الدكتور يوسف السعيدي
أي نعم فلنَبْشر فلقد تحررت الشعوب العربية من خوفها الذي كان يشلّ حركتها ويستعبد إرادتها،تحررت من عبادة أوثان أجبرت على عبادتها والتسبيح باسمها وتقديم القرابين إليها والإذعان لبذاءاتها وفحشها والتسليم بقضائها كما لو أنه قدر إلهي محتوم لا يجوز الاحتجاج عليه وعصيانه،بل إنّ التعاليم الربانية يُفتى لعصيانها من أكثر الناس تدينا وتقوى ولا ترتقي لخانة كبائر خرق تعاليم الطاغية الحاكم بأمره الذي لا يَقبل سوى بتمجيد جرائمه واعتبارها "كرامات" وهبتها للشعوب أقدارها...تحررت الشعوب العربية من خوفها فعقدت العزم على الإطاحة بآلهتها "الصّنميّة" وتهشيم أوثانها،تماما كما فعلت في ثوراتها التحررية ضد الاستعمار الأجنبي المدجّج بأعتى وسائل القمع والترهيب...لم تعد تخشى شيئا لأنها،ببساطة،أدركت أنه لم يبق لها شيء تخاف عليه فيكبت غضبها ويُلجم لسانها ويُسكّن أوجاعها.تحررت الشعوب العربية اليوم حين اقتنعت بأخذ زمام أقدارها بنفسها،دون وسيط ودون انتظار "مهديّ منتظر" ولا قائد منقذ ولا إلهام من رموزها ونخبها الفكرية والسياسية-وحتى منجّميها- الذين أنهكوها بتنظيراتهم المعقّدة وحساباتهم الضيقة وتنبّؤاتهم الكاذبة ونرجسيتهم المقيتة وأوهامهم المضللة وعطائهم العليل.أخذتْ بزمام أمورها أمام ذهول حكامها الأغبياء واضطرار نخبها على تقزيم حجم عطائهم واعتراف منجّميها بقصورهم على استقراء مستقبل تصنعه إرادة حاضر يسكن بين جنبيهم ويُرى بالعين المجرّدة.يا للدهشة،تنطلق شرارة الانتصار على الخوف وتحطيم صنم الآلهة الرهيب من حيث لم يُراهن على ذلك علماء استشراف ولا قرّاء كفّ،تُزفّ البشرى من ذلك البلد العربي الصغير الآمن المسترخية على رماله وفي منتجعاته ملايين السياح الهاربين من الضجيج والتلوث ومن خوف يقضّ مضاجعهم في أوطانهم حيث مخاطر الأزمة الاقتصادية والارتباك والإرهاب،والباحثين عن السكينة في زرقة البحر وواحات الصحراء والوداعة واللطف التي تقرؤها في عيون التونسيين:"ابتسم إنها تونس"...شعب مسالم ومتسامح وكادح ومقبل على الحياة بقوة تراها تنبض في دماء شبابه الفوارة وفي وميض يلمع ذكاء في عيني كلّ تونسي يعترض سبيلك حتى ذاك الذي كان يجرّ عربة خضار في مدينة سيدي بوزيد وهو يستقبل يومه المعتاد بوجه يفيض أملا وبشرا واعتزازا بتضحيته من أجل جلب قوته وعائلته الفقيرة بشرف وكبرياء رغم كلّ ما يتعرّض له من حيف وظلم وما يختزنه من توق إلى حياة أفضل جدير بها،ليس هو فحسب،بل كل مثابر شريف في وطنه المعطاء المنهوب...إنه ذاك الذي اسمه محمد البوعزيزي الذي تحوّل لحظة "فيض الكأس" واستحالة احتمال ما لا يُحتمل إلى رمز آخر بليغ الدلالة لأفق جديد بعد أن فقد كلّ قدرة على الصمود أمام الغبن،فاحتجّ بأسلوبه دون أن يعتدي على أحد حتى أولئك الذين سلبوه آخر رمق في الأمل بوطن يحضن كادحيه.لم يحرق الوطنَ بل حرق الغبن في جسده وفي شعبه قربانا للوطن الذي أحبّه فاشتعل وقودا لثورة الحرية والكرامة البشرية.تلك هي تونس اليوم وهي تستكمل مشوار "ثورة الزعتر والياسمين" بحنكة واقتدار يؤمّنهما شعب متيقّظ أمسك بزمام المبادرة ولن يتخلى عنه...وإذ يحيّي هذه الثورة الجميع تحيةَ إكبار وإعجاب كانت فرائص الطغاة العرب ترتعد وقلوبهم ترتجف وعروقهم تتيبّس وعقولهم تتكلس بعد أن خانها مكرها وخبثها،في الوقت الذي انتعشت شعوبهم برحيق الثورة الشذيّ العبق يتنفّسونه إرادة حياة لا تقهر...كان لا بدّ أن يخترق الانتصار على الخوف الحدود،وكان لزاما أن ينتقل بسرعة متناهية من جغرافيا الاختبار وصنع النموذج في الوطن الصغير مساحةً وسكانا-تونس-إلى جغرافيا الوطن الأكبر-مصر-ليكتمل البناء ويُطوّق الأعداء ويستحيل الانقضاض على إنجاز المشروع العربي الجديد وإجهاضه،مشروع الشعوب الذي لا يحتمل تأويلا في الحرية والعدالة والتنمية الشاملة وفي إبادة خفافيش الظلام ودكّ أوكار كواسر الاستبداد والفساد...شعب مصر العظيم آمن بـ"إذا الشعب يوما أراد الحياة/فلا بدّ أن يستجيب القدر-ولا بدّ لليل أن ينجلي/ولا بدّ للقيد أن ينكسر"...هو ذاهب إلى صنع قدره بنفسه دون إملاء ولا وصاية من أحد،هدفه واضح وطريقه سالكة...ما تزال الفرصة متاحة لكل قواه بأن يتداركوا الأمر حقنا للدماء الزكية ووفاء للشهداء وبرا بالأمجاد...والأمل في الاعتبار من حقائق التاريخ وتجارب الحاضر...وإنها لثورة حتى النصر لكرامة الشعوب في وطننا العربي الجدير بموقع متقدم في صنع حضارة القرن الـ21.هل فهم من لم يفهم بعد رسالة الشعوب غير المشفّرة؟..هل أدركوا أنّ الشعوب "تُمهل ولا تُهمل" وأنّ إرادتهم من إرادة العلي القدير،وأنّ الطغاة إن سوّلت لهم نفوسهم المريضة بالجلوس على كرسي جماجم الشهداء،إنما يحفرون قبورهم بأيديهم...تبا لمن يقول:إمّا أنا أو الأرض المحروقة.الدكتوريوسف السعيديالعراق
https://telegram.me/buratha