المقالات

معالم النجف الأشرف، المدرسة الشُبريّّة أنموذجا..

3165 23:25:00 2011-04-16

بـقـلـم : مُـحـمّـد جواد الحُـسـينـي

في محافظة النجف الأشرف وفي داخل أسوار المدينة القديمة (الاسم الإداري) أو الولاية (تسمية عامة الناس) تقع محلة تراثية تسمى بالبراق، المار بها يظنّ نفسه يتمشى في الخمسينيات من القرن الماضي لما يرى من بناء قديم، يخشى أن يقع على رأسه في أي لحظة! وشوارع ضيقة تتسع لشخصين لا لثالثهما، وأناس طيّبون كأنهم لم يخرجوا من هذه الـعكَود (الشوارع الضيقة بلهجتهم) قط!.

ولماذا يخرجون وكل شيء في متناول يديهم؟ فسوق النجف هي المدينة القديمة، نعم إنهم ولدوا داخل هذه الأسوار وعاشوا بها، العالم يتغيّر ويتطوّر والشوارع تتسع والأبراج تُشيّد وأهل المدينة القديمة؟ باقون كما هُم! سيموتون في نفس البيت الذي وُلدوا به، وفي نفس الشارع الذي لعبوا به وربما لا حاجة لنقل الجُثة بالسيارة، فالمقبرة على بُعد أمتار من محل سكناهم.

إذن أنا أتمشّى داخل التراث النجفي الأصيل الذي حافظ على نفسه بمساعدةٍ من البعث العربي الإشتراكي، الذي ساهم في حفظ تراثه، بقطعه جميع المشاريع الإعمارية والخدمية عنه.

على بُعد خطوات من بيت المرجع السيد السيستاني -الذي سكن البراق مُنذُ مجيئهِ النجف-، سَحَرَ ناظري المعلم الجميل الأصيل ذا الباب الكبير المصنوع من الصاج الثمين، المكتوب فوقه بخط الثلث العربي: (المدرسة الشُبّرية - أسسها سماحة الحجة السيد علي شبر الحسيني) .. نعم إنها المدرسة الشُبّرية العريقة التي سمعتُ عنها كثيراً وعن الفطاحل الذين درسوا بها، أمثال العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد مغنية والزعيم الباكستاني الشهيد السيد عارف الحسيني والشهيد الخطيب السيد جواد شُبّر والمرجع الشيخ بشير النجفي و الخطيب السيد محمد الحيدري والحجة الشيخ حسين الكوراني والخطيب الشيخ فاضل المالكي و الكثير من الفطاحل ممن نالوا مرتبة الشهادة وممن توفّوا وتركوا آثاراً في ساحة الحوزة الدينية وممن عادوا إلى أوطانهم زعماء دينٍ وخطباء منابر.

لم أستطع أن أتمالك نفسي فبيني وبين تلك الأجواء شجون وأطوار وساعات أنس خلت من ضواغط الحياة المزعجة، فهرعت نحو الباب أطرقها .. فُتحت لي الباب وخلفها رجلٌ كبير السن قد غزى شعره البياض، استقبلني بابتسامة ناصعة، دخلت معه وجلستُ على أريكة قديمة كأنها تُحفة تاريخية، قال لي: (صبحكم الله بالخير)، فرددتُ: (صبحكم الله بالخير والعافية) وذهب باتجاه المطبخ [حسب ما ضننت وقتها].

نظرت إلى باحة المدرسة، لقد ابتعدت عن كدر الحياة الممل من خلال النظر إليها، تخيّل لي بأني لستُ في عام 2006!! بل 1920!، كأن باحة المدرسة أعدّها مُخرجٌ درامي ليُصوّر مشهداً لاجتماعات قادة ثورة العشرين!..

فوق باب المدخل أثارت إعجابي الأبيات الشعرية المؤرخة والتي لم يُذكر ناظمها:

مديـنة العـــلمِ عــليٌ بـــابـــها قال رســـــول الله خيرُ البشـــــرِ

طوبى لمن ينتــجعُ العلمَ ومن شَيَّدَ مَدرَســــاً بأكـــْـنافِ الغـَري

مثلُ عليُّ القــدر من بفضــلهِ سما علاها مرَّ السُهى والمشتري

شيّدَها و(العملُ الأبقــى) لكي يجزيه باريه بـــيـــومِ المحشـــرِ

وفــوقها الإيمان أرّخ (كاتـبٌ شــــيّدها عــلــيُّ آل شُــــبّـــــرِ)

1386 هـ

عاد الشيخ بعد بضعة دقائق، بيده إناء ماءٍ واستكانة شاي، وضعهما على الطاولة الصغيرة التي أمامي قائلاً تفضّل، لم أفهم قصده من تفضّل، هل يقصد أن أشرب الماء وثم الشاي؟! أم يسألني عن سبب مجيئي وطرقي للباب!؟ شربتُ الماء وأثناء احتسائي للشاي بدأت أخبره عن السبب الذي أتى بي إلى المدرسة، وهو سحرُها وعراقتها وعظمة بنائها.. الوقوف أمامها يُشعرك بالروحانية.. أتيتُ لأراها عن قُرب، ابتسم الشيخ قائلاً: (ان الكثير من أمثالك يأتون إلى هنا بين الحين والآخر، ليطلعوا على المدرسة وليصوروا بعض الأماكن فيها، وكما يأتي الكثير لكتابة بحثٍ أو موضوعٍ عنها، فعلمت عند فتحي الباب أنك أمثال هؤلاء، لأنه لا أحد يطرق بابها إلا طالبُ علمٍ جاء ليزور صديقه الذي يسكن هنا أو رجالُ أمنٍ جائوا ليفتشوا أو يعتقلوا وقد كفانا الله شرهم، أو شخصٌ جلبهُ حُبُّ الإطلاع، لذلك ما سألتك عن سبب مجيئك..).

فهمتُ الآن أن (تفضّل) كانت من أجل الشاي، نعم لستُ أنا المعجب الوحيد بهذا الصرح العظيم، فالمدرسة سحرت أنظار الكثير من المعجبين.

أخبرتُ الشيخ برغبتي في التجوّل داخل المدرسة، قال لي: (نعم بالطبع تفضّل)، فقمتُ أتمشى في باحة المدرسة وأنا أنظر إلى أبواب الغُرف الرصاصية اللون وإلى الآيات القرآنية و خطب نهج البلاغة المكتوبة بخط الثلث على الكاشي الكربلائي المزخرف ذا اللون الأزرق وإلى الحوض الجميل في وسط الباحة وإلى فتحات الهواء على أرضها، التي تُخبرك عن وجود سرداب جميل تحتها، طلبتُ من الشيخ النزول إلى السرداب فلم يمانع.

نزلنا وقد فاجئني جمال منظر تلك السراديب التأريخية المُبناة بأروع مما تصوّرت، نعم سراديب وليس سرداباً واحداً وكأنها تعود للعصر العباسي، سقوفها قوسية الشكل مبنية ومزخرفة بالآجر الفارسي القديم، ثلاثة طوابق مقسمة إلى عدّة أقسام تحتوي كلٌ منها على بادجير -فتحات لدخول الهواء بالفارسية- وسردابٌ أخير يسمى بالسن يُستعمل كالثلاجة لحفظ الطعام، فسراديب النجف تختلف عن باقي سراديب العالم، إنها باردة في الصيف ودافئة في الشتاء؛ وفي داخل السن بئر عميق يُستعمل للغسل والشرب آنذاك، انتهينا من السراديب صعدت معه إلى الطابق العلوي الذي يحتوي على غُرفٍ ومكتبة كبيرة، طلبت منه الدخول للمكتبة، لكنه اعتذر عن ذلك لما تحتويه من مخطوطات قيّمة وقديمة تعود بعضها إلى ما قبل 400 سنة!.. صعدنا إلى السطح، لن أنسى ذلك المنظر الجميل الرائع لمرقد وصي رسول الله (ص) فكأنّ المدرسة داخل الصحن الحيدري الشريف لقرب القبة الذهبية إلى الناظر..

عدنا لنجلس على الأريكة، فطلبت من الشيخ أن يشرح لي تفاصيل أكثر عن المدرسة وعن مؤسسيها ومديريها وانتماءاتها ، وفعلاً لم يُقصر فبدأ بالشرح:

تأسست المدرسة عام1387هـ أي 1967 بالميلادية.. أسسها آية الله السيد علي شُبّر الحسيني (عالم الكويت آنذاك) المتوفى عام 1972 وهو من أسرة آل شُبّر العلمية العربية العريقة التي ينتهي نسبها إلى الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، بعد تأسيسها كلّف ولده الأكبر الشهيد الخطيب الحسيني الشهير السيد جواد شُبّر ليكون متولياً شرعياً لها ومن بعده لذرية السيد جواد الأصلح فالأصلح وهكذا وللذكور دون الإناث، مساحة المدرسة 700 متر مربع. تتكون من طابقين (عدا السراديب) ومطبخين كبيرين ودورتان للمياه الصرف الصحي وأربعة حمامات و 43 غُرفة لمبيت طلبة العلوم الدينية الوافدين إلى النجف الأشرف. وتحوي على ساحة مكشوفة يتوسطها حوض ماءٍ بمقدار الكُر وعلى يمينه صالة للدراسة والمحاضرات وصلوات الجماعة، وفوق الصالة بالضبط مكتبة تحتوي على ما يقارب 10000 كتاب ومخطوط، كما أن تحت المدرسة ثلاثة سراديب واحداً تحت الآخر وبئر ماء عمقه ما يقارب 30 متراً.

في رمضان عام 1982، اعتُقل السيد جواد شبر -متولي المدرسة- من قبل أزلام النظام المُباد من داخل المدرسة الشبرية ومن السطح تحديداً، اختفى أثره منذ ذلك الحين وتبين في ما بعد أنه اُعدم، لكن دون تسليم الجُثة أو تحديد يوم أو شهر أو سنة الوفاة، كما هو حال الكثير من شهداء العراق.

حسب وقفية المدرسة الشُبّرية -كما ذُكر- فإن المتولي عليها يكون من ولد السيد جواد، الذين اعدم النظام أثنين منهم وهرب الثلاثة الآخرين إلى خارج العراق، بقيت المدرسة مغلقة من قبل الأمن الصدامي إلى أن افتتحها الشهيد الصدر الثاني وقام بتغيير عنوانها خشية النظام فأصبحت مدرسة الإمام الصادق (ع) وبقيت تحت إشراف الصدر حتى استشهاده، وبعد استشهاد الصدر بقيت بيد أتباعه، فتارة بيد الشيخ محمد اليعقوبي -أبرز تلامذة الصدر الثاني- وأخرى بيد ولده، السيد مقتدى الصدر.

وحتى سقوط النظام بقيت بيد السيد مقتدى إلى أن سلّم المدارس إلى المرجع السيد كاظم الحائري -الموصّى به من قبل والده- فأصبحت المدرسة تحت إشراف مكتب الحائري، لكن حان دور استرجاع الإرث الكبير، فجاء الابن الأصغر للسيد جواد شبر، السيد أمين شُبّر وأعاد المدرسة إلى الأسرة، فاتفقت الأسرة على السيد أمين متولياً كونه الرجل الدين الوحيد من ذرية والده، فاستلم السيد أمين تولية المدرسة، وبدأ في إعادة تأهيلها لما كانت عليه في عهد والده وأعاد شروط الوقفية الشرعية التي تتكون من 14 فقرة كتبها جده المؤسس آية الله السيد علي شبر والتي اُهملت بعد غياب الشهيد السيد جواد، وأعاد نظام الصلوات الجماعة والندوات الأسبوعية، لكن بعض الطلبة لم يروق لهم نظام المدرسة الأصلي، فتركوها.

بقيت المدرسة مستقلة ينتمي إليها ثلة من طلبة العلم الجادين المؤمنين الذين تركوا أهاليهم ليُصبحوا علماء وخطباء، ليذكرهم التأريخ يوماً ما، كما ذكر الماضين من المدرسة الشُبّرية..

ارتفع صوت المؤذن العذب ليُخبرنا: (حان وقتُ فريضة الظُهر).. لم أشعر بالوقت لتلك اللذة - لذة المكان ولذة الكلام - التي حُرمتُ منها سنواتٍ طوال.

استأذنت من الشيخ لأتوضأ من ماء الحوض، فتوضأت بمائه البارد الزلال وذهبنا سوياً لأداء عمود الدين الصلاة.

بعد إكمال الصلاة استأذنت الشيخ مودعاً إياه شاكراً له حسن الضيافة وطيب الكلام.

ويا ترى هل يكون لقاء آخر في المستقبل ؟؟ ... أو هذا أول لقاء، وآخر لقاء...؟!.

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
نواف الخالدي
2011-04-17
بسم الله الرحمن الرحيم تحياتي للكاتب المبدع السيد محمد.. لديك حس تجسيدي قوي وأتمنى لك المزيد من النجاح
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك