زهراء محمد ـ المملكة المتحدة
تمر هذه الايام ذكرى تهجير مكون من مكونات العراقية الاصيلة في ارض ما بين النهرين .. المكون ذاك اناسه عُرفوا بطيب ونبل خلقهم، يمتازون بالشجاعة والقوة، وحب مشاركة ومساعدة الجميع سواء للعربي السني ام للشيعي ام للمسيحي ام للتركماني، لم يكونوا يتحسسوا أبداً من الآخرين.. بيوتهم مفتوحة بمضايفها للقريب والبعيد، للفقير والغني.. اناس مسالمون لا تخاف منهم شراً ولا غدراً.. كانوا لحد عقود قليلة مضت يعيشون بوئام وفرح مع إخوانهم العراقيين، حياة هانئة ومطمأنة آمنين في بيوتهم.. أفراحهم يشاركونها مع الآخرين، أتراح الآخرين يحملون همّها كما كأنها هي همّهم. أصالتهم تعكس طيبة، إنعكست على حياتهم وفي مخالطتهم للآخرين من أبناء بلدهم، لم يصطنعوا حواجز قومية أو إجتماعية مع أي كان، الجميع بالمقابل لم يروا من هذه الشريحة إلا حب للاخرين وتفاني ووفاء في الصداقة والجيرة. لم يفكر الفيلية يوما بانهم خارجين عن تلك الارض وعن ناسها، إمتدت أياديهم مسالمة للآخرين قبل قلوبهم، وقلوبهم ينبعث منها الود للكل. هكذا كانت الحال، كنا نعيش في موزائيك عرقي وأخلاقي، الجميع يشارك ويبارك الجميع. الناس لم ينتبهوا الى بعضا من الهمّ حمله الكثير من أبناء هذه الشريحة، همّا حملوه في قلوبهم بصمت؛ هّم قانون جنسية سنّته أيادي أجنبية ذات باع في تأسيس دولة العراق الحديث، مع تركة وإرث عثماني، كان يشير باصبع إتهام لكثير ممن من كانوا لهم إخوة في الدين. نعم الكثير من العراقيين لم ينتبهوا الى الالم الملازم لتاريخ هذه الشريحة، واستهداف معظم الحكومات لكثير منهم، إستثناءهم من قطاعات مهمة، ومن سلالم وظيفية عديدة ، أغلقت أبواب كثيرة بوجه أبنائهم، ولكنهم لم يشتكوا، كان ظلهم يمشي على الارض ولم يفارقها إلاّ عنّوة حين تستفيق عند بعض المسؤولين غريزة الانتقام، ويتعرض حينها الفيلييون الى حملة تهجير الى الجارة إيران، بحجج وحجج، وبقميص عثمان أو بالاحرى بقميص عثماني، بعدما صار هذا لباسا رسميا لدولة أدُعي حينها انها جديدة وعربية خرجت من رحم إمبراطورية عثمانية، إمبراطورية وقّع كمال أتاتورك والغرب على شهادة وفاتها، لتخلف ورائها مطبخاً فيه من ما فيه: سكينة صدئة ذبحت بها الكثير من إبناء هذا البلد الجديد: شيعتها (نعم سكين تهمة التبعية الايرانية). وفي هذا المطبخ عينه طبُخت طبخات عجيبة غريبة لقوانين ليعالج بها الحكام الجدد خصوبة فكرية وبشرية لشيعتها وكوردها في نفس الوقت!! أما حصتنا نحن الفيلية منها فكانت صحون مزدوجة واحدة لشيعيتنا، والثانية لكورديتنا، وفي هاتين تمّيزنا عن الآخرين وعن رفاق درب. نعم مضينا على هذه الحال لعقود نعاني طويلا وتحت وطئة مزاجية من يكون في السلطة وقتها!! فشهدنا الى جانب آخرين من إخواننا العرب الشيعة تسفيرات في أربعينيات القرن الماضي، وستينياته، وسبعينياته، ورغم كل ذلك لم نفقد الامل، وظللنا نحمل نفس الامال والمحبة للكل، وكنا نتظلل بتاريخ مشترك واصرار على الاعتقاد بان الارض تلك هي للجميع، وفيها من عقائد مختلفة، باختلافها قرّبت آناسها بعضهم من بعض، ليسود وئام إجتماعي جميل. ولكن.. ولكن.. مزق هذا الوئام الجميل، وتلك الاحلام الهانئة، وصول طغمة مجرمة مزّقت ذلك النسيج الاجتماعي الغني تمزيقا.. بعثت وعبثت أياديه بقيم كثيرة، كان العراقي يفتخر بها، تسلل الشر، تغيرت أعراف، تغللت طباع غريبة عن مألوفنا، صار الجار يتحين الفرصة بالجار، والصداقة تغيرت صفاتها، مفاهيم قومية مشروعة صارت سلاحاً يصوب نحو شركاء الارض.. ذبحونا باسم العروبة (وهم بعيدون عنها) والعنصرية، ليتوج البعث ويبدأ في مثل هذه الايام من شهر أبريل في عام 1980 حملت إستئصال كبيرة للفيلية لم يسبق أن قائم بمثل حجمها قبلهم من أحد، داهمتنا قوى (اللا أمن) ونحن آمنون في بيوتننا، سرقوا أحلامنا قبل كل شيء، ومن ثم سرقوا إخوتنا وأحبتنا، وسرقوا بيوتنا، أودعونا السجون لفترات، صادروا كل وثاقئنا، أسقطو الجنسية عنّا، وقتلوا شبابنا وصار دمهم مستباح في تجارب لا إنسانية! أبعد النظام ما يقارب نصف مليون فيلي في من أبعد، وليعيش العراق والعراقييون ولعقود ثلاث ونصف في ظلام دامس!.. حل بالبلد الدمار محل الرخاء نتيجة لنزق أحدهم، ونرجيسته، قاد البلاد، وعُمّارها الى الهلاك، والى حرب بعد حرب، ليخرج البلد بعدها منهوك القوى ومحطماً..وأيضا في مثل هذا الايام من هذا الشهر عينه، نعم في هذا الشهر ذاته يأبى الله إلاّ أن ينتقم من طاغية عاث في الارض فساداً، قتل العلماء، والعباد، وأبعد الآلاف، وإجتز أحلامهم.. في مثل هكذا أيام تسارعت عدسات العالم ومن كل صوب لتسلط أنظارها صوب بغداد الجريحة، ولتنقل فرحة العراقيين في الداخل قبل المهاجر لحظة سقوط الصنم، كان مراسلي صحف وتلفزيونات العالم كله، منها البريطانية والاوربية والامريكية والاسيوية يتسابقون لنقل فرح الناس وهم يصرخون ويهتفون بعفوية، صرخات فرح عارم من أفواه كُممت لاكثر من ثلاثين عاماً. هذه الصحف والمحطات التلفزيونية سارعت للقاء العراقيين في الداخل والجاليات العراقية في الخارج.. فقد زارنا مراسل لصحيفة بريطانية يومها، والتلفاز ينقل تلك اللحظات بتفاصيلها التي كانت تشبه الحلم، كنت أضحك، وابكي رغم فرحي.. والمراسل ينظر في وجوهننا مندهشا لكل تلك المشاعر العارمة، ويسألني: زهراء ولكن لماذا تبكين؟؟ أليس من المفروض ان تكوني فرحة؟؟ فقلت الانسان عندما يكون في قمة فرحة يبكي لان المشاعر تختلط ..انا صحيح فرحة، لكن حزينة بشكل من ما قد يخبىء لنا القدر بعد كل تلك الفرحة؟؟ وبالفعل اول صدمة لنا كانت بعد أسابيع قليلة إلاّ ويردنا خبر استشهاد اخوتي وابناء عمومتي والعشرات من أقاربنا المحجوزين جميعا ومنذ بداية الثمانينات من القرن المنصرم.. وبطرق بشعة وتصفية اكثر من عشرون الف شاب وشابة من الفيلية حتى الوليد والجنين في بطن امه.. يصحو العراق كله على صدمة ، وتفيق الامهات في جنوب العراق ووسطه وشماله من حلمها الجديد، وتتراكض من قبر جماعى الى آخر بحثا عن حبيب قلب، غيبته يد طاغية لم يعرف الرحمة، وبطش بكل هذه الآلاف لا لذنب أو جرم إقترفوه، خابت الامال، حتى السجون بمئاتها الموزعة على أنحاء العراق كانت فارغة، وليس فيهن من أثر لسكانها.. آلاف مؤلفة أنزلتهم يد قاسية الى تحت أرض العراق عنوة ليواروا الثرى جماعات جماعات.اليوم بعد ثمان سنوات عقيمة بالنسبة لنا الكرد الفيلية حيث اسقطنا سهواً مراراً!! ثم عدم المبالاة بقضيتنا ثانيا والتي هي من القضايا المهمة في العراق.. مكون كامل تعرض الى التهجير والتجارب وسرقت ممتلاكاتهم المنقولة وغير المنقولة وامام الجميع؟! بيوتنا صارت مغانم لبعض العراقيين من الذين لايملكون الحياء او الضمير..لا الدين انصفنا، ولا الحكومة الوطنية الديمقراطية الجديدة ارجعت حقوقنا؟! اين مراجعنا؟؟ اين حكومتنا؟؟ اين اعضاء البرلمان؟؟ اين العراقيين الشرفاء ؟؟ وأيضا من مفارقات دهرنا انه في هذا الشهر أيضا، شهر أبريل، في الرابع منه، كانت خيبتنا كبيرة باعضاء البرلمان العراقي بعربه وكرده وتركمانه وشيعته وسنته، ومسيحيه (مع قلة تمثيل هؤلاء فيه) (هذا البرلمان أُبعدنا نحن منه بوسيلة وبأخرى)، كانت صدمتنا أعمق من سابقاتها حين خطفوا الفرحة من قلوبنا، حين طرح مشروع قضية إعتبار ما تعرض له الكورد الفيلية إبادة جماعية!! لتهزنا أخبار تسلل الكثير من اعضاء برلماننا الموقر الى خارج القاعة، في حركة واضحة كان الهدف منها هو إسقاط المشروع!!! لماذا ياهذا وذاك؟؟ لماذا خرجتم من البرلمان ساعة طرح الملف الفيلي؟؟ هل انتم على الدرب سائرون ام ماذا؟؟!! ماذا فعل الكورد الفيلييون ليستحقوا منكم هذا الجفاء؟!! نحن الكرد الفيلية سوف نصرخ كما صرخنا في الثمانينيات وسوف نطرق ابواب العالم ونقدم شكاوينا... لم نعلم ان صدام ترك بيوضه في العراق لتتفقس عن طيور جارحة تبحث عن دماء جديدة؟؟ سقوط صدام رد العافية لتربة العراق التي فاضت دماء زكية كثيرة عليها، تربة تصرخ فيكم فهي إكتفت دماً ، وتستصرخ طالبة ماءً وأملاً، وإنصافاً لشهداء إحتضنتهم طويلاً، ولذويهم في هذا العهد الجديد. ونحن نشكر كل السياسين الذين وقفوا معنا في محنتنا لانها محنة ابرياء ظلموا بسبب حبهم للعراق، وحبهم لماء دجلة والفرات، حبهم لجباله، حبهم لنخيله، وحبهم لصحاري العراق التي تحت ترابها يرقد أحبة لنا.
https://telegram.me/buratha