حسن الهاشمي
الدولة في النظام الديمقراطي فيها القوى التنفيذية والتشريعية والقضائية مستقلة بعضها عن البعض الآخر، وكل منها يؤدي دوره المطلوب دونما تداخل بالصلاحيات أو التأثير أو المحاباة لقوة على حساب قوة أخرى، ومادامت تلك القوى مستقلة فإنها تسبح في فلك الديمقراطية، أما إذا حادت عن استقلاليتها فإنها ديكتاتورية ولو كانت مغلفة بغلاف الديمقراطية، والقوة القضائية من المفترض أن تنهض بمسؤولياتها في تفسير فقرات الدستور وتطبيقها على الجميع دون خوف أو وجل من حزب أو كتلة سياسية أو طائفة دينية أو قومية أو دولة إقليمية أو ما شابه ذلك مما تتعرض له القوة القضائية من ضغوط لاسيما في الدول الناهضة ديمقراطيا، وأقول قولي هذا لأن القضاء في الدول الديكتاتورية هو قضاء كارتوني ليس إلا، لا ينش ولا يهش ولا يبش!!ومن بين الأمور التي تضطلع بها القوة القضائية هي المحافظة على المال العام وكذلك المحافظة على مصالح الشعب وترسيخ دولة المؤسسات التي لا يطمع القوي في باطلها، ولا ييأس الضعيف من عدلها، وإذا وصلت القوة القضائية إلى هذا المستوى من الأداء فإنها في أوج قوتها، وباستطاعتها الدفاع عن مكتسبات الدولة الديمقراطية.إن الديمقراطية تعني ما تعنيه حكم الأكثرية مع حفظ حقوق الأقليات، إذ إن الجميع يسبحون في فلكها من دون أن تغمط حقوق أحد، وليست الديمقراطية مساوقة للضعف والترهل واللامبالاة، بل الديمقراطية تعني إنزال القصاص العادل بحق المتطاولين على المال العام والإرهابيين القتلة وإعدامهم في ساحات وميادين ارتكاب الجرائم ضد ما اقترفوه من قتل وانتهاك بحق المدنيين العزل، وليست إبقاءهم في السجون لسنين متعددة معللين فعلهم تارة بعدم مصادقة مجلس الرئاسة على إعدامهم، وأخرى بمخالفة الدول الأوربية على أحكام الإعدام، وثالثة بضغوط إقليمية وشخصيات معادية للتجربة الديمقراطية تعمل وللأسف ضمن الدولة العراقية الجديدة تحت يافطات خادعة من قبيل الدفاع عن حقوق الإنسان والحيوان والمساجين ما عدى الأبرياء الذين تتقطع أشلاءهم في الشوارع والفقراء الذين يتلظون شظف العيش ومرارة الحياة!!. ولا تزال الديمقراطية مساوقة للحزم العادل وليس للترهل والفوضى، ومساوقة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ومساوقة لإنصاف الضحية ومعاقبة المجرم، وليس العكس كما يحصل في عراق ما بعد التغيير، ما شجع المجرمين على إجرامهم والسراق على سرقاتهم والإرهابيين على إرهابهم والإنتهازيين على انتهازيتهم والغوغاء على غوغائهم، وهذا ما تريد وتعمل عليه الدول الديكتاتورية المجاورة التي لم يرق لها ما آل إليه الوضع في العراق بعد الإطاحة بالنظام البائد، فعملت بكل ما أوتيت من قوة لإجهاض التجربة الفريدة فيه لئلا تصل رياحه العاتية إلى شعوبهم وتقلب عليهم طاولة الظلم والفساد من دون رجعة، مثلما ظهرت بوادره في تونس الخضراء وهي في طريقها للقضاء على بقية الأنظمة الشمولية الفاسدة في المنطقة.الديمقراطية قوية وليست ضعيفة فهي خيار الشعوب في تحقيق تطلعاتها إزاء ما تطمح إليه من حرية ورفاه وتقدم، وهي الأصل في خلق الإنسان بأن لا يكون عبد غيره وقد جعله الله حرا مختارا، وهذا الأصل قد هشمه الطواغيت فاستعبدوا الشعوب وأذلوها وخاضوا في البلدان قهرا وظلما وفسادا، ومن المفترض على الدولة العراقية الحديثة المستمدة شرعيتها من عمق الشارع العراقي أن لا تهاب الأنظمة الديكتاتورية المسلوبة الشرعية وتطالبها باسترجاع الإرهابيين والسارقين وإغلاق فضائياتهم ومكاتبهم وشيطناتهم شرطا لتحسين العلاقات معها. وبعيدا عن لغة الشعارات ولكي نكون موضوعيين في تحليلاتنا فإننا نعرج إلى لغة الأرقام حيث كشف تقرير عراقي على أن نسبة الفساد تضاعف في العراق عام 2010م بثلاثة أضعاف قياسا بنسب الفساد في 2009م، وقال تقرير لهيئة النزاهة أن هناك أكثر من سبعة آلاف مطلوب إلى العدالة، بينهم 234 بدرجة مدير عام فأعلى، وتمت إحالة 2523 متهما بقضايا فساد مختلفة إلى المحاكم، بينهم نحو 193 موظفا بدرجة مدير عام فأعلى، و110 من مرشحي الانتخابات الذين قدموا شهادات مزورة، وان هناك نحو 709 موظفين صدرت بحقهم أحكام عن قضايا فساد، بينهم أكثر من 100 موظف بدرجة مدير عام فأعلى.وبين رئيس هيئة النزاهة القاضي رحيم العكيلي أن الأرقام التي تضمنها التقرير قد تزداد أكثر فأكثر، وهذه الأرقام تشكل ثلاثة أضعاف ما أعلن عنه في عام 2009. تجدر الإشارة إلى أن ظاهرة الفساد في العراق، لا ترتبط بعملية اختلاس الأموال أو سرقة المال العام على مستوى الأفراد فقط، إنما تعود إلى أسباب تخص الأنظمة السياسية وبناء الدولة في العراق وانعكاساتها السلبية على السلوك الفردي.وكان التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2009 أظهر أن دول العراق والسودان وبورما احتلت المرتبة الثالثة من حيث نسبة الفساد في العالم، فيما احتلت الصومال المرتبة الأولى في التقرير وتبعته أفغانستان، فيما اعتبر التقرير الذي يغطي 180 دولة أن الدول التي تشهد نزاعات داخلية تعاني من حالات فساد بعيدة عن أية رقابة، فضلا عن نهب ثرواتها الطبيعية، وانعدام الأمن والقانون فيها.لماذا هذا التماهي والتكاسل عن إنزال العقوبة الصارمة بحق مرتكبي جرائم الفساد المالي والإداري الذي ينخر بجسد الدولة الديمقراطية كما ينخر السوس في الجثة الهامدة، ولماذا نرضى أن نكون جثة هامدة تعبث فينا الديدان كيفما شاءت، ولا نرضى بأن نكون أشداء أسوياء نكافح الأمراض قبل استفحالها، بل تكون لدينا مناعة ضدها، وهي صفات متطابقة للأنظمة الديمقراطية الطامحة أكثر من مطابقتها للأنظمة الديكتاتورية الفاسدة!!لماذا يسرح ويمرح المفسدون وسارقو المليارات في دول العالم ولا نفعّل مذكرات إلقاء القبض عليهم دوليا، ولا نطالب دول الجوار بتسليمهم لينالوا جراءهم العادل، والأنكى من ذلك نجد إن البعض يتسابق لإبرام اتفاقيات اقتصادية وتجارية مع تلك الدول بل يتم تزويد بعضها بالنفط وبسعر تفضيلي؟! لماذا نخاف الدول الديكتاتورية ونجاريها ونصبر على أذاها أكثر من اللازم، أليس من المفترض إن الديمقراطية والحرية التي نعيشها تعطينا ثقة بالنفس وتجعلنا نطالب بحقوقنا ولا نقبل الابتزاز والنفاق السياسي، بل تكون مصلحة الشعب فوق كل شيء، ولا يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية والرفاه الاقتصادي من دون توفير الأمن والقضاء على الفساد ورؤوسه سواء أكانت متواجدة في الداخل أو الخارج.
وبقلب يعتصره الألم وبحلق تعترضه الغصة نرى ذلك المنهج المعوج الذي تُدار به بعض الأمور في دولتنا الجديدة، وتلك الطريقة الخاطئة التي تكرس الحصول على المال الحرام لأهداف باتت واضحة للقاصي والداني!! ولكي نقف سدا منيعا أمام ما وصل إليه العراق إلى مرتبة متدنية جداً في نسبة الفساد والرشوة والاختلاس فلابد من توفر منظومة متكاملة لمحاربة الفساد والقضاء عليه تشتمل على مؤسسات تتعاون فيما بينها، عبر الإجراءات التالية:* لابد من هيئة نزاهة تعمل على تأشير موارد الفساد بمعايير مهنية وموضوعية صرفة.* قضاء نزيه وفاعل يتعاون مع هيئة النزاهة ويفعّل ما تتوصل إليه الهيئة من نتائج.* لابد من السلطة التنفيذية أن تتعاون وتستجيب لما تقرره هيئة النزاهة ولا تعتمد الازدواجية في التعامل مع ملفات الفساد فتقبل بعض الملفات وترفض أخرى.* ضرورة محاربة الفساد المالي والإداري في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة حتى لو كانت تعمل ضمن إطار القضاء والتشريع والرقابة.* المسؤول عندما يكون مخلصاً معنى ذلك انه سيبذل جلّ وقته من اجل التفكير الجدي ووضع خطط لتطوير الموقع الذي يخدم فيه ومن ثم تطوير البلد.* نظافة اليد قبل تسنمه الموقع وبعده وأثناءه، وأن لا يتعرض المسؤول إلى ضغوط كبيرة تجعله - لا سمح الله - يتلوث أو يغض النظر عن التلوث وإنما يكتفي بالمرتب المقرر له دون الخضوع للمغريات الداخلية والخارجية.* حسن الإدارة والتدبير ... وهو أن يبحث عن الطاقات المعطاءة ويحاول أن يغرسها في موقع العمل ويحاول أن ينجز المهام الملقاة على عاتقه ِ ويتعامل مع الأمور بمهنية وواقعية ويجعل الرجل المناسب في المكان المناسب. * الاهتمام بانتقاء واختيار البطانة والحاشية بشكل موضوعي، واختيار من ينصحه لا من يلمعه .. وان يقرب فلان منه لا لخصوصيته وإنما لاستحقاقه. ولكي نقضي على ذلك الوباء القاتل لابد من توفر ثلاثة أمور في دولتنا العتيدة وهي النزاهة والكفاءة والحزم .. وإذا ما أردنا أن نسير على جادة الصواب لابد من القضاء على المنهج الهدام الذي يحتوي على رؤوس مهمتها أن تسرق قوت الناس بطريقة أو بأخرى وإنها على استعداد بأن تتلون بعشرين لونا وتتذلل لفلان وفلان ... من أجل الحصول على حفنة من الأموال خدمة لمصالحها الشخصية، حقيقة إن هذا النوع من التماهي يخلق لنا إن فلانا يخترق تلك المؤسسة الأمنية وان فلانا يمكن أن يدخل مادة متفجرة في المكان الكذائي وإن فلانا يمكن أن يعمل كذا وكذا .. والهدف من وراء ذلك كله علاوة على المنافع الشخصية والحزبية، تعطيل إرادة الشعب العراقي في الحرية والكرامة والرفاه وجره مرة ثانية إلى ربقة العبودية والإذلال والفساد.وعلى الهيئات الرقابية في الدولة العراقية وضع الأمور الإدارية والمالية في الدوائر على نصابها الصحيح حيث يوجد لدينا الآن هيئات نقابية كثيرة منها النزاهة والمفتش العام والرقابة المالية واللجان المنبثقة من مجلس النواب وهذه اللجان واسعة ومتعددة .. مهمتها أولا تثقيف الموظف على عدم ارتكابه تلك المآثم وتبيين المفاسد المترتبة عليها للحؤول دون وقوعها وإذا ما وقعت، عليهم كشفها ومحاسبة المفسدين ومعاقبتهم حتى يكونوا عبرة لمن اعتبر، والمطلوب كذلك إلغاء القوانين المتعبة والقوانين التي يجب أن تتقاعد منذ عقود من الزمن ولكن البعض يحاول إبقاءها لعرقلة مسيرة الإصلاح في البلد .. والهيئات الرقابية مطالبة بإصلاح أوضاعها فإنها تملك صلاحيات كبيرة وينبغي أن لا تجعل نفسها صغيرة أمام الأشياء .. إذ إن أمامهم بلد يعاني الكثير من ملفات الفساد والرشوة والتطاول على المال العام، وهم معنيون بتطويره بالأفكار والأفعال لا بالأقوال فقط.
https://telegram.me/buratha