عادل الجبوري
يعتبر آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر رائد مشروع حضاري متكامل ـ على صعيد النظرية ـ اكثر من غيره من المفكرين المعاصرين رغم ان رحيله المفاجئ حال دون بلورة ذلك المشروع على ارض الواقع كما كان يراد ويريد له صاحبه. ورغم ان المرحلة التي عاشها والظروف التي واجهها لم تكن لتشكل أرضية مناسبة لصياغة مشاريع واجتياز تحولات شاملة لا تقتصر على جانب واحد من التفاعلات الانسانية.مع ذلك فان الاسلوب الذي انتجه الشهيد الصدر اتسم بقدر كبير مع الفاعلية سواء من حيث الربط بين مفردات الحياة المتعددة او من حيث ملامستها ومحاكاته للواقع وهذا ما اتضح جلياً في انجازاته الفكرية المختلفة كفلسفتنا واقتصادنا والبنك اللاربوي والاسس المنطقية للاستقراء وغيرها، هذا مع الحفاظ على الجانب الموضوعي في البحث لأجل الوصول لنتائج صحيحة. واذا كنا نقول بعدم تبلور المشروع الحضاري للسيد الشهيد الصدر على ارض الواقع العملي، فان ذلك لا يعني انه بقي حبرا على ورق ولم يجد من يتفاعل معه ويأخذ به، بل ويجتهد في البحث عن امكانيات منحه صفة العالمية. وهذا أمر طبيعي حينما تقوم الأمة بالتفتيش عن عوامل نهضتها في ذاتها وفي تاريخها وفي دينها ـ ونفس الشيء تقريباً ـ مع اختلاف طبيعي للمرحلة والظروف حصل مع السيد جمال الدين الحسيني الاسد آبادي، وعبد الرحمن الكواكبي، ومالك بن نبي وسيد قطب وربما غيرهم آخرين فهؤلاء صاغوا مشاريع لانتشال الامة من وطأة الواقع السيء الذي كانت ترزح تحت وطأته والمتمثل اساسا بالسيطرة الاستعمارية بصورها واشكالها المتعددة وشيوع ثقافات الغرب وقيمه وتهميشها للثقافة الاسلامية وقيم ومبادئ الدين الاسلامي الحديث.وقد ساهمت تلك المشاريع في تحقيق انجازات وتحولات على أكثر من صعيد، فهي طرحت تطورات ورؤى قيمة للمستقبل، وأدت الى تنمية الوعي العام ومعرفة افراد الأمة وادراكهم لجوهر المهام الملقاة على عاتقهم والتنبية للآثار الخطيرة للحلول المستوردة، فضلاً عن ذلك كله فانها منحت شحنة من التفاؤل والأمل بالغد ارتباطاً بوجود نخب حملت على عاتقها هموم الأمة ومشاكلها وشمرت عن سواعدها لتبحث عن السبل والوسائل الناجحة لازاحة الهموم وتطويع المشاكل.ولعل ما ميز مشروع الشهيد الصدر عن مشاريع اسلافه من المفكرين هو عمقه الفلسفي الفكري أولاً وعناوينه المتعددة ثانيا واقترابه بل التصاقه من حاجات الامة المادية والمعنوية ثالثا ومخاطبته للجميع بعيداً عن الاعتبارات الطائفية والمذهبية والفئوية رابعا. بعبارة اخرى ان مشروعه اتخذ ابعاداً انسانية واسعة لغاية عبرت عن طبيعة تحديات العصر وتعقيداته وتشابكاته.النظرية السياسية وموقع المرجعيةومن هنا يمكننا القول ان المشروع الحضاري للسيد محمد باقر الصدر ارتكز على ثلاثة ابعاد رئيسية، البعد السياسي، والبعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي.وبالنسبة للبعد السياسي فانه يتمثل بالنظرية السياسية في الحكم التي اتخذت شكلاً أكثر وضوحاً وتحديداً في مرحلة متقدمة جعلت من المرجعية محوراً اساسيا للعمل والتحرك ولقيادة الأمة وتوجيهها توجيها سليما.وقد قام السيد الشهيد باعادة ترتيب المفردات السياسية نظريا في الأمة وفي واقع العمل المرجعي بالصورة التالية:أولا: اطروحة المرجعية الموضوعية وهي الاطروحة التي أوضح الشهيد فيها تصوره عن التركيب الذاتي للقيادة واجهزتها ودورها في الأمة والتي تعتمد على المرجع، وجهازه الخاص.ثانياً: المرجعية تعني شيئاً أوسع من مجرد المرجع القائد وجهازه الخاص (الحاشية) فهي بالاضافة الى ذلك تشمل جهاز الحوزة والوكلاء والمبلغين وامتداداتها في جهاز المرجعية ولابد ان ترتبط الامة بمجموعها مع المرجعية من خلال الاتصال المباشر.ثالثا: لابد ان يكون الاطار العام لتحرك المرجعية (سياسيا) هو الاطار العام لجهازها الذي يبدأ (ذاتيا) ليتحول (موضوعيا) اذا تحققت شروطه وظروفه ومقوماته.رابعا: ان هذا الاطار السياسي ليس شيئا جديدا في تاريخ التحرك السياسي البشري بل هو امتداد لحركة الأنبياء كلها ولحركة الأئمة (عليهم السلام) وان هذا يمثل النظرية الاسلامية في خلافة الانسان وشهادة الانبياء وان المرجع يمثل امتداداً للانبياء والأئمة.خامسا: العلاقة بين القيادة (المرجعية) والحركة الاسلامية (التنظيم) هي علاقة قيمومة من القيادة على الحركة الاسلامية مع اسناد ودعم لها ضمن الدعم والاسناد لمجمل العمل الاسلامي في الساحة.سادسا: الامة لها دور الرقابة على حركة المرجعية كما ان لها دور انتخاب المرجع من خلال الوسائل الشرعية (دراسات من فكر الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر، مركز دراسات تاريخ العراق الحديث.الطبعة الثانية 1998ص35).وقد كان انتصار الثورة الاسلامية في ايران بزعامة الامام الخميني تحولا سياسيا مهما، سواء على صعيد العالم الاسلامي او على النطاق العالمي ككل، شجع الشهيد الصدر على توضيح ملامح النظرية السياسية بشكل اكبر من خلال الافكار الثرة التي اوردها على مشروع دستور الجمهورية الاسلامية وهو ضمن هذا الاطار يؤكد على الحقائق التالية:أولا: ان الله سبحانه وتعالى هو مصدر السلطات جميعا.ثانيا: ان الشريعة الاسلامية هي مصدر التشريع، بمعنى انها هي المصدر الذي يستمد منه الدستور وتشرع على ضوئه القوانين في الجمهورية الاسلامية.ثالثا: ان السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية قد اسندت ممارساتها الى الامة، فالامة هي صاحبة الحق في ممارسة هاتين السلطتين بالطريقة التي يعينها الدستور، وهذا الحق حق استخلاف ورعاية مستمد من مصدر السلطات الحقيقي وهو الله تعالى، ويعود الى الأمة انتخاب رئيس السلطة التنفيذية بعد ان يتم ترشيحه من المرجعية وينبثق عن الامة بالانتخاب المباشر مجلس هو مجلس أهل الحل والعقد.رابعا: المرجعية الرشيدة هي المعبر الشرعي عن الاسلام والمرجع هو النائب العام عن الامام من الناحية الشرعية.خامسا: الامة هي صاحبة الحق في الرعاية وحمل الامانة وافرادها جميعا متساوون في هذا الحق امام القانون ولكل منهم التعبير من خلال ممارسة هذا الحق عن آرائه وأفكاره وممارسة العمل السياسي بمختلف أشكاله، ان لهم جميعا حق ممارسة شعائرهم الدينية والمذهبية (الاسلام يقود الحياة، الشهيد الصدر، ص11 مطبوعات وزارة الارشاد الاسلامي).المشكلة الاقتصادية بين الاشتراكية والرأسماليةيكاد الشهيد الصدر يتميز بمتانة وعمق الاسلوب الذي استخدمه في تناوله للمشكلة الاقتصادية في مضمونها العام من خلال جملة مؤلفات ابرزها اقتصادنا والبنك اللاربوي في الاسلام. فقد بدأ بتحليل وتفكيك عناصر النظرية الاقتصادية الاشتراكية ، اذ كشف عن مواضع الضعف والقصور فيها وعدم تطابقها مع الواقع، أضف الى ذلك فانه دحض الفكرة القائلة بالعامل الواحد ـ الاقتصادي ـ في تفسير التاريخ ورأى انها تعبر عن رؤية احادية الجانب لمسيرة المجتمعات البشرية وتجاهل فاضح لجوانب أخرى عديدة لا لشيء سوى محاولة اخضاع الواقع للنظرية بصرف النظر عن صحة الاخيرة او عدم صحتها ، فضلاً عن ذلك فان تجاهل الفرد ودوره وقيمته والتأكيد على الكيان الجماعي يعد واحداً من مكامن الضعف والقصور في النظرية الاشتراكية والذي أفضى عند التطبيق الى حصول مشاكل كبرى كان لها آثارا اجتماعية جمة اضافة الى آثارها الاقتصادية.نفس الشيء فعله السيد الشهيد مع النظرية الرأسمالية القائمة على اساس الاقتصاد المفتوح والحرية الفردية بصورة تكاد تكون مطلقة، فقد قام بطرح كافة الابعاد السلبية والايجابية فيها للتحقق من مدى فائدتها وضررها ومن خلال الاحتكام الى تجربة طويلة امتدت عدة مئات من السنين يمكن ان تكون كافية لدراستها دراسة دقيقة وصياغة تقييمات ان لم تكن موضوعية بالكامل فانها بلا شك ستكون قريبة من الموضوعية الى حد كبير.ان المشكلة الرئيسية تتمثل في كون الاشتراكية ـ الشيوعية اهتمت بالمساواة على حساب الحرية، في حين ان الرأسمالية ركزت على الحرية على حساب المساواة بيد ان كليهما ـ المساواة والحرية ـ ضاعتا بين متاهات كم هائل من التبريرات والذرائع الواهية التي عكست مصالح فئات وشرائح محدودة في المجتمع.وارتباطاً بذلك فان السيد الشهيد طرح البديل الاسلامي وحدد له الاطر العامة والمتمثلة بما يلي:ـ تمكين الفرد المتدين من طاعة ربه والخروج عن عهدة التكليف في سلوكه الخاص.ـ الحفاظ عملياً على ما يمكن للفرد المتدين الحفاظ عليه وتبنيه في واقع الحياة كتعبير حي عن الايمان برسالة السماء والاصرار على انها هي المنهج السوي للحياة وعن الرفض الضمني لاي نظام اجتماعي آخر.ـ تحقيق نصيب من العدالة الاجتماعية التي يتوخاها الاسلام بالقدر الذي تتسع له قدرة الفرد المتدين في مجال التطبيق وقد يكون من اروع الامثلة على ذلك الدور الانساني الرباني الذي تقوم به فريضتا الزكاة والخمس في مجال التكافل الاجتماعي ورعاية الفقراء البائسين.ويشير الشهيد الصدر الى ان الاقتصاد الاسلامي يتفق مع كل المذاهب الاجتماعية الاخرى في ضرورة الاهتمام بالانتاج وبذل كل الاساليب الممكنة في سبيل تنميته وتحسينه وتمكين الانسان الخليفة على الأرض من السيطرة على المزيد من نعمها وخيراتها، ولكن الاسلام حينما يطرح تنمية الانتاج كقضية يجب السعي اجتماعياً لتحقيقها ووضعها ضمن اطارها الحضاري الانساني ووفقا للاهداف العامة لخلافة الانسان على الأرض، ومن هنا يختلف عن المذاهب الاجتماعية المادية في التقييم والمنهج اختلافا كبيرا، فالنظام الرأسمالي مثلا يعتبر تنمية الانتاج هدفا بذاتها بينما الاسلام لا يرى تجميع الثروة هدفا بذاته وانما هو وسيلة لايجاد الرخاء والرفاه وتمكين العدالة الاجتماعية من ان تأخذ مجراها الكامل في حياة الناس وشرطا من شروط تحقيق الخلافة الصالحة على الارض واهدافها الرشيدة في بناء مجتمع التوحيد.والاقتصاد الاسلامي ـ حسب السيد الشهيد ـ يؤمن بان مصادر الثروة الطبيعية كلها لله تعالى وان اكتساب حق خاص في الانتفاع بها لا يقوم الا على اساس الجهد والعمل ويؤمن أيضا بان أي انتاج بشري للثروة الطبيعية لا يعطي حقاً في الثروة المنتجة الا للعامل المنتج نفسه وليست الطبيعة او وسائل الانتاج الا ادوات لخدمة الانسان. ويؤمن ايضا ان على الدولة ان توفر مستوى معيشيا موحدا ومتقاربا لكل افراد المجتمع وذلك بتوفير الحد المعقول من جانب والمنع من الاسراف وتحريمه من جانب آخر.ويؤمن ـ ايضا ـ بان عليها الحفاظ على التوازن الاجتماعي للحيلولة دون تركيز الاموال وعدم انتشارها (صورة عن اقتصاد المجتمع الاسلامي، اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر منشورات قسم الاعلام الخارجي في مؤسسة البعثة، ص30).البعد الاجتماعي والاتجاه نحو التكاملفي حقيقة الامر ان البعد الاجتماعي في المشروع الحضاري للسيد محمد باقر الصدر يعتبر القاسم المشترك بين البعدين السياسي والاقتصادي والابعاد الثانوية الاخرى. فمجمل مفاصل النظرية السياسية وكذلك جوهرها ومضمونها العام ينطوي على جانب اجتماعي على قدر كبير من الاهمية متمثلا بالعلاقة بين السلطة ـ المرجعية العليا او المؤسسات التشريعية والتنفيذية والقضائية وبين عموم افراد المجتمع وكذلك المشاركة في النشاطات السياسية المختلفة كالترشيح والانتخاب وما الى ذلك من أمور.وكذا الحال مع البعد الاقتصادي فان النظرية الاقتصادية الاسلامية تحمل مضامين اجتماعية لا نعثر عليها في النظريتين الاشتراكية والرأسمالية من قبيل المساواة بين الجميع والحرية الفردية الخاضعة لضوابط وقيود محكمة باحترام حرية وحقوق الآخرين.وطبيعي ان الاتساق والتوافق بين الابعاد الثلاثة ـ السياسي والاقتصادي والاجتماعي ـ تحت اطار العنوان العام للاسلام كمنهج متكامل للحياة سيفضي الى واقع جديد تغيب فيه الكثير من الظواهر والمظاهر الشاذة والخاطئة والبعيدة في معظم الاحيان عن معايير الدين والاخلاق والانسانية وولادة الواقع الجديد الذي هو ثمرة المشروع الحضاري للشهيد الصدر وهو الحل السليم لمشكلات العالم الاسلامي وازماته وتداعياته.
https://telegram.me/buratha