الدكتور يوسف السعيدي
القهر والعهر...والفرق حرف واحد:-------------------------------------- قبل ايام اتصل بي صديق مصري عرفته منذ السبعينات حينما كان يدرس معنا ..في احد كلياتنا الطبيه ..بعد التحية والسلام سألني :انت لا تكتب عن الفضائيات العربيه وفضائحها بعد دخول الستلايت الى العراق وانتشاره في اقصى قصبه عراقيه على الحدود ...وقد عرفتك كاتبا متمرسا في اكثر من مجال ...ما المطلوب؟؟ اجاب ببساطه:برامج السوبر ستار والفضائح اليعربيه ..ولانني اجيد اللغه المصريه ..التمسني ان اكتب مقالاُ عن الموضوع بنكهه مصريه ...اجبته لعلي اوفق في قادم الايام لذكر هذا الموضوع ...وان كانت همومنا نحن العراقين اكثر ايلاما واعمق وجعاُ من بقية الهم العروبي .......تبحث الأمم الضعيفة عن أي انتصار تقنع به الذات أنها حققت شيئاً .. ولو مأساوياً! وهمٌ ـ بفتح الواو وسكون الهاء ـ لسنا بحاجة إليه ليعيد شيوخنا اليائسين إلى صباهم، وهمٌّ ـ بفتح الحاء وتشديد الميم ـ يظلل شوارعنا فيستنهضها من الأكفان التي تدثر بها البعض في رحلة البحث عن موت دون جثة! فما أكثر الجثث التي تمشي على قدمين، وما أكثر الأرواح التي غادرت بينما أصحابها ما زالوا بيننا.. يتكلمون.. يثرثرون.. يتوعدون.. يدغدغون مشاعر البسطاء والمخدوعين في الشارع العربي.. هذا الشارع الذي تغنى به كثيرون.. ثوريونَ وأفاقون.. مناضلونَ ودجالون.. مفكرونَ وباعة الثلاث ورقات! تجارُ حروبٍ وسماسرة وأنواعٌ أخرى من البشر الله أعلم بها.. كلٌّ يغنى على ليلاه .. وكلٌّ يدعي وصلا بليلى .. وليلى ربما تكون قد باعت عنترة في سوق النخاسة، أو أخفته بعيدا عن الثمن الباهظ للفحولة دون أن تدري أن كثيرا من المحللين أباحوا اللجوء للمجهول الأزرق! وربما استنسخته مجرد تمثال باهت الظل، ومجرد أبيات من الشعر، نلوكها صباح مساء، نوقد نار القبيلة في خيمة تستظل العابرين و.. نثرثر... ولأني لا أرى التليفزيون إلا في المناسبات، فقد أبديت جهلي الكامل، وما لبث أن اتصل بي الصديق حزيناً، وكأن خروج الفتاة (العربيه )نكسة تضاف إلى خيباتنا( المهببة)، التي لم تنته منذ النكبة وحتى ما بعد النكسة، دون أن ننسى بالطبع "الوكسة" التي نعيشها حالياً باسم السلام.. "..ونام يا حبيبي نام وأذبح لك جوزين حمام"! مصمصت شفتي، وأدركت انني لست إلا طفل في الشارع.. الشارع العربي.. المغضوب عليه، والمسلوب تحت وطأة رغيف الخبز، وطابور (السيرفيس)، والمضحوك عليه بـ"حتة علاوة" تذهب إلى جيوب المنتفخين والمتورمين! هذا الشارع المسكين.. الذي خرج في عاصمة عربية قبل سنوات ثائراً وهائجاً على خروج سوبر ستاره من مسابقة حربية استمرت ثلاثة أسابيع.. هاتفاً بالروح.. بالدم.. نفديك يا ملحم ليكسر كل ما يقابله احتجاجاً، هو نفس الشارع الذي انقسم في ثلاث عواصم عربية كل يدعي وصلا بـملحم أو ديانا أو رويدا.. وهو نفسه الذي وصفه زعيمٌ عربي راحل بـالحرامية.. وهو نفسه الذي استند إليه طغاةٌ لتمرير تزويرهم وطغيانهم. هذا الشارع وقف يوماً لصدام العار والجريمه هاتفاً نفس الهتاف التقليدي بالروح بالدم ثم انهال عليه بالنعال في اليوم التالي.. فأيهما نصدق؟ القهر.. أم العهر؟ ولأن الفرق حرف واحد.. يسهل التوصيف لاكتمال الصورة الفعلية.. فلغتنا العربية لا يضيرها اختلاف بينما هي غنية بما لذَّ وطاب من المفاعيل دون الفواعيل .. والتورية دون المواربة ونكتشف أن رائعاً مثل الجبرتي حارَ بين البارود والقنابل..والغاز المسيل للدموع فاستنجد بـ"يا خفيَّ الألطافِ" .. ويكون غالباً علينا نحن المقهورين في القرن الحادي والعشرين أن نتمحور حول المأساة، للبحث عن تبرير ليخرج أحد مسؤولي المسابقة رامياً الكرةَ في ملعب الانترنت.. بينما أصر الجمهور الغاضب على أن هناك مؤامرة.. تؤطر نموذج الفكر الراهن. عقليتنا العربية حتى على مستوى النخبة لا تقبل بالخسارة.. تجعلها شماعة لتدوير المهاترات لتتدخل شخصيات سياسية عليا داعمة ومستقبلة تلطيفاً للصيف الآتي. ... منذ أكثر من نصف قرن عالج كاتب كبير مثل توفيق الحكيم موضوع أهل الكهف بأسلوب مشوق آثار جدلاً واسعاً وقتها، كتب الحكيم عن صحوة الفتية بعد خروجهم من كهفهم على زمن غير زمانهم، وعن غربتهم،وعجزهم، وتفضيلهم العودة الى نومة الكهف على استيعاب المتغير. ما أشبه الواقع بما تخيله من 50 عاما .. وما أشبه الشارع العربي الذي لم يعرف الحكيم حينما مشى فيه، ولما سئل عما يتمنى أن يكون ؟ أجاب بحسرة: بيبو... أما من هو بيبو؟ فبالتأكيد لن يعرفه هذا الطفل العراقي أو الفلسطيني الذي يتأمل واقع عاصمة عربية أخرى من وراء زجاج مكسور لا يعادل أبدا شظايا الوطن المحتل بـ "سوبر ستار" دولي أعظم وأمرّ.. خمسون عاماً.. وما زلنا نهتف، نفس الهتاف.. نفس الشعارات.. نفس الوجوه.. آاااااااااااااااااه عمتم صباحاً أو مساءً... أو....... ربنا اغفر لنا. يبدو أننا لم نغادر الكهف بعد!!
الدكتوريوسف السعيديالعراق
https://telegram.me/buratha