بقلم العلامة الحجة الشيخ نمر باقر النمر
إذا انتفضت الشعوب وألقت لباس الخوف عن كاهلها انفجرت أعمدة نور الحياة الطيبة بالكرامة والعدالة والحرية والأمن والرفاه، وإذا صدعتْ الشعوبُ بكلمتها طأطأت الطغاة عنجهيتها، وإذا نطقتْ الشعوبُ وتحرَّكتْ إرادتُها أخرستْ أفواهَ الطغاة ولجمتْ مدافعَها؛ لأن الشعوب هي التي تصنع طغاتها، وهي قادرة على اجتثاثها متى ما شاءت ذلك، ولا من طاغٍ إلا وشعبه هو الذي صنعه ويصنعه، ولا يوجد طاغٍ في التاريخ إلا وهو صنيعة شعبه بنفاقهم مع الطغاة، أو تخاذلهم عن نصرة المجاهدين، ومتى ما كانت هناك إرادة شعبية للتغيير الشامل، والإصلاح الجذري، والتجديد الرشيد؛ تحقق التغيير، وانطلق الإصلاح، وتتابع التجديد؛ وهنالك يأفل ظلام الاستبداد، وتشرق شمس الحرية، وينقشعُ الظلم والطغيان، وتهُبُّ نفحات القسط والعدالة، وينقشع الخوف والرعب، ويستتبُّ الأمن والاستقرار، وتجفف منابع الفساد، وتتفجر ينابيع الإصلاح، وتجتث شجرة الهوان، وتثبت شجرت الكرامة التي تؤتي أكلها من العدالة الشاملة، والحرية المتسعة، والأمن العام، والرفاه الرغيد؛ بشرعة الوحي السماوي، ومنهاج العقل الإنساني.
إن كلمة الكرامة والعزة التي تصدع بها الشعوب؛ هي الشجرة الطيبة التي تضرب بجذورها في أعماق القلوب، وتسَطِّرها صفحات التاريخ، وتمتد غصونها عبر الأثير في كل الفضاء الزمكاني؛ لتؤتي أكلها حيث يفوح منها عبق العدالة، وياسمين الحرية، وأريج الأمن، وأقحوان الرفاه كل حين بإذن ربها.وإن كلمة الذل والهوان التي ينهق بها الطغاة؛ لتنشر الرائحة النتنة للجور والإستبداد؛ هي الشجرة الخبيثة التي يمكن لإرادة الشعوب متى ما قررت وسعت أن تجتثها حيث لا قرار لها. قال الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء ﴾. 24-27 سورة إبراهيم.إن الشعب التونسي الكريم والحر الأبي، ومن بعده الشعب المصري الكريم والحر الأبي أيضاً؛ ضربا للعالم بشكل عام، وللشعوب العربية بشكل خاص، ولشعب المغرب العربي بشكل أخص؛ مثلاً طيباً في الصراع بين الحق الذي يؤمن به المجاهدون لتحقيق كرامةِ وعزةِ الإنسان؛ وبين الباطل الذي ينسجه الطغاة لإذلال وإهانة الناس؛ حيث يذهب زبد الطغاة جفاء، ويمكث ما ينفع الناس في ربوع الأرض؛ فالشعوب التي تنحاز للمجاهدين وأهل الحق ضد الطغاة وأهل الباطل؛ قادرة على الإصلاح الجذري، والتغيير الشامل، والتجديد الرشيد؛ بقدر ما تملك من إرادة المدافعة والممانعة والإباء والتضحية؛ لأجل الكرامة والعدالة والحرية والأمن؛ لأن الكرامة والعدالة والحرية والأمن ماء سيَّال لا ينقطع أبداً؛ ولكن لا يَصُبُّ إلا في القلوب التي حفرت في أعماقها أخاديد وأنهاراً وأودية من التضحية والإباء والممانعة والمدافعة، وجرفت زبد الخوف والنفاق والتردد من قاموس تفكيرها وسلوكها. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ ﴾. (17) سورة الرعد.إن مسيرة الإصلاح الجذري، والتغيير الشامل، والتجديد الرشيد؛ لا يمكن أن تُكْمل حركتها، وتبلغ أهدافها إلا عبر طريق ذات الشوكة الذي يصيب كل مفاصل الإنسان، ويدمي جميع أعضائه؛ بجراح الشهادة، وقراح السجون، وأنين التعذيب، وآهات الفقر، وآلام الغربة، وشهيق المطاردة، ومآسي الحياة. ولكن مَنْ يستقم على طريق ذات الشوكة فسوف تدول له الأيام بالنصر والظفر والفتح والغلبة والحكم الرشيد الذي يتأسس ويقوم على الكرامة والعدالة والحرية والأمن والرفاه. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾. (140) سورة آل عمران.إن جميع طغاة الدول العربية، وكذا جميع طغاة الدول الإسلامية؛ ليسوا إلا بشراً انحرفوا عن جادة الحياة؛ فخرُّوا من سماء الإنسانية؛ فاختطفهم طغاة الاستكبار الظالم، والاحتلال الغاشم؛ فحولهم إلى طغاةٍ عبيدٍ لهم؛ ليكونوا أدوات تخدير، ومواد سامَّة؛ لطمس الهوية الإسلامية، ومسخ الشخصية الإيمانية، ونزع الروح الإنسانية من الشعوب المستضعفة، ولشلِّ حركة الجماهير، وإيقاف نهضة الطليعة، وقتل إرادة المجتمع، والتحكم ببوصلة حياة الأمة؛ ولذلك لا يلبس طغاة الداخل المحلي إلا مخالب بمقاسٍ يفصلها أسيادهم طغاة الخارج الدولي؛ ولكن بقناعٍ محلي يختاره الطاغي نفسُه؛ ليتناسب والداخل الشعبي؛ فلا يوجد الآن في هذا الزمن المعاصر طاغٍ في العالم العربي، أو العالم الإسلامي إلا ويعتمد في بقائه على أركانٍ عنكبوتيةٍ وهي: 1- حماية طغاة الاستكبار الدولي؛ وما الطاغي المحلي إلا دمية بأيدي الاستكبار الدولي يلعب بها متى شاء، وكيف شاء. 2- قوات سلب الأمن بجميع فصائلها الظاهرة والخفية، وقوات الجيش التي لا يقودها ولا يسوقها إلا رؤوس فاسدة من صنائع الاستكبار الدولي؛ لإخماد صوت المستضعفين الأباة، وقمع حركة المجاهدين الحماة. 3- المال المغصوب الذي تشرى وتباع به الضمائر الميتة. 4- الإعلام المزور الذي يغرر بالجهلاء، ويعبث بعقول السفهاء. 5- كفاءات ( تكنوقراط ) المصالح الذين عَمُوا عن المجتمع، ولم يبصروا إلا ذواتهم. 6- وجهاء المال والجاه والنفاق، وأعيان النفوذ، والمنبطحين من زعماء العشائر والقبائل والمجتمع المدني. 7- نهيق الحمير التي تحمل أسفارا من العلم والمعرفة، ونباح الكلاب التي تلهف في كل الأحوال؛ وتتقنع بالدين الإسلامي، وتتشدق بالوحي الإلهي، وتتمظهر بالشريعة المحمدية؛ كذباً في الحديث، ونفاقاً في الشهادة، وزوراً من القول. 8- تمزيق المجتمع وتفريقه، وجعله شيعاً وفرقاً مذهبية وقومية وعنصرية؛ متصارعة متحاربة متناحرة؛ ليذهب بريح المجتمع، وكل قوته الذاتية، وجميع إمكاناته المكتسبة؛ بحيث تتوهم كلُّ فرقة من المجتمع بأن النظام الطاغي هو الذي ينجيها ويحميها من الفرق الأخرى.9- إصدار منظومة من القوانين العامة، والنظم الإجرائية؛ تربط وتعلق كل نجاح وتقدم للإنسان في مهنته أو اجتماعياته أو غيرها؛ بالخضوع لمنهج وشريعة النظام الطاغوتي؛ فمن يخالفها ويرفض الخضوع للعبودية يكون مآله الفشل والفقر والتهميش والعنت والضعة ونكد العيش ومرارة الحياة.10- الوعود الكاذبة، والتسويفات المزورة، والكلمات الملتوية؛ لتنفيس احتقان الناس، وامتصاص غضبهم، وتفريغ شحنات طاقاتهم، وتذويب تطلعاتهم، وتجميد حراكهم.ولكن متى ما تمكنت الشعوب من كشف وجه طاغيها، وتمكنت من نزع قناعه؛ هنالك تتيقن الشعوب أن حكم الطغاة أوهن من بيت العنكبوت، وأنها قادرة على إسقاطه من جبروت الجور والطغيان، وإخراجه من سدة الحكم والسلطان؛ فتنتفض وتثور على الطغاة والطغيان؛ فتتجه إلى بنيانهم الذي أسس على جرف هارٍ؛ فتقذف في قلوبهم الرعب؛ ليخربوا بيوتهم بأيديهم التي تلطخت بالجور والفساد، وأيدي المؤمنين الذين يدكُّون قواعد بنيان الطغاة؛ فيخرّ على الطاغي - ( وهو في غفلة وعدم احتساب لقوة إرادة الشعوب، وغيبوبة وانعدام الإحساس والشعور ) - السقف المتهالك، وتنهار الحصون الوهمية التي كان يعتمد عليها من الطغيان الدولي، والأمن المحلي، وبقية الأخشاب المُسَنَّدة التي اتخذها الطاغي سقفاً يستظل بها، وحصناً يحتمي به. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾. (2) سورة الحشر.وقال الله تبارك وتعالى: ﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾. (26) سورة النحل.وهنالك تنتهي صلاحيته، ويبطل مفعوله، ويسارع أسياده وآلهته طغاة الخارج الدولي الذين كان دوماً يعبدهم؛ وطال ما كان هذا الطاغي خادماً مطيعاً، وجندياً مخلصاً، وعبداً منصاعاً ذليلاً مهاناً لهم يسارعون في التخلص والتبرئ منه؛ حيث يعجزون عن نصرته؛ فينزعون مخالبه التي كان يغرزها في قلوب شعبه؛ لامتصاص دمائهم، وتهشيم عظامهم؛ فيُستبدَل بطاغٍ آخر، ويُترَك فريسة للذئاب والثعالب، أو تهوي به الريح في مكان سحيق. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ * لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴾. (74-75) سورة يــس.
إن الله تبارك وتعالى يمهل الطغاة وآباءهم يتمتعون بالسلطة والحكم إلى أن يطول بهم عمر السلطة، وشيخوخة الحكم؛ ولكن لا يهملهم دون زوال؛ فلا بدَّ أن تجري سنَّة الله في الكون والحياة؛ حيث يرى الناس أجمع كيف يُنْقِصُ اللهُ الأرضَ من الطغاة والطغيان الذين لا يعيشون إلا على جرف هارٍ من طرف الأرض بعيداً عن قلب الأرض وعدنها. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ﴾. (44) سورة الأنبياء.
إن سنَّة الله في نقص الطغاة والطغيان في الأرض لا تتبدل ولا تتحول، ولا يمكن لأحدٍ أبداً أن يمنعها أو يمسكها أو يعطلها عن الجريان. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾. (41) سورة الرعد.إن سقوط الطغاة ونهايتهم المدوية وإن كان يحدث في غفلة منهم؛ مع انعدام شعورهم وأحاسيسهم كلها؛ إلا أنه لا يقع فجأة، ولا يحدث قفزة من دون سابق إنذار؛ وإنما هو تراكماتٌ من الظلم والجور والبغي والاضطهاد والعدوان والطغيان؛ صنعته أيديهم الملوثة بالدماء والفساد؛ وقد كانت رسل الله تترى عليهم وتصيبهم بالقارعة تلو القارعة؛ لتوقظهم من سباتهم، وتنذرهم بسوء طالعهم ومصيرهم المشؤوم؛ كما كانت هناك القارعة المُنذِرة تلو القارعة المُنذِرة تترى وتتتابع، بل كانت هناك القارعة المُدمِّرة تلو القارعة المُدمِّرة؛ وهكذا تتتالى القوارع المُدمِّرة التي تحلُّ قريباً من ديارهم؛ فتقتلع الطغاة المعاصرين لهم من عروش السلطان والجبروت؛ لتقرع آذانهم الصماء؛ بأن وعدَ اللهِ آتٍ لاقتلاع كل طاغٍ؛ والله لا يُخلِفُ الميعاد. وهاهم الحكام الطغاة في العالم العربي، والعالم الإسلامي يرون الطاغي التونسي، والطاغي المصري، ومن قبلهم الطاغي السوداني، والطاغي العراقي؛ يتهاوون من عروش السلطان والجبروت. قال الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾. (31) سورة الرعد.فهل يستوعب الطغاة الدرس جيداً وكاملاً قبل أن تصيبهم القارعة المُدمِّرة؟ أم سيبيتون في غيي استكبارهم يعمهون؟الأيام القادمة كفيلة بالإجابة القاطعة حتماً.
https://telegram.me/buratha