كريم الوائلي
دلّت القراءة المتأنية على ان غالبية المثقفين العراقيين يواجهون اشكالا في الاندماج مع اجواء الحرية كما لو انهم جبلوا على الرفض الكلي ولم ينجحوا في استقطاع الجزء المتواشج مع رغبات وآمال وتطلعات الجمهور في مرحلة من مراحل التحولات السياسية والثقافية ، ولا يجد بعضهم نفسه - على الاعم الاغلب - إلاّ في خضم التسفيط المتبادل والمناكدة والخصومة والتطاول على مؤسسات الرأي الآخر الذي لا بخلو منه مجتمع او دولة ، ويبدو ان ذلك جاء على خلفية من المران التاريخي الطويل ، وعندما نستقرأ باكورة حرية الثقافة والصحافة في العراق منذ اعلان الدستور العثماني عام 1908 نجدها متماثلة مع ما يحصل اليوم حيث انشغل الكتاب العراقيون وقتها بهجاء بعضهم البعض تاركين مشغلهم الاساسي واصبحت الصحافة من حينها تؤسس على التخرص بالآخر والنيل منه وتوصيفه بالسلبية ، و حتى بعد نيل الاستقلال وتأسيس الحكم الاهلي عام 1921 استمرت هذه الصفة وتواصلت واصبحت ملازمة لصحافة العهد الجمهوري بعد 1958 ايضا ، ومن الطريف ان تلجأ سلطة ما بعد 1967 وفي فترة من الفترات الحرجة التي مرت بها البلاد الى فتح باب صحفي لمشاجرات الناس في المحلات الشعبية ونشر الشتائم والمهاترات على صفحات الصحف ، ومع بزوغ الحرية بعد الاحتلال الامريكي عام 2003 ظهرت انماط جديدة من التخرص والتسقيط ضد المؤسسات المدنية لا يراعى فيها ظروف البلاد الاستثنائية ، وعلى الرغم من ان الاعلام والثقافة تشكل فاعل تقويمي وموضوعي محايد لعمل الحكومة والتصدي للفساد إلا ان البعض من الذين يكتبون استهواهم التشهير والاساءة للآخر اما على خلفية سياسية او حزبية او طائفية او حتي لالفات نظر القراء على مبدء (خالف تعرف) ، ويخطأ من يظن ان الاعلام في العراق غير منحاز في هذه المرحلة ذلك ان الاعلام هو ابن التجربة ويصيبه ما يصيبها من تصدعات واسقاطات ، وامام العراق بون شاسع بالمقاييس البنيوية قبل ان يبلغ الرشد الاعلامي .
اما الان وقد اجتاز العراق معبر مغاير جديد من معابر التحول على ما فيه من فساد وتلكأ واخفاق فأن التخرص والتسقيط هو الاخر اتخذ وصفة مغايرة حيث اصبح التسقيط الموجه شموليا لا يستثني النجاحات ، وانتقائيا يستثني الاجزاء العلاجية الناجعة من الوصفات ، وعلى ذلك نجد مرة تسوّق بعض الكتابات وهي مبنية على مهاجمة العملية السياسية جملة وتفصيلا ومن غير استثناء مع وضوح الرؤية لما كان عليه العراق قبل 2003 ، ومرة اخرى يهاجم الامريكان على انهم قوى محتلة وينتقى من ذلك التوصيف كذبة رامسفيلد - ان صحّت - التي يدعي بها في مذكراته انهم دفعوا 200 مليون دولار للمرجع السيستاني مقابل فتوة مزعومة لا تجيز للشيعة مقاومة الاحتلال مع ان الشيعة لا يمارسون اطلاق الفتاوي في كل حين كما يحصل عند غيرهم . ومن المفارقات ان البعض يلوم الكورد اذا تحدثوا عن معاناتهم قبل 2003 ويتهمون بالعنصرية ، وفي المقابل يلام الشيعة اذا استذكروا مقابرهم الجماعية وتهجيرهم وابادتهم ويتهمون على انهم طائفيون وعلى ذلك فالشيعة طائفيون ان استذكروا اوجاعهم ، والسنة ارهابيون ان اعلنوا احتجاجهم ، غير ان التجربة قد دلت في العراق على ان ما ان يضطهد الشيعة حتى يضطهد الشعب كله ، وهذه صفة ملازمة لتاريخ العراق السياسي الجديث . ومن المفارقات المؤشرة في المقالات التسقيطية ان تلام المرجعية الدينية ان استقبلت الساسة العراقيين لاسداء النصح الذي يشكل ركن اساس من وظيفة المرجع على اعتبار ان الدين هو نصيحة ويتهم المرجع بمولات الحكومة التي توصف جزافا على انها ((حكومة شيعية)) مع ان اكثر من نصف الوزارات يشغلها غير الشيعة ، وعندما يكون هناك نقوص وتردي وفساد في عمل الحكومة فأن المتضرر الاول هم الشيعة الذين لا يزالون كما هم من المحرومية وعم مناطقهم الجفاف وغمرت ارضهم الملوحة وجفت اهوارهم وانهارهم وشمل اليباس حقولهم واستنزفت نفوطهم وما زالت بنية بيئتهم مدمرت مع انهم ما زالوا يصنعون سلة الخبز العراقي ، وتستثنى المقالات التي تهاجم المرجع السيستاني التعرض لزيارات يقوم بها رؤساء وملوك وساسة اجانب وممثلي المنظمات الدولية ، ولو كان من المستساغ عقليا اتهام المرجع بتشكيل حكومات العالم لما ترددوا اولئك الكتاب عن التعرض له وتحميله مسؤولية فساد العالم كله . ويحلوا لغالبية المثقفين ان يهاجموا الدين بوصفه المفصل الاكثر حساسية عند الغالبية العظمى من العراقيين وهذا النمط من السلوك يتجنبه مثقفوا العالم المتمدن ويعتبرون الدين ثقافة وحضارة ولا يتعرضون لعقائد الناس ودياناتهم كما تستنكره وتعاقب عليه منظمة الامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان العالمية ، ومن المفيد التذكير ان هناك اكثر من 22 دولة في العالم تحمل في اعلامها الوطنية رموزا دينية ومنها دول كبرى مثل بريطانيا ، والعراقييون ليسوا هم الوحيدون الذين يمارسون طقوسا دينية والدستور الدائم لا يصف العراق على انه دولة اسلامية والمرجعية لم تدع الى ذلك والاحزاب الاسلامية لا ترفع شعار الدولة الاسلامية انما ترفع شعار دولة المواطن كما هو الحال مع المجلس الاعلى الاسلامي العراق وشعار دولة القانون كما هو الحال مع قائمة السيد المالكي مع انه من المؤكد - وحسب ما بدل عليه الواقع- ان العراقيين سيختارون النظام الاسلامي لو يصار الى تصويتهم والامر في النهاية متروك برمته لخيارات الشعب . ان التخرص بالمرجعية الدينية الى درجة اتهامها بالفساد له ما يبرره على ما يبدو ولا سيما في هذه المرحلة من مسيرة العراق حيث فشلت اساليب العنف في لي ذراع الارادة الشعبية وكسر عضد التجربة واعاقة التحولات ، ولعل الذي اغضب بعض الكتاب السياسيين على المرجعية الدينية هو نجاحها في ايقاف حرب اهلية حتمية اعد لها بأتقان واصرار وكذلك تبني المرجعية لمصالح البلاد وانتقاد عمل الحكومة وانحياز الجماهير لها بعد ان تراجعت الاحزاب النمطية والمسلكية ، والملاحظ ان الهجمة على المرجعية قد تزامنت مع دعوات مصدرها ما حثل في الساحة من متبنيات سياسية قديمة تدعو الى الغاء الشريعة وعزل الدين والمؤمنيين عن السياسة والحياة العامة في عهد اصبح فيه النظام السياسي في العراق دستوريا وديمقراطيا يصعب معه اويستحيل تهميش اي طرف ملتزم بالثوابت الدستورية وبات فيه التديّن الوسطي سمة غالبة للحراك الاجتماعي وعلى نطاق كوني ، ومن المتوقع ان تتصاعد الهجمة على المرجعية الدينية مع تصاعد انحياز الجماهير الى العقائد الدينية يضمانة النظام الديمقراطي الحالي وانحسار الفرص امام بعض القوى للعودة بالبلاد الى الحكم المطلق ، غير ان الغاضبين على المرجعية تناسوا ان انحياز الناس الى شعائرهم الدينية قد يشكل عامل ضغط سياسي على الحكومة ((الشيعية)) اذا استمر الفساد وتفاقمت الخدمات وتراجع الاعمار وارتفعت اعداد العاطلين عن العمل كما حصل في عاشوراء الماضي حيث انتقدت المواكب الحسينية اداء الحكومة بشدة وقسوة الامر الذي ينذر بتحول المد الايماني الى برلمان شعبي خطير يشكل ضمانة لاحراز الحقوق ومانع موثوق به ضد عودة الواحدية في الحكم وعامل مساعد على تجذير النظام الديمقراطي وهو النظام الوحيد الذي يتيح للجماهير تفعيل معارضتها للحكومة وكذلك ممارستها لشعائرها الدينية وفضح الفشل الحكومي ومحاربة الفساد وكبح المفسدين .
https://telegram.me/buratha