عادل الجبوري
حتى كتابة هذه السطور يكون قد مر على اعلان تشكيلة الحكومة العراقية الرابعة وحصولها على ثقة مجلس النواب واحد واربعين يوما، وكما توقعنا وتوقع الكثيرون ان الامور لن تسير على مايرام، وان حالة الشد والجذب ستبقى هي المهيمنة على صورة المشهد العام في العراق، لاسباب وعوامل بعضها مزمنة وقائمة منذ وقت طويل، واخرى تبرز عند كل منعطف كنتيجة طبيعية للتفاوت والتباين الكبير بين الفرقاء السياسيين حول قائمة طويلة من القضايا الكبيرة والصغييرة على حد سواء.
وبعد مرور ستة اسابيع، مازالت قضايا من قبيل المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية الذي كان من المفترض ان يترأسه زعيم القائمة العراقية اياد علاوي وفق ما سمي بمبادرة البارزاني، مازالت معلقة، وهناك ايضا حزمة الوزارات التي بقيت شاغرة ومن بينها الوزارات الامنية كالدفاع والداخلية والامن الوطني ومعها رئاسة جهاز المخابرات وجهاز مكافحة الارهاب ومواقع امنية وعسكرية مهمة اخرى، وهناك الموازنة الاتحادية للعام الجاري 2011، والتي يبدو انها لن تخرج عن دائرة المساومات والصفقات السياسية المعقدة.
ومن اليسير جدا على المراقب ان يلحظ ان اجواء الاحتقان والتشنج السياسي بين رئيس الوزراء نوري المالكي والكتلة التي يتزعمها-ائتلاف دولة القانون-من جهة والقائمة العراقية بزعامة اياد علاوي من جهة اخرى عادت من جديد، لتصل الى حد تبادل الاتهامات بخصوص نقض الاتفاقية التي ابرمت بين المالكي وعلاوي برعاية رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني والتي مثلت المخرج المناسب في حينه لأزمة تشكيل الحكومة، وبعرقلة حسم موضوعة الوزارات والمواقع الامنية.
وفي مقال سابق تحت عنوان (المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية.. عقدة اخرى في الازمة العراقية!)-24/11/2010 ، قلنا انه "اذا كان هناك اتفاق سياسي يقضي بتشكيل المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية، فإن ذلك لا بد ان يتم من خلال مجلس النواب، وهذا يتطلب طرح مشروع المجلس الذي يحدد وظائفه وصلاحياته ومهامه وهيكليته، وموقعه بين السلطات العليا في البلاد ـ التنفيذية والتشريعية والقضائية ـ وطبيعي أن موضوعا كهذا سيخضع الى كثير من الجدل والسجال بين نواب البرلمان، ومن غير الممكن ان يحسم بجلستين أو ثلاث أو حتى أربع جلسات، كما هو الحال مع مشاريع قوانين سابقة اذ اما حسمت بعد وقت، او بقيت معلقة. والاشارة التي أطلقها رئيس القائمة العراقية والمرشح الوحيد لشغل منصب رئيس المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية اياد علاوي في الحوار الذي اجرته معه قناة (أي.ان.بي) اللبنانية مؤخراً، حملت دلالات مهمة حينما اكد "ان المعركة السياسية لم تنته، وان الفصل الأهم هو عدم تنازلنا عن الشراكة، وهو ما سيتبلور في الأيام المقبلة، وان الصفحة السابقة هي مصادرة الاستحقاق الانتخابي، والآن تجري محاولة مصادرة الشراكة الوطنية".
وربما لم يبتعد سياسي عراقي عن الواقع حينما وصف الوضع القائم بأنه عبارة عن دوران في حلقة مفرغة، كل واحد ينتظر ان يصاب الاخر بالتعب والاعياء ليكون هو الرابح في الجولة".
فمشروع قانون المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية لم يطرح للبحث والنقاش على طاولة البرلمان، والمواقف المطروحة بشأنه خلف الكواليس مازالت متباينة الى حد كبير، وهي لم تغادر بعد التفاصيل والجزئيات المتعلقة بالتسميات والتوصيفات، ناهيك عن القضايا المحورية المتعلقة بالوظائف والمهام والصلاحيات، وطبيعتها، هل هي تنفيذية ام رقابية ام تشريعية ام استشارية، وايا تكن من هذه فأنها تتطلب شرحا وتوضيحا من الصعب بمكان ان يفضي الى توافقات حقيقية خلال وقت قصير.
وبينما تتهم القائمة العراقية رئيس الوزراء بالسعي الى التنصل عن الاتفاقيات التي ابرمها والالتزامات التي تعهد بها، ويقول اعضاء فيها بالسر مرة والعلن اخرى، انه كان على استعداد للتنازل عن اي شيء لضمان منصب رئيس الوزراء، ليتنصل بعد ذلك عن كل شيء، يقول المالكي بصيغة او بأخرى ان القائمة العراقية تعمل ما بوسعها لاضعافه وافراغ منصب رئاسة الوزراء من محتواها من خلال المجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية الذي تريده ان يكون ندا للحكومة، ومن خلال فرض شخصيات معينة لوزارة الدفاع، ومواقع اخرى في الدولة.
ولعل المشكلة تزداد تعقيدا وتشعبا حينما تنسحب الخلافات والتقاطعات وتمتد الى قضايا تمس الواقع الحياتي اليومي للمواطن العراقي، مثل الموازنة المالية الاتحادية للدولة، التي من الطبيعي انه كلما تأخر اقرارها، كلما تعطلت الكثير من المشاريع الخدمية وخطط البناء والاعمار.
ولاشك ان هناك مؤشرات على نية بعض الاطراف اقحام مشروع الموازنة في معمعة القضايا الخلافية الاخرى كالمجلس الوطني للسياسات الاستراتيجية والوزارات الامنية، وهذا من شأنه خلق مزيد من الارتباك في الوضع السياسي لينسحب الى الوضع الامني، الذي شهد منذ انتخابات اذار-مارس الماضي وحتى الان تراجعا واضحا في بغداد وعدد من المحافظات الاخرى، حيث ارتفعت معدلات الاغتيالات بكواتم الصوت، والعمليات الارهابية النوعية بالسيارات المفخخة ضد الدوائر والمؤسسات الحكومية المهمة.
وترافق مع الارتباك السياسي والتراجع الامني، تدنيا في الخدمات، لاسيما الكهرباء، اذ شهدت عدة مدن عراقية تظاهرات جماهيرية حاشدة خلال الصيف الماضي كادت ان تطيح ببعض الحكومات المحلية، كرد فعل على تراجع ساعات تجهيز المواطنين بالتيار الكهربائي بالتزامن مع الارتفاع الحاد في درجات الحرارة، وعادت حمى التظاهرات الجماهيرية لتندلع من جديد في عدة مدن ومناطق على ايقاع التظاهرات والاحتجاجات في الشارع التونسي والمصري وغيرها، والمحرك هذه المرة هو الخدمات ايضا، ففي فصل الشتاء، اضافة الى سوء التيار الكهربائي، تبرز مشكلة طفح المجاري وغرق مناطق كثيرة جراء هطول الامطار، ناهيك عن عدم حصول المواطنين على الجزء الاكبر من مفردات البطاقة التموينية منذ بضعة شهور.
كل ذلك اوجد قدرا كبيرا من التذمر والاستياء لدى مختلف اوساط المجتمع العراقي، وهو ما ادركه بعض اصحاب القرار، واخذوا يتحسبون لما يمكن ان يترتب عليه من نتائج سلبية، لذا راحوا يعملون على امتصاص الغضب الشعبي، كما في توجيه رئيس الوزراء بخفض راتبه الشهري الى النصف واعادته الى خزينة الدولة، وكذلك اعلانه عدم نيته الترشح لولاية ثالثة رغم ان الدستور يتيح له ذلك، واصداره قرارا بتعويض المواطنين بمبالغ نقدية عن النقص في مفردات التموينية.
قد لاتكون مثل تلك الخطوات من حيث التوقيت كافية لاصلاح الواقع، لانها لايمكن ان تردم الهوة بين الفرقاء السياسيين، ناهيك عن ان المواطن العراقي لم يعد يثق بكثير من الوعود التي يطلقها كبار مسؤولي الدولة، ويرى فيها نوعا من الهروب الى الامام. اضف الى ذلك فأنه لم تلح اية مؤشرات في الافق على ان المرحلة المقبلة ستكون افضل من سابقتها.
https://telegram.me/buratha