضة التي اتهمها ابن علي بتدبير انقلاب على حكمه فهرب قادتها الى الخارج وهي حركة ذات توجه اسلامي واهم رجالاتها راشد الغنوشي . لقد تحسس التونسيون حال اشقائهم في العراق من خلال فهمهم للحزبين الحاكمين في كلا البلدين فحزب التجمع الدستورية الديمقراطي الحاكم في تونس تأسس سنة 1920 ، وكما هو الحال بالنسبة لحزب البعث الحاكم في العراق ، هيمن التجمع الدستوري على الحياة السياسية وتغلغل في الدولة ومؤسساتها وارتبط عضويا بأجهزتها وإدارتها وكوادرها واصبح حزب شمولي اعتمد قبضة أمنية صارمة وقامعة وعلى ذلك فقد اقتبس التونسيون من اشقائهم العراقيين الحذر الشديد من عودة ((الدستوريين)) مرة اخرى للحكم وهم الان يصرون على استمرار المواجه حتى اجتثاث آخر عضو ((دستوري)) من الحكم بأرادة شعبية مباشرة وليس حكومية ، ونتوقع ان ينجح التونسيون في ذلك لعدم ارادة خارجية مهيمنة على قراراتهم وغياب هيئات اجتثاثية مرتبطة بتوافقات حزبية واقليمية .كريم الوائلي كاتب واعلامي واديب - بغداد عراق
https://telegram.me/buratha