قاسم السيد
كنت في قد طرحت في مقال سابق قضية حق التظاهر بإعتباره احد الحقوق التي يكفلها الدستور بل لعلي بالغت في توصيف هذا الحق حينما جعلت عنوان مقالي المذكور ــ حق التظاهر والأحتجاج هو لب الديمقراطية وجوهرها ــ ويبدو لي أن الأمر اصبح بحاجة لإعادة طرح الموضوع مرة اخرى بعد التغييرات العاصفة التي حصلت في كل من تونس ومصر نتيجة التظاهرات والأعتصامات التي تسببت بسقوط النظامين السياسيين في كلا البلدين وهو الأمر الذي لم يكن واردا بنظر أي من المحللين السياسين المتفائلين وان يتم ذلك بهذه الصورة السلسة وربما البسيطة والتي لا اجدني مجانبا للصواب ان وصفتها بهذا الوصف بل انه هو أمر يكشف حجم القدرة الهائلة التي تملكها الجماهير في إحداث التغيير اذا جرى توظيف هذه القدرة بصورة صحيحة مما يجعلنا نقف مليا امام تفعيل هذا الحق الدستوري ليأخذ بعده السياسي في تطوير التجربة الديمقراطية العراقية وتصحيح مسارها .ورغم ان الحكومة العراقية الحالية جاءت كنتاج عملية انتخابية شارك فيها طيف واسع من الشعب الا ان الديمقراطية في التعامل السياسي اليومي المباشر لم يكن لها ذلك الحضور كممارسة سلوكية لدى قيادات الطبقة السياسية الحاكمة فهي تمتلك حساسية شديدة من مفردتين أساسيتين في قاموس الديمقراطية هما المعارضة والمظاهرة.وتجسيدا لهذه الحساسية على أرض الواقع فقد تم معالجة قضية المعارضة من خلال إلحاق كل القوى السياسية التي تمتلك تمثيلا نيابيا بإعطائها مناصب وزارية في الحكومة ولكي يتم شمول الكل فلقد وصل عدد الحقائب الوزارية الى 42 حقيبه وزارية في أوسع تشكيل وزاري في تاريخ الدولة العراقية بحيث لاتملك دول عظمى بحجم الصين هذا العدد من الحقائب الوزارية وحتى يصعد الكل في قطار الحكومة فقد بلغ وزراء الدولة في هذه التشكيلة ثمان وزراء قسم منهم وزراء بلا حقائب بل ان الأمر قد اخذ بعدا أخر حين تأتي الأقتراحات الأخيرة لشمول الطوائف والمذاهب في المناصب الحكومية من خلال مناصب نواب رئيس الجمهورية هذه المرة حتى وصل العدد المقترح الى خمسة نواب لرئيس جمهورية بلا صلاحيات .أما قضية التظاهر فظلت قضية تؤرق المسؤولين كثيرا فعملية التسليم بحق التظاهر يفتح ابواب التساؤل على مصراعيها حين يفرض السؤال الكبير نفسه فما دامت كل القوى السياسية ممثلة في الحكومة وبقية مؤسسات الدولة فعلام هذه التظاهرات ومن يقف ورائها !!!والشيء لزوم الشيء فمادام لاتوجد معارضة فالأمر الطبيعي كما تنظر السلطات الحاكمة لدينا هو ان تختفي المظاهرة التي اصبح مجرد التفكير فيها يقابل بريبة شديدة من قبل هذه السلطات أما لو قدر وخرجت احدى المظاهرات سواء كانت بموافقة او بدونها فإن ردة الفعل الأولية للسلطات الحاكمة هو نسب هذه التظاهرات الى الحاقدين على مسيرة الديمقراطية الظافرة وأول هؤلاء المتهمين سيبرز اسم البعثيين و الذين يلجأون للتستر وراء الأحتجاجات ذات الصفة المطلبية لتنفيذ مأربهم السياسية غير المشروعة وهو التبرير الجاهز الذي يتم توصيف أي تظاهر به ولاادري كيف ان مسؤولينا الأكارم اختزلوا حراك هذا الشعب العظيم بهؤلاء القتلة ورأينا كيف كانت ردة الفعل المبالغ بها من قبل الأجهزة الأمنية حين تم التعامل بقسوة مع التظاهرتين التي حدثتا في كل من البصرة والناصرية احتجاجا على الواقع السيء للخدمات خصوصا مسألة الكهرباء حيث وصل الأمر ان اطلق الرصاص الحي على المواطنين المتظاهرين مما تسبب بحدوث ضحايا واصابات .ويبدو ان مسؤولينا يملكون رؤيا ضبابية عن مسألة حق التظاهر رغم تصريحاتهم الأخيرة من انهم يرحبون بخروج المظاهرات المطلبية المستوفية الشروط الأصولية لقيامها ولكي يكون الأمر اكثر ووضوحا لهم أرى من الضروري تقديم تعريف للتظاهر واسبابه حتى يمكن ازالة او على الأقل التقليل من هذه الحساسية الشديدة لقضية التظاهر.التظاهر هو اشبه مايكون بنشر ظلامة فرد او فئة او طائفة على الملاء وفي العلن من خلال تجمع او مسيرة او اعتصام ترفع خلال هذه العملية مجموعة من المطالبات والشعارات وتردد خلالها بعض الهتافات وليس بالضرورة ان يكون كل تظاهر او إحتجاج معادي للسلطة .ومن خلال هذا التعريف المبسط نستنتج ان مسألة التظاهر تحوي على وجه من اوجه الخصومه فهناك من يدعي انه مظلوم وهو المتظاهر وهناك من ينسب اليه الظلم وهو المتظاهر ضده والذي قد يكون مسؤولا في الدولة او رب عمل ولغرض البت في أحقية نشر هذه الظلامة من عدمه فإن من الضروري ان يناط أمر النظر بهكذا قضية الى جهة تكون محط ثقة للطرفين المتظاهر والمتظاهر ضده وهو بالتأكيد القضاء كأن يناط هذا الأمر بمحاكم البداءة حيث يتقدم من يريد التظاهر بطلب الى هذه المحكمة مقدما اسبابه التي تدفعه للتظاهر ومن خلال استماع المحكمة لكل من طالب تنظيم المظاهره والطرف الأخرالذي ستتم المظاهرة ضده تتخذ المحكمة قرارها اما بالموافقة او الرفض على ان يسمح بتمييز هذا القرار لدى جهات قضائية اعلى وعند اكتساب قرار الحكم الدرجة القطعية تبلغ وزارة الداخلية لغرض تأمين المظاهرة وحمايتها واخذ التعهدات على مقيميها بعدم التعرض بالأذى على ممتلكات الغير اضافة لتحديد مسار التظاهرة والشعارات التي ترفعها أما ان يناط أمر منح رخص اقامة التظاهرات بالأجهزة التنفيذية ومنها وزارة الداخلية فهو امر غير مقبول فكيف يكون في نفس الوقت الخصم هو الحكم .التظاهر والأحتجاج احدى الواجهات المهمة التي تعكس حيوية وفعالية العملية الديمقراطية في أي نظام سياسي في العالم ومؤشر على وعي الجماهير السياسي .وبما ان ديمقراطيتنا ابتليت بهذا النموذج التوافقي الذي يجعل الديمقراطية عرجاء في مسيرتها لأنها تمشي بساق واحدة بعد ان فقدت ساقها الأخرى التي تسمى المعارضة أرى من الضروري تعويض هذا النقص من خلال فتح الأبواب على مصراعها امام ممارسة حق التظاهر ليكون مرآة تعكس رأي الجمهور في الأداء الحكومي ولكي تنوب عن المعارضة المغيبة حتى تتكون صورة واضحة لدى المسؤول عن ادائه اولا بأول وكذلك مساهمة هذه التظاهرات بكشف الفساد الذي تضرب اطنابه مفاصل الدولة بحيث اصبحنا نحتل مراتب متقدمة على الصعيد العالمي في سلم الفساد.قبل الأنتفاضتين المصرية وقبلها التونسية كان التعكز بالوضع الأمني مبررا يتم تسويقه لسد باب الذرائع امام أي محاولة للتظاهر والعذر المسلفن الذي يقدم دائما للأعتذار عن الموافقة على ممارسة هذا الحق فلطالما سمعنا تعلل المسؤولين بالخوف على المتظاهرين من ان تنالهم العمليات الأرهابية لتسبيب رفضهم قيامها رغم ان كل التظاهرات التي خرجت سواء بموافقات اصولية او التي خرجت بدونها هي تظاهرات مطلبية في جلها بسبب نكبة الخدمات اما الأن وبعد زلزال هاتين الأنتفاضتين اصبح من غير المقبول تسويق نفس الأعذار لمنع التظاهر .يتعامل المسؤولين تجاه التجمعات الجماهيرية بمكييالين فهم في حين يجندون امكانيات الدولة برمتها عسكرية ولوجستية لخدمة المسيرات المليونية خصوصا في الزيارة الأربعينة وهو أمر لاإعتراض عليه بل نشد على الأيادي التي تحرص على مساعدة الناس على اتمام هذه الشعيرة بكل يسر وسهولة لكن العجب كل العجب من ان هذه الملايين لايجري منعها من الأشتراك في هذه المسيرات المليونية بنفس الحجة الأمنية التي يجري منع بضع مئات وربما قد يصل عددهم الى بضع الاف من المتظاهرين .إذن الأتكاء على دفع أذى الأرهاب عن المتظاهرين بحجة يصعب تسويقها بحكم واقع الحال الذي يشهد فيه انطلاق المسيرات المليونية لتمارس فيه قطاعات واسعة من الشعب طقوسها الدينية دون ان يحول بينها وبين ماتريد ممارسته حائل رغم انه من الأمور المسلم بها تعرض مسيرات هذه الزيارات المليونية لأعمال ارهابية هنا وهناك مهما بلغت درجة الأحتياطات الأمنية لكون من يقوم بها هم من الأنتحاريين الذين ينظرون بكراهية شديدة تصل الى درجة قتل أنفسهم ليقتلوا معهم اكبر عدد من هؤلاء الزوار بحكم مايحملونه من موروث الفكر التكفيري للسلفية الوهابية الذي يجعل من قتل هؤلاء الأبرياء تقربا الى الله وفق منطلقات هذه العقيدة الفاسدة مستغلين الثغرات الأمنية التي يسببها طول الطريق الذي تسلكه هذه الملايين وحجم الحشود الهائل الذي يصعب حمايته في مثل هكذا استهداف . اتمنى ان تؤخذ هذه المطالبات بعين الأهتمام وعدم الركون لتوصيفات البعض من ان لاخوف على التجربة لكون التشرذم الأجتماعي والسياسي في العراق يحول دون قيام تظاهرات مليونية وهو يشابه نفس توصيف رجال النظام المصري وقبله التونسي في البدايات الأولى لأنطلاق الأنتفاضتين في كلا هذين البلدين وان تغيرت المفردات وكذلك عدم الأطمئنان من ان هذه الحكومة حكومة منتخبة لاخوف عليها فالكل يعرف ان الدستور وقانون الأنتخابات لم يستوفيا الشروط المطلوبة لقيام نظام ديمقراطي يطمئن اليه وقبل ان تتراكم صيغ المنع لقيام تظاهرات لتخلق موجة من التحدي يصعب السيطرة عليها فإن تنظيم حق التظاهر واتاحته بكل سهولة ويسر سيمكن اجهزة الدولة من الأستفادة من هذه التظاهرات في تعديل الأداء الحكومي وإبعاد المفسدين اصحاب النفوذ الذين سيجردهم الشارع في حالة احتشاده من هذا النفوذ .
https://telegram.me/buratha